الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اليونان.. هل تصبح كبش فداء؟

اليونان.. هل تصبح كبش فداء؟
5 أغسطس 2015 23:03
في حين تمضي الأزمة اليونانية نحو مرحلتها التالية، تواجه ألمانيا، واليونان، والأطراف الأخرى الثلاثة المكونة من صندوق النقد الدولي، والبنك المركزي الأوروبي، والمفوضية الأوروبية -التي يطلق عليها «الترويكا»- انتقادات شديدة. وعلى رغم أن هناك الكثير من اللوم الذي يمكن أن يوجه لهذه الأطراف، فإننا يجب ألا يغيب عن أنظارنا ما يدور بالفعل على أرض الواقع. والحقيقة أنني أتابع الأزمة اليونانية عن كثب منذ خمسة أعوام على وجه التقريب، وأنا على تماس مباشر مع أطرافها المختلفة، وقد أمضيت الأسبوع الماضي في أثينا مستمعاً للمواطنين العاديين الكبار منهم والصغار، ومنصتاً للمسؤولين الحاليين والسابقين، وقد توصلت من خلال ما سمعته وما رأيته إلى تقييم مؤداه أن هذه الأزمة تتعلّق بأمور أكبر كثيراً من مشاكل اليونان واليورو وحدها. وبعض القوانين الأساسية المطلوب تطبيقها من قبل «الترويكا»، تتعلّق بالضرائب والنفقات، كما تتعلّق بالتوازن بين الاثنين، وبالأنظمة واللوائح التي تؤثر على أسواق بعينها، والشيء اللافت للنظر بالنسبة إلى البرنامج الجديد المسمى «المذكرة الثالثة» هو أننا لو نظرنا إليه من جانبيه، فسنجده أنه لا معنى له سواء لليونان أو الدائنين. الدرس الإندونيسي وعندما أمعنت النظر في قراءة التفاصيل، تولّد لديّ إحساس بأنني أمام حالة حدثت من قبل، فعندما كنت أشغل منصب كبير الاقتصاديين في البنك الدولي في أواخر عقد التسعينيات من القرن الماضي، رأيت في شرق آسيا الآثار المدمرة للبرامج التي يتم فرضها على الدول عندما تلجأ إلى صندوق النقد الدولي طلباً للمساعدة. وهذه الآثار المدمرة لا تنتج عن خطط التقشف فحسب، وإنما أيضاً عما يطلق عليه الإصلاحات الهيكلية، التي يطلب الصندوق من مثل تلك الدول إدخالها على اقتصاداتها حتى تتمكن من الحصول على القروض التي تطلبها من الصندوق. ولم يقتصر الصندوق على ذلك فحسب، بل كان يقيد مثل تلك الدول بمئات الشروط، بعضها معقد، وبعضها بسيط، وبعضها سليم، وبعضها خاطئ، وبعضها لا لزوم له على الإطلاق، ولكن معظمها كان يفتقد إلى التغييرات الكبيرة والفعالة، التي كانت تتطلبها الظروف السائدة. وفي عام 1998 كنت في إندونيسيا، وشاهدت كيف دمر صندوق النقد الدولي بوصفاته النظام المصرفي لتلك الدولة، التي كانت قد سلّمت سيادتها الاقتصادية للصندوق. وفي العام السابق لذلك، وتحديداً في ديسمبر 1997 كنت في العاصمة الماليزية كوالا لامبور، وحذرت من أنه سيكون هناك نزف دم في إندونيسيا خلال ستة أشهر، وبعد خمسة شهور فقط اندلعت اضطرابات واسعة النطاق في جاكرتا، وغيرها من المدن الإندونيسية، وقبل تلك الأزمة سواء في دول شرق آسيا الأخرى، ومن بعدها في دول أخرى في أفريقيا، ثم أميركا اللاتينية (وآخرها في الأرجنتين) فشلت البرامج التي اقترحها الصندوق فشلاً ذريعاً، حيث تحول الاقتصاد في تلك المناطق من الهبوط، إلى الركود، ومن الركود، إلى الكساد. أوروبا في الفخ وكنت قد اعتقدت أن الدرس المترتب على كل تلك الحالات من الفشل قد تم استيعابه جيداً، إلا أن ذلك لم يحدث على ما يبدو، وكان مفاجئاً لي في الحقيقة