الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نيفيل مورلي يرصد التاريخ القديم للتجارة وتحولاتها الكبرى

7 أغسطس 2013 01:59
جهاد هديب (دبي)- يورد كتاب «التجارة في الزمن الكلاسيكي القديم» لمؤلفه نيفيل مورلي أن للبحر وحوشه أيضا، وتبعا للأسطورة الإغريقية القديمة فإن «سكيلا» و»خاربيديس» وحشان بحريان يتقصدان التجار وسفنهم التجارية العابرة المارّة بمضيق ميسينيا، الذي يقع الآن بين جزيرة صقلية ومدينة كالابريا الإيطاليتين، وتهاجمان تلك السفن، وكان يُقال بأن العمل على تحاشي الوحش سكيلا، مثلا، يعني إيقاظ الوحش النائم قبالته. ويضيف في الميثولوجيا الإغريقية ذاتها، هناك صخرتان متقابلتان على مضيق البوسفور، هما بدورهما وحشان نائمان، وقد تغلب عليهما «ياسون» والبحارة الذين معه، وذلك بنصيحة من «فينياس»، حيث أطلق «ياسون» حمامة بين الصخرتين، لكن لم يسقط من ريشها سوى ما هو في الذيل، فدفع ذلك البحّارة إلى التجديف بقوة حيث لم يفقدوا من سفينتهم المعبأة بالبضائع الآسيوية سوى القليل من الزينة في مؤخرة السفينة. بعد ذلك توقفت الصخرتان المتلاطمتان عن الحركة والاقتراب من بعضهما بعضاً إلى الأبد. يعني هذا التصور الميثولوجي للبحر في العالم الكلاسيكي القديم، الذي غالبا ما يتحدد بحوض البحر الأبيض المتوسط في الدراسات التاريخية القديمة، أن ركوب البحر من منطقة إلى أخرى كان عسيرا في زمن من الأزمنة حتى اللاحقة منها على اختراع السفن وتراكم الخبرة بمعرفة الاتجاهات في بحر لا يعرف الاستقرار ولا الهدوء المطلق في أي فصل من فصوله وثمة على الدوام مناطق خطرة فيه ما زالت السفن تتحاشاها إلى اليوم. لكن كيف أصبحت «التجارة» ممارسة ثقافية في العالم الكلاسيكي القديم فانتقلت الأفكار والمعارف والأديان السماوية منها والدنيوية لتصير إرثا ثقافيا إنسانيا مشتركا بمرور الأزمنة؟. لا يطرح الباحث الإنجليزي نيفيل مورلي في كتابه، الصادر عن مشروع كلمة للترجمة التابع لهيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، مثل هذا التساؤل على نحو مباشر، بل هو سؤال موجود في تضاعيف الكتاب وكذلك اقتراح الإجابة عليه. ذلك أن الكتاب ينتمي إلى حقل التاريخ الاقتصادي العام أكثر من انتمائه إلى أي حقل معرفي آخر، لكن منهج البحث هنا بالإضافة إلى المصادر التي يتكئ عليها مولي في بحثه هذا يمنح القارئ فرصة أن يدرك ذلك السؤال أو يتبادر إلى ذهنه أثناء القراءة. وبما أمكن من الاختزال والتكثيف، فإن التجّار كانوا هم طلائع المستكشفين في حوض البحر الأبيض المتوسط، وهم الذين أرسوا العديد من الممارسات الاقتصادية ذات الجذر الثقافي بين الأمم وهم الذين كسروا حواجز العزلة وأقنعوا العالم بأنه من غير الممكن لأي أمة أو شعب أن يعيش هكذا كقلعة في صحراء من دون الحاجة إلى أحد. لقد بدأ الأمر، منذ زمن سابق على وجود فائض اقتصادي في أي من الأمكنة الساحلية المتوسطية. إذ كانت الأمم آنذاك لم تعرف أكثر من اقتصاد زراعي يقوم على مجتمعات زراعية جعلت شعوبها تكتفي اكتفاء ذاتيا. بما يعني أن العالم كان مغلقا آنذاك وقوم على فكرة الاستقرار وازدهار المدن بالقرب من المياه والأراضي الأصلح للزراعة. يميل مورلي إلى أن النزعة الفردية التي تملكت بعض الأفراد في مجتمعات العالم القديم الكلاسيكي قد كانت مسؤولة عن وجود بذرة في علم الجغرافيا لدى أمم تلك الأزمنة، خاصة مع التطور التقني وتراكم الخبرات في وسائل الإبحار والوصول إلى مناطق بعيدة حيث أقوام لا أحد يعرف لغتهم. كان العالم آنذاك بلا تعقيد ويواصل حياته بتأثير شديد للبيئة المحيطة بتقلباتها ومزاجها الغريب الذي لم يكن ممكنا السيطرة عليه إلا عبر المتخيّل