الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البياتي في سوق القرية

البياتي في سوق القرية
4 نوفمبر 2010 10:19
انشغل البياتي في دواوينه الأولى بعرض مشاهد بصرية يجمع بينها في قصيدته تلقائياً ليشكل صورة أو لوحة تسرد مضمونها دون حضور الشاعر فيها ولا يظهر له وجود إلا في ترتيب جزئياتها ليوحي بما يريد قوله عبر دلالتها المستخلصة من تجميع تلك المشاهد أو اللقطات. ومن أبرز تلك القصائد ذات التجميع المشهدي والتقطيع واللصق بالمونتاج الحر قصيدته “سوق القرية” التي نشرها البياتي في ديوانه الثاني “أباريق مهشمة” عام 1954، مؤكدا فيها من جهة المضمون منهجه الاجتماعي المنتصر للعدالة المفقودة، والانحياز للفقراء، والبحث عن البؤر الموضوعية الدالّة والمؤثرة للتماس مع تلك القيم الثورية التقدمية التي كانت تعد من أدبيات الفكر الشعري في الخمسينيات العربية. د. حاتم الصكَر كان البياتي يعرضها بأسلوب يتماهى مع الغرض الاجتماعي الثوري للقصيدة التي لا تتخفى وراء رمز أو أسطورة أو عبارة غامضة وبناء فني متين، معتمدا ـ ومتعمداً ـ السهولة والانسيابية في تلك التداعيات، مشدداً على التزام التقفية والأبيات القصيرة ما يجعل حصيلتها النهائية شعبوية أو جماهيرية، وتداولها على مستوى التلقي ممكناً ويسيراً. مسرحَة الفقر والألم وجد البياتي في القرية مكاناً نموذجياً للتمثيل على الظلم والفقر وبؤس البشر، ومسرحة أو أفلمة الفكرة الاجتماعية بجدارة، لما تضمه من مفردات ذات دلالات قوية الإيحاء بالظلم والفقر والتخلف والألم البشري، فأخذ سوقها مثالا يجمع في فضائه تلك المشاهد المؤثرة، وليهجو المدينة في إحدى الموتيفات المصوِّرة لعائدين منها يصفونها بالوحش الضرير! فكانت القصيدة كما وصفها إحسان عباس في “اتجاهات الشعر العربي المعاصر”: “..تجربة جريئة ونتاج تيارات مختلفة.. توازي بين المنظور والمسموع” كما رصد ما فيها من “ابتعاد عن الذات، وحركة جماعية.. فهي ترسم دون أن تنتقد.. محض صورة للسوق في فترة زمنية محددة بين نشاط السوق وإقفاره..”. والغريب أن إحسان عباس المنحاز لحداثة شعر البياتي ولريادته الفنية كما سنرى، يؤشر كثيرا من المؤثرات الفاعلة في صياغة هذه القصيدة: لغتها وتراكيبها وصورها، كمذهب الصوَريين الإيماجيين، وتصور إليوت لحيادية الشاعر، والاتكاء على التراث في الأقوال والأمثال، لكنه لا يقف عند تأثر البياتي الجليّ بقصيدة للسياب كتبها عام 1948 هي “في السوق القديم” نشرها في ديوانه “أساطير”، فالعنوان واحد باستثناء الظرفية في عنوان السياب (في) ووصف السوق بالقديم، بينما يكتفي البياتي بسوق القرية عنوانا ليلائم غرضه من رسمه وعرض جزئياته وعناصره بحياد ودون تعليق، وكأنه يقول للقارئ هذا هو سوق القرية معروضا عبر تلك الجزئيات الملتقطة بطريقة ما يسميه السرديون وجهة نظر عين الطائر الذي يكتفي بمنظر فضائي من الأعلى، وكأنه يلتقط صوراً للسوق، ثم يوكل للقارئ مهمة لململة أجزائها لاستكمال المشهد. أما تهرّبه من صفة القديم في عنوان السياب فستظهر في البيت الثاني وصفا لحذاء جندي يُعرض للبيع لكنه موصوف بأنه قديم “وحذاء جندي قديم ـ يتداول الأيدي”.. كما