التسابق نحو التَّمَيُّز من سمات المجتمع الإسلامي المتحضر

ما من دولة متحضرة إلا وتجد فيها سباق التميز بين أفرادها ومؤسساتها، وترصد الحكومات الناجحة مبالغ كبيرة في ميزانياتها لبرامج التميز وتجري مسابقات وترصد لها الجوائز الكبيرة، ومن ذلك جائزة الشيخ خليفة للأداء الحكومي المتميز، وفيها جائزة الموظف المتميز، والإدارة المتميزة، والمشروع المتميز، والفريق المتميز، وهناك جوائز للطالب المتميز، والمدرسة المتميزة، والأسرة المتميزة، وغير ذلك، أحب أن أسلط الضوء على بعض نماذج التميز في تاريخنا الإسلامي: لقد صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمة العرب أمة متميزة، وجعل منها خير أمة أخرجت للناس، نقلهم من الشقاء إلى السعادة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الفقر إلى الغنى، جاءهم متنازعين فألف الله بين قلوبهم، ووجدهم أميين فصنعهم علماء حكماء أدباء فقهاء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء، فبنى الإنسان المتميز والمرأة المتميزة والقاضي المتميز والعامل المتميز والتاجر المتميز والفلاح المتميز التميز فالزوجة المتميزة هي التي وصفها صلى الله عليه وسلم بقوله “مَا اسْتَفَادَ الْـمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ. والزوج المتميز هو الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم “خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَِهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأََهْلِي”. والتاجر المتميز فقد قال عنه صلى الله عليه وسلم “إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا”. والعامل المتميز هو المتقن لعمله، قال صلى الله عليه وسلم: “إن العبد إذا عمل عملا أحب الله أن يتقنه”، ورب العمل المتميز هو الذي يعمل بقوله صلى الله عليه وسلم “أَعْطُوا الاَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ”. والإنسان المتميز الذي يتسابق ويتنافس في الخيرات فهذا عمر بن الخطاب أسلم على رأس أربعين مسلماً قبله فظل ينافس ويسبق حتى أعز الله به الإسلام ووصل إلى الرجل الثاني بعد أبي بكر الصديق ولم يتوقف بل ظل يسابقه وينافسه. ولكن كيف ينافسه وهو ثاني اثنين إذ هما في الغار، ولا يطرق باب فضل إلا رآه أول من يستجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ. المنافسة لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل ميدان السباق نحو التميز كما تقول الرواية التالية: قال عُمَر بْن الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالاَّ فَقُلْتُ الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَالَ فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَبْقَيْتَ لأِهْلِكَ قُلْتُ مِثْلَهُ وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لأِهْلِكَ قَالَ أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قُلْتُ وَاللَّهِ لاَ أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا”. ولم يتوقف السباق نحو التميز بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بل استمر بعد تولي أبي بكر الصديق رضي الله عنه للخلافة ففي تاريخ الخلفاء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتعاهد عجوزاً كبيرة عمياء، في بعض حواشي المدينة من الليل، فيستقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاء وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح ما أرادت. فجاءها غير مرة كلا يسبق إليها، فرصده عمر فإذا هو بأبي بكر الصديق الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة. فقال عمر: أنت هو لعمري!! وهذا نموذج آخر لامرأة متميزة خلد التاريخ ذكرها، وهي السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضوان الله عليها، وقد بشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة كما أخرج البخاري عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَشَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ؟ قَالَ (نَعَمْ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ) ولسائل أن يسأل: ما هو السر في كون البيت من قصب؟ ولعل الجواب هو أن القصب سرعان ما تحدث الضوضاء فيه وقابل للاشتعال باللهب! وإنما استحقت خديجة هذا الجزاء لأنها صنعت من بيت زوجها بيتاً لا صخب فيه ولا لهب ولا ضوضاء! بيت أساسه المودة والرحمة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فضلها حتى بعد التحاقها بالرفيق الأعلى، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ قَالَتْ فَغِرْتُ يَوْمًا فَقُلْتُ مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا قَالَ مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ. هذه المرأة الصالحة المتميزة استحقت بإيمانها ووقوفها إلى جانب زوجها أن تنال شرف التميز والتفضيل على نساء العالمين، فمن من النساء تحمل هذه الصفات النبيلة؟! د. محمد بسام الزين