الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قنصوة الغوري.. سيرة درامية تسرد صفحات من أسرار التاريخ

قنصوة الغوري.. سيرة درامية تسرد صفحات من أسرار التاريخ
5 أغسطس 2013 20:54
قنصوه الغوري هو آخر سلاطين المماليك بمصر والشام وصاحب سيرة هي بحد ذاتها تعبير صادق عن طبيعة التاريخ الدرامية فقد تولى الحكم زاهداً فيه وبعد طول رجاء من المماليك وكان قد قارب الستين من العمر وإذا به يتشبث بكرسي العرش ويطيح بكل منافسيه قبل أن يضع سليم العثماني نهاية لحياته في ساحة الحرب بمرج دابق. ولد قنصوه الجركسي الأصل عام 850 هـ «1446م» وقد باعه تاجر الرقيق بيردي الغوري فنسب إليه وامتلكه الأشرف قايتباي وأعتقه وولاه بعض وظائف الدولة ووصل لدرجة الوزارة في عهد الأشرف جان بلاط، ثم خمد ذكره مع تقدمه في السن إلى أن ساقته الأقدار لكرسي العرش في عام 906هـ «1501م». نهج المماليك أما تلك الأقدار فمفادها أن دولة المماليك وقعت تحت سطوة المماليك الجلبان وهم مماليك جلبوا للبلاد وهم بسن الشباب بعد اختطاف تجار الرقيق لهم من مزارعهم أو أفرانهم ببلاد الشركس فنشأوا على غير نهج المماليك الذين كانوا يجلبون دون سن البلوغ لتتم تربيتهم تربية دينية عسكرية، فكان هؤلاء الجلبان عنوانا على الجشع والفوضى معاً وباتوا يبتزون السلاطين وفي عام 609 هـ لم يستطع الأمراء الأقوياء حسم الخلاف حول من يتولى العرش فرأوا جرياً على عادة المماليك أن يولوا من بينهم ضعيفاً يسهل عزله ووقع اختيارهم على قنصوه المعدود بين القرانيص أي المماليك القدامى لانشغاله بشراء وسماع الطيور المغردة من ناحية ولأنه كان جسيماً ذا لحية بيضاء مدورة وتبدو عليه سمات الفخامة وأدرك قنصوه الغوري خبيئة نفوس الأمراء وهم يطلبون منه بأدب جم أن يكون سلطاناً لدولة المماليك فأبى عليهم وجروه جراً، وهو يبكي ولم يرض بأن يصبح السلطان إلا بعد أن وعدوه بألا يقتلوه وأنهم إذا ما أرادوا عزله أخبروه مسبقا وهو سيفعل عن طيب خاطر ومن فوره. أمور الحكم ولكن الرجل الهرم الضعيف استمر في حكم البلاد 15 عاماً برهن فيها على أن المماليك القدامى أقدر من الجدد على تدبير أمور الحكم فقد تربص بأكابر الأمراء حتى قمعهم وأفناهم وصفت له السلطنة بلا ممانع أو منازع. ويحسب للغوري أنه أعاد ترتيب الجيش المملوكي واعتنى بتأهيله وإن تأخر كثيراً في الاستعانة بسلاح المدفعية الحديثة بعد طول مماحكات فقهية عن شرعية القتل بالنار، كما اعتنى بالأسطول لمواجهة أطماع البرتغاليين في البحر الأحمر ونجح في الحفاظ عليه كبحيرة داخلية لسلطنة المماليك. ويحسب له أيضاً العناية بالتحصينات الحربية في مدن مملكته وصولاً إلى جدة التي أعاد بناء سورها لصد خطر البرتغاليين. فرض الضرائب ولكن البلاد في عهده فقدت مصدر دخلها الرئيس من الرسوم التي كانت تفرض على التوابل والبهار وهي في طريقها إلى أوروبا وذلك بعد نجاح فاسكو دي دجاما في اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وتحويل تجارة البهار إليه، ومن وقتها ظهرت كل سوءات الغوري كسلطان للبلاد. لجأ الغوري لتعويض إيرادات تجارة الترانزيت إلى فرض الضرائب الباهظة على رعيته وخاصة من التجار وأصحاب الأملاك وبعد أن ضج الناس بالشكوى وعدهم بأن يأخذ الضرائب مقدماً لعدة سنوات، ولكنه لم يلتزم بذلك، بل راح يحصل الضرائب سنوياً وزاد الطين بلة اقتراضه من التجار ولم يحدث لمرة واحدة أن قام السلطان الغوري بسداد ما اقترضه من أي تاجر. أمور الدولة ومع اتساع الفجوة بينه وبين الرعية انكمش الغوري في ديوانه بالقلعة وعاد لهوايته في شراء الطيور المغردة والاستمتاع بأصواتها وهي تصدح