ستظهر في الخاتمة كِسرة من قصيدة السياب الذي يقول “لكنه الحلم الطويل/ بين التمطي والتثاؤب بين أفياء النخيل” بينما يقول البياتي خاتما قصيدته “وتثاؤُب الأكواخ في غاب النخيل”.. ولا شك أن الإشارة التي تبثها أفياء النخيل لدى السياب تُموضع السوق أو تُعيّنه مكانياً في الريف الذي يستمد منه البياتي مشاهد سوقه أيضاً. وفي القصيدتين ـ إذا واصلنا الاستقصاء ـ تشابه إيقاعي؛ فكلتاهما تستخدم تفعيلة البحر الكامل (متفاعلن متفاعلن) بتفاوت عددي في كل سطر شعري، كما أن الشاعرين يجنحان إلى التقفية المتلاحقة في الأبيات دون استرسال، وكأنهما يريدان نقل إيقاع السوق نفسه: ضاجاً بالبؤس والبضائع البالية والأصوات. وبعودة لتحليل إحسان عباس للقصيدتين سنجد من الغرابة إغفاله ذلك التأثر المباشر في قصيدة البياتي بقصيدة السياب، رغم ذِكره لاحتمالات تأثر كثيرة ليس بينها نص السياب، وكأن سوق البياتي مشيّد من عدم، ولا أثر لبناء سوق السياب فيه، بل هو يقلل من أهمية زمن كتابة نص السياب كي لا يحفظ له سبقه للبياتي، حين يذكر تاريخا (محتملا) لكتابة قصيدة السياب قائلا إنها: “غير مؤرخة، ولكنها ربما لم تتجاوز 1948” ملقيا بواسطة (ربما) ظلالا من الشك على التاريخ، فيما تحصل المفارقة حين نقرأ القصيدة في ملحق كتابه نفسه، وتحتها تاريخ محدد هو (3/11/1948) فكيف يذكر في متن كتابه أنها غير مؤرخة، ويدون في الملحق تاريخها باليوم والشهر والسنة؟ لعل ذلك جزء من خطة إحسان عباس لتسييد البياتي رائدا، كما لمّح في كتابه الخاص عنه “البياتي والشعر العراقي الحديث” وقوله هنا إن القصيدة تنقل لنا “صورة لم نألفها من قبل، وحين نقرؤها نستذكر مظاهر كثيرة كانت تجري في الشعر الأجنبي..” ومن ثم كان البياتي بحسب إحسان عباس “قد سخّر الشكل الجديد لمؤثرات خارجية مختلفة تجاوزت التحوير للمواجد الرومنطيقية الذاتية” ويرى أن البياتي أتاح للحركة الشعرية بذلك أن تعانق وجهات جديدة؛ فكان أسبق من السياب ونازك في تغيير طبيعة محتوى الشكل الجديد، وإذا كان السياب ونازك قد “اكتفيا بإلقاء حجر في ماء الشعر وسرَّهما اندياح الدوائر واتساعها” فإن البياتي بحسب الكاتب قد عمل على “تحوير مجرى الماء لسقي غراس مختلفة”. ولا صعوبة في تبين الإجحاف الذي نال السياب في هذه المقارنة، بعد إغفال أثر قصيدته في قصيدة البياتي المكتوبة بعدها بأكثر من خمس سنوات، ويكفي أن نذكر من جوانب ذلك الإجحاف إهمال تأثر السياب بالشعر الأجنبي، وتنوع مشاهد قصيدته بعناصر الرمز والأسطورة واستيعابه للواقع وتمثيله فنيا. موتيفات تحتل القصيدة سوف يتكرر اعتماد البياتي على جمع الموتيفات واللقطات البصرية وضمّها إلى بعضها في تداعيات تمتد على مساحة القصيدة، مع تطعيم القصيدة بالأمثال والحكم المضمنة بتصرف أحياناً والموضوعة بين أقواس كإشارة لاستعارتها وتنصيصها في القصيدة. وهذا ما نجده في القصيدة التي استهل بها الديوان نفسه، وأعطى عنوانها للديوان “أباريق مهشمة”: “الله والأفق المنور والعبيد/ يتحسسون قيودهم:/ لا بد للخفاش من ليل وإن طلع الصباح/ والشاة تنسى وجه راعيها العجوز/ وعلى أبيه الابن..). فالجمع بين المشاهد والتداعيات