الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الاتحاد» ترصد هجرة العجل البري والحمار الوحشي بين كينيا وتنزانيا

«الاتحاد» ترصد هجرة العجل البري والحمار الوحشي بين كينيا وتنزانيا
6 نوفمبر 2010 19:48
“أنا حسمت أمري... سأقف إلى جانب التماسيح ضد العجول البرية”، هذا ما قاله ستيليوس سوفيانوس مدير تحرير جريدة “تو فيما” اليونانية... بعد طول انتظار على أحد ضفاف نهر مارا في ماساي مارا في كينيا الأفريقية. أثار هذا الموقف الجدي والذي لا يحمل شيئاً من المزاح زوبعة بين الصحفيين الذين يرافقون قناة الـ”ناشيونال جيوجرافيك” العالمية بمشاركة عربية وحيدة من جريدة “الاتحاد” عبر الـ”ناشيونال جيوجرافيك أبوظبي”، في رحلة للصحفيين مع اختتام تصوير برنامجها العالمي “الهجرات العظمى” في سبع حلقات ابتداءً من ليل الأحد الساعة التاسعة بتوقيت الإمارات والثامنة بتوقيت السعودية، بالتزامن مع عرضه في كل أنحاء العالم مدبلجاً إلى اللغة العربية مع صوت الممثل السوري جمال سليمان على الـ”ناشيونال جيوجرافيك أبوظبي”. بات الموقف يتأرجح بين الجدية والمزاح إلى أن حسم من قبل ديريك وبيفيرلي جوبير من الـ”ناشيونال جيوجرافيك”، الزوجان اللذان شاركا في العمل على رصد الهجرات الكبرى للحيوانات في بحثها عن الغذاء والمحافظة على النوع، لمدة ثلاث سنوات، وهما يعملان في هذا المجال منذ ثلاثة عقود. يقول ديريك: “أمضيت وزوجتي في إحدى المرات 250 يوماً لم نر فيه كائناً بشرياً خلال عملنا”، وتضيف بيفيرلي: “ليس سهلاً عليكم الانتظار، ولكن عندما ستشهدون عبور العجول وعائلات الحمار الوحشي التي ترافقها في العادة من جهة إلى أخرى في النهر مخاطرة بحياة العديد منها التي قد تنتهي بقضمة واحدة بين فكيّ تمساح مترصد لها، ستعرفون حينها معنى هذا الترحال المستمر لعدد من الحيوانات في القارات السبع”. السائق اعتاد على مشاهدة هذا العبور، وقد توزع الصحفيون برفقة دايفيد هيملن المنتج الرئيس في قناة الـ”ناشيونال جيوجرافيك” العالمية التي عملت على إنتاج أضخم برنامج لتصوير ورصد سلوكيات الحيوانات المهاجرة، بالإضافة إلى ديريك وبيفيرلي جوبير على سيارات”الجيب” العسكرية خضراء اللون. التحف بعض الأشخاص بأغطية حمراء صوفية وفرها السائقون المعتمدون من مخيم حكومي أقمنا فيه في ماساي مارا. رصد العبور أجبرنا على الاستيقاظ الرابعة فجراً والسير في ممرات المخيم إلى ساحة المخيم بحذر؛ لأن عائلة من الأفيال أمضت ليلها متنقلة بين الخيم وبعض الخائفين من الموت تحت أقدامها الضخمة أو بضربة من خرطومها لم يصدقوا أن الخيمة تعني كتلة في الليل للأفيال ولن تقرب منها أو تدوس عليها. خمس ساعات باءت بالفشل ولم تعبر العجول البرية التي تقتات من الأعشاب الخضراء النابتة في سهول براري كينيا... تنطلق من العجول أصوات ترغمك على الضحك؛ لأن رؤية قرونها وأشكال وجوهها وحركتها توحي بأن الصوت يجب أن يكون أضخم بكثير ممّا نسمعه... أما عائلات الحمير الوحشية فتضفي على المشهد حكاية “الجميلة والوحش” في مرافقتها هذه للعجول التي يُشبّه رأسها الثور في حين وجدته أقرب لرأس الماعز الجبلي مشدوداً وممدّداً أكثر. أصوات توحي بأنها نداءات للتجمع والتوجه إلى ضفة النهر، وهذا صحيح كما يقول السائق، فتحتشد العجول ترافقها عائلات الحمار الوحشي بأعداد ضئيلة.. العجول متوزعة في البراري في خط واحد لا تحيد عنه حتى وهي تقوم برعي الأعشاب نهمة جائعة... ويبدأ صوت أقدام العجول يتصاعد مع أصواتها ويغطي أحياناً على أصواتها الضعيفة مقارنة بأحجامها