أن أعرف أن أوروبا، التي كانت قد بدأت مسيرتها الموحدة منذ نصف قرن، ستفرض البرنامج الصارم ذاته على إحدى دولها. وسواء تم تنفيذ البرنامج بشكل جيد أم لا، فسيقود في نظري إلى مستويات غير قابلة للاستدامة من الدَّين. فالسياسات الكلية Macro-policies المطلوبة من قبل «الترويكا»، ستقود حتماً إلى كساد يوناني أعمق، وهذا هو السبب الذي دفع «كريستين لاجارد» مديرة صندوق النقد الدولي للقول إن ثمة حاجة إلى ما يطلق عليه، من باب التخفيف «إعادة هيكلة الدَّين»، وهو ما يعني بأسلوب أو آخر شطب جزء كبير من الديون المستحقة على اليونان، وفي رأيي أن برنامج «الترويكا» غير متماسك، كما يبدو من الوهلة الأولى: فالألمان يقولون إنه لن يكون هناك أي شطب لأي جزء من الديون المستحقة على اليونان، وإن صندوق النقد الدولي يجب أن يكون جزءاً من برنامج الحل، ولكن صندوق النقد -من جانبه- لا يمكنه المشاركة في برنامج تكون مستويات الدَّين فيه غير قابلة للاستدامة، كما هو الحال مع اليونان. ثمن التقشف والحال أن سياسات التقشف تتحمل الجزء الأكبر من اللوم على حالة الكساد التي آلَ إليها الاقتصاد اليوناني حالياً. والبرنامج الجديد المقترح يزيد الضغط الواقع على تلك الدولة أكثر من ذي قبل، والمثال على ذلك هو الهدف الذي يتوخاه الصندوق والخاص بتحقيق زيادة أولية بنسبة 3,5 في الميزانية اليونانية بحلول عام 2018 -مقارنة بالمعدل الحالي البالغ 1 في المئة. فلو لم يتم تحقيق هذا الهدف، وغيره من الأهداف المحددة، وهو الأمر المتوقع، بسبب الطريقة التي صمم بها البرنامج نفسه، فإن تطبيق جرعات إضافية من التقشف سيغدو في هذه الحالة أمراً تلقائياً، فالبرنامج ينطوي على عوامل عدم استقراره داخل بنيته: فمعدل البطالة المرتفع في اليونان والذي يصل إلى 25 في المئة بشكل عام، وفي أوساط الشباب لضعف هذا المعدل، سيدفع الأجور حتماً إلى الانخفاض، وعلى ما يبدو أن «الترويكا» غير راضية عن الوتيرة التي يتم بها خفض مستويات المعيشة في اليونان، ولذلك رأينا «المذكرة الثالثة»، لا تكتفي بما طلبته في هذا الشأن، بل تطلب أيضاً ما تسميه «تحديث عملية التفاوض الجماعية» التي تعني في واقع الأمر إضعاف نقابات العمال، من خلال إحلال نظام التفاوض على المستوى الصناعي، أي على مستوى كل صناعة على حدة. الترويكا والأوليجاركية ولا شيء من ذلك ينطوي على أي معنى، ليس من منظور اليونانيين وحدهم، وإنما حتى من منظور الدائنين. صحيح أن الإصلاحات الهيكلية مطلوبة تماماً مثلما كان الأمر في إندونيسيا، إلا أن العدد المبالغ فيه من تلك الإصلاحات، ليست له علاقة، في رأينا، بمواجهة المشكلات الحقيقية التي تئن اليونان من ثقلها. والمشكلة أنه لم يتم شرح الأساس المنطقي الذي تستند إليه العديد من تلك الاصطلاحات بشكل جيد، سواء للشعب اليوناني، أو للاقتصاديين الذين يحاولون فهم تلك الإصلاحات، وفي غيبة مثل ذلك الشرح، يتولد اعتقاد ينتشر على نطاق واسع داخل اليونان مؤدّاه أن المصالح الخاصة سواء داخل البلاد أو خارجها تسعى للاستفادة من «الترويكا»، للحصول على ما لم تتمكن من الحصول عليه، من خلال عمليات «أكثر ديمقراطية»، أي من خلال الطرق الديمقراطية المعروفة. وأصحاب هذه المصالح، هم الذين قاوموا التغييرات التي حاول جورج