واضح في استهلال القصيدة كما في مفاصلها الأخرى التي تتردد فيها الموتيفات الملتقطة تمهيداً لاستدعاء أمثال وحكم يظهر فيها الحس النقدي الاجتماعي للبياتي، أو هفوه للحرية، وأحياناً لعرض علامات بليغة للألم تختصره أو توصل صورته بكثافة لافتة ومؤثرة. يلتقط البياتي بعين الطائر مشاهد لمفردات السوق، وهي تتخذ هيئة سينمائية مرة وتشكيلية أخرى، فهي أشبه بلوحات انطباعية أو منقولة عن البيئة وهما أمران شغلا الرسامين العراقيين المزامنين للخمسينيات والمعاصرين للبياتي، لكنها معروضة هنا في حالة اصطفافها البصري مع سواها من الملتقطات لتؤثث المشهد الأكبر للسوق أو المنظور إليه كلياً، وبين هذه الجشتالتية في احتواء السوق كليا، والغوص في تقليب مفرداته مكروسكوبيا وعن قرب، تتذبذب القصيدة مندفعة في هياج لغوي وصوري وإيقاعي يتضامن دلاليا؛ لينتج موقفا يريد الشاعر إبلاغه ولكن دون حضوره مباشرة. تلك مهمة أوكلها البياتي لنصه وراح عبر التداعيات يرصف مفردات متباينة المرجع ومختلفة النشأة: زمنية وبشرية ومادية ونفسية. يتكرر بعضها أكثر من مرة لتعميق دلالتها، ويؤطّر بعضها الآخر زمنية النص ومكانيته، وإذ نجرد المحتويات في القصيدة سنجدها متلاحقة معطوفة على بعضها لغويا، وناقصة التكملة على مستوى التركيب، إذ لا خبر يتم معناها بعد أن ذكرها البياتي كمبتدآت وأوردها في صدر جمل لا تنتهي من بعد كما أن النص يتوقف في الخاتمة فجأة، والمفردات هي: (الشمس (مرتين)، الحمر الهزيلة، الذباب (ثلاث مرات)، وحذاء جندي قديم، الأيدي، صياح ديك، قديس صغير، الحاصدون المتعبون، العائدون من المدينة، خوار أبقار، بائعة الأساور والعطور، بنادق سود، محراث، نار، حدّاد، بائعات الكرم، الحوانيت الصغيرة، الأطفال، الأفق البعيد، الأكواخ، غاب النخل) وهي جميعا ذات منبت جغرافي واحد هو الريف، وقرابة ديموغرافية بطريقة العمل وشكل الإنتاج فيه كما يعرضه سوق البياتي: حداد وحاصدون وحيوانات: ديك وأبقار وحمر موصوفة بالهزال لاستكمال البؤس، كما في عيني الحدّاد الناعستين وجفنه الدامي، وشكوى الحاصدين المتعَبين، والمهزومين من المدينة. إن تكرار الشمس والذباب مثلا ستوحي عند القراءة بتمثّل مشهد صيفي مؤذٍ يعمق الإحساس بالبؤس الذي يطال كل شيء: فثمة الحاصدون المتعَبون الذين يجد لهم مثلا محورا يصور معاناتهم (زرعوا، ولم نأكل/ ونزرع، صاغرين، فيأكلون)، والعائدون من المدينة بالخيبة التي تحيل إلى أوديب في غير التزام بأسطورته، ونسبة العمى للمدينة لا لأوديب، والوحشية لها وليس لحارس بابها (يا لها وحشا ًضرير)، صم تساهم التداعيات في ضبط خط السرد في النص فالشمس التي بدأ بها النص وكأنه يطلع بمطلعها تعتلي (كبد السماء) لتمهد للنهاية حيث يقفر السوق وحوانيته ويطارد الصغار ذباب القصيدة والسوق؛ ليصطادوه ويختفي من المشهد، كما تنام الأكواخ في غاب النخيل، وتختفي القصيدة معه في سجل الشعر العربي الجديد الذي حفظ لها في مدوناته ومختاراته ودراساته مكانة خاصة، أيا كان الرأي بطريقة تركيب صورها، أو استمداد جزئيات عالمها، واقتراض موضوعها.. وخطابها أيضا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©