الأسطوري. لا يطيل مورلي التأمل كثيرا في هذه المرحلة من مراحل النمو الاقتصادي في العالم، لكنه يحمّل سنوات الجفاف والقحط، التي كانت تصيب الأمم في بعض المناطق من دون غيرها، مغادرة البيئة والمجال الذي تحيا فيه والقيام بالحرب على الأمم الأخرى لأسباب اقتصادية، أوّلها الجوع، حيث لم تكن هناك فوارق كثيرة بين «أمم متحضرة» و»أمم عالم ثالث» أو عاشر لا بالمعنى الاقتصادي للكلمة ولا كذلك بالمعنى العسكري، إذ أن الفروقات كانت طفيفة. عملا أن مورلي لا يجعل من الجوع سببا وحيدا لممارسة الحرب ضد الآخرين، بل هي التقلبات التي تحدث بشكل طبيعي في إطار المجال البيئي الذي تحيا فيها أمة من الأمم. هكذا نشأت فكرة الحرب. أي من ذلك الحضور القوي من الرغبة في السيطرة على الموارد لدى أمم أخرى ونقلها من أرض الآخرين إلى أرض تخصّها، لكنّ ذلك حمل معه الكثير من الممارسات الثقافية والعادات والمعتقدات والأفكار التي من خلالها كانت الحرب تجبر أمة من الأمم المهزومة على تغيير فكرتها عن ذاتها وعن مجالها البيئي الحيوي. في تلك الأزمنة ظهر دور التجّار الذين ركبوا البحر بالاستعانة بما تركه الجغرافيون الأوائل فوصل الأغارقة إلى سواحل مصر والشام وتبادلوا معهم بضائع تخص ناس هذه السواحل وأخرى مجلوبة من آسيا وإفريقيا البعيدتين حتى عن المدخّل الجغرافي للأمم التي استوطنت شمال المتوسط وأصبحت فيما بعد أوروبا. جرى هذا الأمر ببطء شديد إنما بتعقيد أوسع عندما اكتشفت بعض الأمم مقدرتها على التحول إلى امبراطوريات، أي أنها استطاعت وفقا لمقاييس وقوانين بعينها أن تطوّر من فكرة الدولة. يفرد نيفيل مورلي الكثير من صفحاته دارسا للقى التي خلّفتها سفن غارقة أو طبقات الأرض البعيدة الغور للوصول إلى تلك المقاربات التي أدت، اقتصاديا، إلى نشوء الدول والامبراطوريات. إذ، يشير في غير فصل من فصول «التجارة في الزمن الكلاسيكي القديم» إلى الدور البارز الذي لعبه التجّار في ذلك التطوّر عبر حاجتهم إلى أسواق جديدة من الممكن فتحها بواسطة الحرب التي يدفعون هم لآلهتها ويفتدون بذلك الأرواح الذاهبة إلى «المجد والخلود»، في حين كان للتجّار أنفسهم آلهتهم التي تحميهم. ومن خلال مصادر أدبية وسياسية وفلسفية، خاصة الرومانية منها، يناقش نيفيل مورلي مسألة الأخلاق والتجارة، وتحديدا في إرث المثقف والفيلسوف ماركوس سيسيرو الذي عاصر عهد يوليوس قيصر، وكان أديبا وخطيبا ويُعرف في الترجمات العربية باسم: «شيشرون». لقد ناقش سيسيرو الحرب من وجهة نظر أخلاقية مرتبطة بالطبيعة الإنسانية مباشرة وليس بنزعة التطور الأخلاقي لدى الفرد، لكن كشف عن أن التجارة الخارجية يمكن لها أن تعرض المجتمعات للخطر مثلما يمكن أن توفر لهذه المجتمعات ذاتها الأمان والطمأنينة على الرغم من أنه أجاز، في واحدة من أمثولاته، لنبيل روماني شاب وتاجر أن يبيع الحنطة بأعلى الأسعار لأهل جزيرة رودوس التي تخيلها تعاني المجاعة كما تخيل في هذه الأمثولة مع أن ذلك النبيل يغرف بأمر سفن أخرى محملة بالحنطة تقترب الآن من سواحل رودوس. ويورد الكاتب انه في نهاية هذه الحقبة، ومع ازدهار الامبراطوريات في العالم الكلاسيكي القديم أصبحت التجارة واحدة من أساليب السيطرة على محاصيل جديدة وأساليب زراعية جديدة وموارد من خارج الإقليم، أي أصبحت التجارة الخارجية وسيلة استعمارية لإخضاع الأمم الأخرى؛ هذه الوسيلة التي تطورت إلى جوارها وسائل أخرى لمراكمة الثروة لدى الأمم مثل القرصنة والنهب والأسر في مقابل الفدية وسواها من الوسائل التي لم تكن في أصلها بعيدة عن الجذر الثقافي ذاته الذي خرجت منه التجارة الخارجية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©