باباندريو، رئيس الوزراء السابق، تطبيقها من أجل زيادة الشفافية، وفرض درجة أكبر من الالتزام مع بنية ضريبية أكثر جسارة كان يريد تبنّيها. وفي ظني، أن الإصلاحات المهمة التي كان يفترض أن تحدّ من نفوذ من يطلق عليهم الأوليجاركيون اليونانيون «القلة الثرية» قد تركت خارج الأجندة، وهو أمر ليس مفاجئاً ما دامت «الترويكا» بدت في بعض الأوقات، في الماضي، وكأنها تقف إلى جانبهم. أسهم تصويتية ولما كان من الواضح منذ مرحلة مبكرة من الأزمة أن المصارف اليونانية ستضطر إلى القيام بعملية «إعادة رسملة» حتمية، فقد كان من المنطقي، والحال هكذا، أن تطالب الحكومة اليونانية بمنحها أسهماً تصويتية، أي أسهماً مميزة تعطي حاملها حق التصويت في الجمعية العمومية. وكان ذلك إجراءً ضرورياً لضمان أن عملية الإقراض المتأثرة بالنفوذ السياسي، بما في ذلك توقف القروض التي كانت تمنح لوسائل الإعلام المملوكة للأوليجاركية اليونانية، ولكن ما حدث في الواقع، هو أنه عندما استؤنفت عملية الاقتراض التي كانت تقوم على الواسطة والعلاقات، حتى للمؤسسات الإعلامية التي كان يتعيّن لاعتبارات مالية بحتة ألا تحصل على قروض، بدت الترويكا وكأنها لا تهتم بما يدور حولها، كما أن «الترويكا» لم تحرّك ساكناً أيضاً عندما تم تقديم مقترحات لسحب المبادرات المهمة لحكومة بابانداريو المتعلقة بالشفافية، والحكومة الإلكترونية، التي أدت إلى انخفاض دراماتيكي في أسعار الكثير من السلع المهمة. ضرائب مسبقة! وعادة ما يحذّر صندوق النقد الدولي من مخاطر الضرائب المرتفعة، ولكن ما حدث في اليونان هو أن «الترويكا» أصرت على وضع معدلات فائدة مرتفعة وتطبيقها حتى على أصحاب المداخيل بالغة التدني، وفي اقتصاد لا يعمل فيه النظام المالي بشكل جيد، ولا تمتلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة فيه فرصة للحصول على قروض، رأينا «الترويكا» تطالب الشركات اليونانية بما في ذلك المحلات العائلية الصغيرة، بدفع كل الضرائب المستحقة عليها مقدماً وفي بداية العام، حتى قبل أن تحقق تلك المحلات أية أرباح تستحق أن تدفع عنها ضرائب، بل وحتى قبل أن تعرف مقدار الدخل الذي سيدخل خزائنها. وهذا الشرط يبدو متناقضاً مع مطلب آخر من المطالب التي فُرضت على اليونان، وهو أن تبادر حكومتها بإلغاء الضريبة المفروضة من المنبع على المعاملات المالية العابرة للحدود، أي الضريبة التي تدفع مقدماً على الأموال المرسلة من اليونان إلى المستثمرين الخارجيين، ومثل هذا النوع من الضرائب يعد سمة أساسية من سمات أنظمة الضرائب الجيدة في دول مثل كندا، على سبيل المثال، كما أنه يمثل جزءاً مهماً للغاية من عملية تحصيل الضرائب. الدواء بالداء وهناك أيضاً العديد من السمات الغريبة التي تسم حُزم الإنقاذ التي تقدمها «الترويكا»، وهو ما يرجع جزئياً لأن كل عضو من أعضائها لديه دواؤه المفضل الذي يراه مناسباً لمعالجة الداء الذي تعاني منه اليونان، وكما يحرص الأطباء على التحذير دوماً، فإن تعدد الأدوية والعلاجات يمكن أن يؤدي إلى تفاعلات خطيرة تؤذي المريض أكثر مما تفيده. ومع كل ذلك فإنني أرى أن المعركة لا تتعلق باليونان وحدها، ولا حتى بالمال، على رغم أن هناك أصحاب مصالح خاصة، بعضها موجود في بقية دول أوروبا، وبعضها داخل اليونان