السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

كارلوس ليسكانتو يتأمل بعمق في العلاقة بين الكاتب والآخر

5 أغسطس 2013 00:48
من خلال بوح شفاف ومرتهن للحظة الانكشاف على الذات، ومراجعة الذاكرة على ضفتي الزمان والمكان، يعمل الكاتب الأورغوياني كارلوس ليسكانو من خلال كتابه الأقرب للسرد التأملي والمعنون بـ «الكاتب والآخر» ــ على استعادة العزلة والعذاب ومصارعة الموت متسائلا عن ماهية الكتابة وجدواها لديه (كإنسان) ولدى آخره (ككاتب) شارحا بعض الإستراتيجيات في صراعه مع هذا الآخر، أو مع قرينه الذي يمتلك في الوقت ذاته هوية خاصة غير قابلة للتحول. وهذا الكتاب الصادر عن مشروع كلمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، والذي تم تقسيم محتوياته على تسع وثمانين مفكرة ذاتية، يندرج ضمن تقليد أدبي راسخ في الثقافة الغربية يجعل من استحالة الكتابة موضوعا للتأمل، غير أن تجربة المؤلف الاستثنائية وذكاء التحليل وروعة الأسلوب وخصوصية اللغة تمنح ــ كما يرد في الغلاف الأخير للكتاب ــ هذا العمل الأدبي النادر طابعا فريدا وقدرة فائقة على التأثير. وتذكر أستاذة الأدب والنقد الأورغوانية كارينا بليكسن في مقدمة الكتاب، أن موهبة ليسكانو الأدبية ولدت عندما كان في السجن في العام 1981، حين كان منكبّا وبشكل محموم وفي اثنتي عشرة ساعة يوميا على كتابه «قصر الطاغية»، مشيرة إلى أن عزمه على أن يكون كاتبا في ظروف مثل تلك قد تغذّي على قرار جذري، بأن يكون حرّا، وهو قرار مقدّم على التزامه السياسي مضيفة إلى أنه في السجن، انبثقت لدى ليسكانو إرادة صلبة في ألا يعيش الحياة التي أعدت له سلفا، وكان ضروريا أن يتأمل نفسه ويهدمها، كي يبدأ من جديد، لذلك ابتكر ما سماه: «الآخر»، أو الكاتب ــ الشخصية، الذي يسير في العموم عكس اتجاه الحياة، فهو يغذّي متطلبات خاصة به، إنه يصنع من حياته الخاصة آخر طفيليا، باحثا، أرِقا، غير مكتفٍ أبدا، شخصا غير قادر على الاعتراف بنعمة الأشياء الصغيرة، وتؤكد بليكسن في مقدمة الكتاب على أن عملية اكتشاف أو ابتكار الآخر لدى ليسكانو هي عملية شاقة لأنها تتطلب وعيا حادا بالذات وتقييما للأفعال الشخصية يصل حدّ الهوس في سبيل العثور على فلسفة المؤقت والعابر. وتصف بليكسن أدب ليسكانو بأنه أقرب للشكل الراديكالي من «اللا قبول» الذي يقوده إلى بناء نفسه من جديد، مرة بعد مرة، إلى أن يتضاعف، وتضيف «لقد ابتكر ليسكانو لغة، وطريقة، وحساسية خاصة في سرده، وشعره، وأعماله المسرحية ومقالاته، فهو مشغول بهذا الفضاء التخيلي، والاستيهامي، والشبحي، ومنصت بدقة للأصوات المحبوسة، ومبتكر الغياب، بحيث يمكن قراءة نصوصه بوصفها كتابة حول استحالة إنهاء رواية. وتوضح الناقدة أن عمل ليسكانو في كتابه «الكاتب والآخر» يكشف عن خطوط التقاء متعددة، فهو يتقاطع مع عمل كاتب مهم مثل فيليسبيرو هيرناندز في إرادته أن يكتب، لا عمّا يعرفه، وإنما عن «الآخر» كما يقول الراوي في رواية «أيام كليمينتي كولينغ» عندما يشاركه الوعي بخطر ملامسة الجنون خلال الكتابة، في ليالي : «المياه الراكدة» عند ليسكانو ــ كما