وأشكالها، ويعيد الـ”رانجرز” وهم يحملون أسلحتهم لحفظ الأمن - أمن البشر القادمين في خرق لحياة البراري- تذكير السائقين ليذكرونا بدورهم بأنه غير مسموح أبداً ولا بأي شكل أن يترجل إنسان من سيارات “الجيب” أو يخوّل إليه أن بوسعه فعل ذلك وإن للحظات. “ابتعدوا” يقول أحدهم للسائقين فيعيدون تشكيل صف سياراتهم؛ لأن العجول احتشدت وربما تحتاج إلى المساحة التي كانت محتلة للعبور، وهي رسمت سابقاً عدة طرق في التراب إلى الماء على ضفة ومن الماء إلى التراب، فالحقول على الضفة الثانية. يتجمعون ويحتشدون وتنبض القلوب وتثبت أصابع اليد على الكاميرات المتطورة بعدساتها الكبيرة في انتظار العبور لالتقاط أكبر كمية من الصور لواحدة من الهجرات العظمى للحيوانات في الكرة الأرضية. ولا يبدو أن هناك تماسيح قريباً من مكان العبور في النهر، فيبتسم لنا الخبراء في المجال هيملن والزوجان جوبير تاركين لنا الفرصة لاكتشاف المفاجآت. يتكرّر المشهد أكثر من مرة... نتحضّر... نعتلي متون سيارات “الجيب”، وكلّ صحفي ومصوّر يضبط عدسته وموقعه ويوعز للبعض بخفض رؤوسهم كي لا تغطي على المشهد أو تسرق من الصورة بظلالها أطرها المخصصة للعبور. لا ملل مع إدلاء كل صحفي بمعلوماته، ومع الأسئلة التي توجه للزوجين جوبير من جيب إلى آخر... إلى أن ينصح أحدهم بالصمت، فنصمت خوفاً من أن تتردّد العجول فلا تعبر بسببنا. سابي كوس من المجر، يبدو مستكشفاً محترفاً وشغوفاً بما يجري حوله... يعبّر عن انزعاجه حين يرى العجول قد عدّلت من وضعيتها وعائدت من دون أن تعبر. “ماذا يجري بحق السماء؟ أنا لا أرى تمساحاً هنا... “. ويبدأ عدد من الصحفيين بالمشاورات وبإضفاء صفات إنسانية على العجول. بعضنا يعتقد أن حاسة العجول جعلتها تدرك أن ثمة تمساحاً متخفياً سينقضّ عليها حين تعبر، والأرجح سينقض على صغارها... وأحدهم يصرّح بأن مراقبتنا على مدى أيام لتحرّكات هذه العجول جعلته متيقّناً أنها حيوانات غبية. فلورين شبه أكيد من ذلك، أما ستيليوس سوفيانوس، فكان له شرف الإدلاء بالتصريح الخطير بعد أن بدأنا رحلتنا من العاصمة نيروبي بدموع ذرفت على مشهد من برنامج “الهجرات العظمى” حين ينقض تمساح على عجل صغير وليد وهو يعبر النهر... فقد قرّر أن العجول بالفعل غبية وجبانة، كما شعر الآخرون، واتخذ موقفاً معلناً بكل جديّة - حتى لوضحك منه البعض- أنه يقف مع التماسيح ويفضّلها على العجول الغبية. لم يكن هذا رأي ديبي القادمة من أستراليا وقد بدا عليها تآلفها مع التنوعات في الحياة الحيوانية في كينيا؛ لأن أستراليا تعجّ بها، حين شاهدت ذيل تمساح بين الأعشاب كان قد مرّ بسرعة البرق إلى جانبي وأنا في الجيب فانعقد لساني عن الكلام ولم أغتنم هذه الفرصة النادرة لتصويره. هي فرصة نادرة لي، كما رأت ديبي متمنية لو أنها كانت مكاني ورأته يتحرّك بين الأعشاب بكامله، ولكن هذا لا يعني أنها اتخذت موقفاً مؤيداً له ضدّ العجول البريّة. ولبعض الحيوانات صفات تطلق خارج إطار الغريزة ما كان يدفع بالحديث في أمسيات تحلّق فيها الصحفيون حول نار المخيم عن نظرية داروين للتطور وعن مدى صحتها وعن الاكتشافات العلمية... وصولاً إلى واقع مؤلم لدورة حياة الأرض التي يزعزعها ويهدّدها التلوث وانتشار المدن والقضاء على الحياة البرية وعلى خطورة انقراض بعض الحيوانات... وهنا يخبرنا ديريك وبيفيرلي جوبير عن مشروعهما الحالي في ملاحقة حياة نوع من النمور بات مهدداً بالانقراض.