نفسها، استغلوا «الترويكا» من أجل الدفع في اتجاه تحقيق مصالحهم، على حساب المواطنين اليونانيين العاديين، بل وعلى حساب اقتصاد البلاد برمته. وهذا شيء رأيته من قبل مراراً، وبشكل مباشر، عندما كنت أعمل في البنك الدولي، وعلى وجه الخصوص في إندونيسيا، وهو أنه عندما تبدأ الدولة في التداعي تدريجياً، فإننا نرى حينها كل أنواع الشرور التي يمكن أن تمارس ضدها، وقد انطلقت من عقالها. فخاخ الأيديولوجيا والجدال السياسي الدائر حالياً، يتعلق في نظري بالأيديولوجية، والسلطة. ونحن جميعاً نعرف ذلك، وندرك أن هذا ليس جدالاً أكاديمياً بين اليسار واليمين، فبعض اليمينيين يركزون على المعركة السياسية، أي على الشروط القاسية المفروضة على حكومة «سيريزا» اليسارية، التي يجب أن تمثل تحذيراً للجميع في أوروبا، بشأن ما يمكن أن يحدث لهم إذا ما تراجعوا عن أي التزام، والبعض الآخر يركّز على المعركة الاقتصادية، أي على الفرصة التي لاحت لفرض إطار اقتصادي على اليونان، ما كان يمكن تبنيه من قبل أي دولة أخرى في ظروف مختلفة. وصفة الفشل إنني أعتقد اعتقاداً جازماً بأن أيّاً من السياسات الجاري فرضها على اليونان لن تنجح، وأنها ستؤدي إلى كساد لا حد له، كما ستؤدي إلى مستويات غير مقبولة من البطالة، ومن عدم المساواة المتفاقمة. ولكنني أعتقد أيضاً، بنفس الدرجة من الجزم تقريباً، صواب العملية الديمقراطية، وإن الطريقة المثلى لتحقيق أي إطار يظنه المرء جيداً للاقتصاد يجب أن تكون قائمة على الإقناع، وليس على الإكراه، والمنطق السليم يناقض، بشكل كبير، ما يتم طلبه أو فرضه على اليونان، فالتقشف سيؤدي حتماً إلى الانكماش، أما الرأسمالية الإدماجية - وهي النقيض تماماً لما توفره الترويكا- فهي الطريقة الوحيدة لتحقيق رخاء مستدام يتشارك فيه الجميع. استسلام الحكومة.. ومناورات «الترويكا»! الوضع الذي نراه أمامنا الآن هو أن الحكومة اليونانية قد استسلمت، والمأمول أنه عندما يصبح نصف العقد الضائع عقداً كاملاً، وعندما تزداد المناورات السياسية قبحاً ورداءة، وتزداد الأدلة على أن السياسات التي طالبت بها قد فشلت، ربما تعود «الترويكا» إلى رشدها. إن اليونان بحاجة إلى إعادة هيكلة الديون، وإلى إصلاحات هيكلية أفضل مما تم حتى الآن، وإلى أهداف معقولة، فيما يتعلق بالزيادات الأولية في الميزانية، ولكن الاحتمال الذي قد يفوق ما عداه، مع ذلك، هو أن «الترويكا» ستفعل الشيء نفسه الذي دأبت على فعله من قبل خلال السنوات الخمس الماضية، ألا وهو الاستمرار في إلقاء اللوم على الضحية. «الترويكا» ستفعل الشيء نفسه الذي دأبت على فعله من قبل خلال السنوات الخمس الماضية، ألا وهو الاستمرار في إلقاء اللوم على الضحية *أعتقد اعتقاداً جازماً بأن أيّاً من السياسات الجاري فرضها على اليونان لن تنجح، وأنها ستؤدي إلى كساد لا حد له *الإصلاحات المهمة التي كان يفترض أن تحد من نفوذ من يسمّون بالأوليجاركيين اليونانيين «القلة الثرية» تُركت خارج الأجندة، وهو أمر ليس مفاجئاً! جوزيف ستيجلتز * أستاذ في جامعة كولومبيا حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001 ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز» ترجمة: سعيد كامل
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©