وسط حدائق الورود التي كان مغرماً أيضاً باستنشاق عبيرها، ومع تقدمه بالعمر تكاسل الغوري عن التوقيع على المنشورات بالعلامة السلطانية حتى توقفت أمور الدولة والعباد معاً وصار من المألوف أن يقوم الأمراء ورجال الإدارة بقص توقيع السلطان من الأوراق الرسمية القديمة ولصقها على الأوراق الجديدة نظير جعل مالي. وتنبه السلطان وهو يحس بقصر عمره في الحكم إلى أنه لم يشيد مسجدا يحمل اسمه شأنه في ذلك شأن بقية سلاطين المماليك، وكان المسجد بالنسبة لسلطان المماليك بمثابة مشروع يتقي به نار جهنم بعدما لقنهم الفقهاء أثناء فترة التربية الدينية أن من بنى بيتا لله في الدنيا بنى الله له قصراً في الجنة. إنجازات وسواءً نسي الفقهاء أو تغافل الغوري لم يهتم السلطان بأمر المال أو الطريقة النزيهة التي ينبغي أن يبنى بها هذا المسجد فقام بنزع ملكية مدرسة كان أحد أمراء المماليك قد أرسى دعائمها الأولى وشرع في تشييدها أو بالأدق في استكمال بنائها ولجأ بكل بساطة إلى الاستيلاء على ما كان في القاعات القريبة من موقعها من أخشاب لأبواب وشبابيك ومن رخام في الأرضيات والجدران وتوج ذلك النهب الذي أخرب عدة قاعات ومدارس كانت زاهرة عامرة بإجبار البنائين والحرفيين على العمل بأقل الأجور تارة وبلا أجر تارات أخرى فضلاً عن حثهم بفاحش القول وغليظ الأذى البدني للعمل بإخلاص لأطول الساعات. ولما كانت أرض مدرسة الغوري القائمة اليوم على يمين الداخل لشارع الغورية قد اغتصبت من صاحبها وتم الاستيلاء على مواد بنائها من مبان أقدم واستخدمت السخرة في تشييدها فقد سماها المصريون المسجد الحرام على سبيل التبكيت للسلطان، لأن كل شيء فيها أتى من الحرام. ولم يكتف السلطان بذلك بعد اطمئنانه لإتمام مدرسته في الدنيا آملاً في مقايضتها بقصر بالجنة، بل أنشأ تربة ليدفن بها في مواجهة المدرسة وزاد عليهما وكالة تجارية تعرف باسمه لليوم لتوفير إيرادات تكفي لأرباب الوظائف في مدرسته وتربته ولكن الغوري الذي قضى نحبه تحت سنابك الخيل في موقعة مرج دابق لم يقيض له أن يدفن في تربته إذ لم يعثر له على جثمان ودفن بها خلفه الأشرف طومان باي، وذلك بعد أن قام سليم العثماني بإعدامه شنقاً على باب زويلة. وللسلطان قنصوه الغوري أيضاً عدة منشآت بالشام كما أنه زود الجامع الأزهر بالمئذنة الضخمة المزدوجة الرأس الماثلة حتى اليوم، وهي أول مثال من نوعه يزود بدرجين منفصلين لصعود اثنين من المؤذنين لشرفتي الآذان بها. وقد رسم الفنان الإيطالي جنتيلي بلليني أول صورة معروفة للغوري وهو يستقبل في بلاطه سفير دولة البندقية وهي توضح من البعد السلطان جالسا على تخت الملك وقد اعتمر عمامة بيضاء كبيرة وهي الصورة الوحيدة التي رسمت عن معاينة لبلاط السلطان بقلعة الجبل. أما الصورة الثانية، فهي أيضاً لفنان إيطالي شاهد السلطان الغوري بعيني رأسه وهو الفنان باولو جيوفو، وقد رسمه بلحية بيضاء كثيفة تتصل بشاربه، وقد ارتدى قفطاناً سابغاً وفوق رأسه عمامة تم تزويدها بجوهرتين في المقدمة ليصبح شكلها اقر للتاج الملوكي. عنوان في الشجاعة كان الغوري حتى آخر لحات حياته عنواناً ناصعاً على ما تميز به المماليك من مهارة وشجاعة حربية، فقد خاض بنفسه الحرب في مرج دابق متقدماً الصفوف وكاد يوقع هزيمة نهائية بالسلطان سليم العثماني لولا خيانة جان بردي الغزالي وخاير بك عامليه على حلب وحماه وعندما سقط من على فرسه ومات تحت سنابك الخيل قام أحد عبيده بناء على توصيته فيما يبدو بفصل رأسه عن جسده ودفنه حتى لا يعرض سليم رأسه على أسنة الرماح جرياً على عادة المنتصرين آنذاك.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©