تشير الناقدة ــ هي نبع ومستنقع حيث يمكن الغرق، ومن جهة أخرى يتكرر غير مرّة التعبير: «تلك هي الليلة» وهو إشارة احتفاء أخرى جديدة بقصة «البئر» لخوان كارلوس أونيتي ورواية: «رحلة إلى آخر الليل» للويس فرديناند سيلين. وفي ختام تقديمها للكتاب ترى الناقدة بليكسن أن ليسكانو يستعيد بهذا العمل المنتمي لمرحلة النضج، جذوره، وخساراته، ومحطات إعجابه، وصراعه الشاق ضد الموت، وسينتهي ذلك بأن يكون انتصارا للحياة جزئيا ومؤقتا، وتستطرد: «إن ليسكانو ينطلق من العدم والصمت كي يصل إلى الكلمة، علّه يبلغ ذروة الإيمان مع كل واحد من كتبه التي ألّفها». وفي إحدى شذراته أو تأملاته العميقة في ثنايا هذا الكتاب والتي تمزج بين السرد الحذر والكثافة الإيحائية يقول ليسكانو: «ثمة صعوبة في أن أكتب ــ أكثر مما كان عليه الأمر قبل عشرين عاما ــ بلا اندفاع أو رغبة ودون البراءة التي كنت أكتب بها فيما مضى، أو دون الإيمان والعنف اللذين كانا يحركانني سابقا، أكرر نفسي، أعود إلى الأشياء ذاتها، أعود أغزل الخيوط من جديد، مسجون، لا أعرف كيف أخرج من التكرار. أقول لنفسي إن الطريقة الوحيدة للخروج، ليست أن أفكر، بل أن أكتب، أن أكتب ما يجري لي، كيف جرت الأمور، فليست المشكلة هي الأدب، بل الحياة، لكي أهرب من التأمل المتواصل، لا سبيل سوى السخرية، والدعابة، إنها المنطقة الغامضة دوما، فحين تضيع طريدة التأمل، لا يقود التأمل إلى أي مكان، لذا يجب هدم كل شيء، عبر السخرية، لكن المطاردة لا تنتهي أبدا، لأن السخرية تصبح هي الهدف، يجب أن تستأصل كل النوايا الطيبة التي كانت عندك ذات يوم، ومن جذورها، وتدمير أية نية طيبة... إنها السخرية من السخرية»!! وعن عودته إلى بلده الأورغواي بعد غياب طويل احتشد بالكثير من محطات الاغتراب والغرابة الوجودية يقول ليسكانو في إحدى مفكراته الباذخة بالمكاشفات والصدمات: «في ذلك اليوم، في ستوكهولم، حين قررت العودة إلى الأورغواي، تغيرت حياتي، أو أن حياتي عادت لتتغير من جديد، جذريا، كما كان قد حدث ثلاث مرات أو أربع من قبل، كأنني كنت محكوما بأن أهدم كل عشرة أعوام ما كنت قد بنيته، مثل مهووس يصرّ على أن يبدأ، بين وقت وآخر، حياة جديدة». ويضيف: «إن مونتفيديو هي المكان الوحيد في العالم الذي لا أكون فيه غريبا، هنا لا أحد يسألني من أين أنا، وماذا أفعل، هنا أعيش عن ظهر قلب، لست في حاجة لأن أشرح مرجعيات الماضي أو التاريخ، أو الثقافة، لأنه ماضي أصدقائي وثقافتهم وتاريخهم». يشار إلى أن الكاتب كارلوس ليسكانو يعد أحد أبرز أدباء أورغواي المعاصرين، ولد في العاصمة مونتفيديو عام 1949 ويكتب القصة والشعر والرواية والمسرح والمقال الصحفي، حاز العديد من الجوائز ، منها جائزة الجمهور في مهرجان لييجا 2008، وجائزة المسرح عن وزارة الثقافة عام 2002 وقدمت نصوصه على مسارح الأورغواي والسويد وكندا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وترجمت رواياته إلى عدة لغات أوروبية، وغالبا ما يقارنه النقاد بالكاتب الكبير أوسكار أونيتي.
المصدر: الشارقة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©