عدنا أدراجنا خائبين كما عادت العجول أدراجها وكذلك الحمير الوحشية، وراحت صحفية قادمة من تركيا تشرح لنا ما قرأته وتعمّقت به، مشيرة إلى أن الخطوط السوداء والبيضاء للحمار الوحشي هي كبصمة الإبهام عند الإنسان، فلكل حمار وحشي بصمته التي لا مثيل لها عند سواه من نوعه. ونحن في الطريق إلى المخيم وعبر جهاز اللاسلكي تلقى السائق تعليمات عن عودة احتمال العبور فقررنا العودة وبسرعة على كثبان التراب والمتعرجات غير عابئين بأي شيء سوى برؤية ما قدمنا من أجله. وأخيراً... العبور كان من الصعب الوصول إلى ضفة النهر، حيث العبور فالعدد العابر من هذه الحيوانات بالآلاف والآلاف وهي تحتشد راكضة ملبية النداء... ومن طريق فرعية غير مرصوصة لندرة استخدامها وبين الأعشاب الكثيفة سار بنا السائق المحترف فوجدنا على ضفتي النهر تماسيح تتحرّك نشطة، إذ استشعرت عبور العجول والحمير الوحشية... حان وقت الوجبة اللذيذة التي تقتصر أحياناً على قضمة واحدة - ومن دون شك هي قضمة كبيرة نسبة إلى حجم فكي التمساح- ويترك بعدها العجل المقتول ليطفو على سطح مياه النهر تنقله التيارات فتجتمع جثته بجثث أخرى في الأماكن التي يرقد فيها تيار المياه عن اندفاعاته. التفافات حول الأشجار وبين أعشاب نمت كيفما اتفق منها ذات العود القاسي ومنها اللين، كانت كفيلة بوصولنا إلى المكان... وهذه المرة تحقّق العبور... لكأن ثمة من يقرر بعد الوقوف الطويل على مقربة من مياه النهر... واختلفت آراء المراقبين من الصحفيين ووفد الـ”ناشيونال جيوجرافيك” كان يحسم الموقف... إنه الكبير والخبير بين العجول... إنها الحمير الوحشية رائعة الجمال، إلى جانب قباحة شكل العجول و”غبائها”، كما يصرّ البعض... لا، لم يكن هذا ولا ذاك، إنه قرار غريزي يتفق عليه الصف الأول لآلاف من العجول المحتشدة والمنتظرة... ومع نزول أول عجل تزدحم مياه النهر بها متدفقة كأنها ترمي بنفسها رمياً نحو الهلاك. لا تماسيح قريبة... وكن... مهلاً!!! يلتقط تمساح متوسط الحجم عجلاً صغيراً بين فكيه وينسحب به بعيداً عن نهر العجول المتدفق. إنه الثمن الأبخس الذي تدفعه هذه العجول في ترحالها الأبدي، ولذا أشار إليها معدو ومنتجو البرنامج والعاملون فيه بعبارة “خلقت لتتحرك”... تجد عجلاً يتوقف عند هذا الحدث ويدور حول نفسه فتخمّن أنها والدة العجل الذي ودّع القطيع بعد ولادته بفترة قصيرة... تمكن التمساح من الانقضاض على العنصر الأضعف... يتوقف سيل العبور وأكثر من ذلك تتراجع العجول عن ضفة النهر بعد أن عبر قسم كبير منها وبقي قسم أكبر... ومن ثم تعود وتراقب وتقترب، وهناك الحمير الوحشية تتخذ المبادرة بشكل لافت، فهي جميلة وتسير على البرّ وأجمل وهي تسبح في مياه النهر... ترفع رؤوسها بأبهة وآذانها الصغيرة توحي بتميّزها عن الحمير العادية، وتسبح من دون أن تغوص بعثية فخطواتها الأولى في المياه فيها ما يشبه قليلاً تنقل الزرافة البهيّة في ما تندفع بجنون العجول مخبطة بأقدامها المياه كمن يصارع المياه ولا يتأقلم مع ما تقدّمه من جديد يحيط بها. تتردد مجموعة من الحمير الوحشية عن اللحاق بالمجموعة الأولى التي سبقتها فيعود حمار وحشي أدراجه بعد أن قطع النهر ليقطعه عكسياً ويتوقف في الوسط ويسبح على شكل دائرة كأنه يطمئن بقية القطيع ويشجعه على العبور، وهذا ما يحصل... تتشجع بعض العجول وتتقاعس مرة أخرى ليوم ثانٍ نرصد فيها عبوراً آخر. للعجول والحمير الوحشية المرافقة رحلة لا تنتهي سنوياً ضمن خط واضح لا يتغير مع الزمن ولا تثنيه المخاطر أو التعب والجوع عن التوقف، ضمن دائرة تمر عبر كينيا فحدود تنزانيا وتنزانيا ومن ثم عودة إلى كينيا. رحلة طولها 480 كيلومتراً تتم سنوياً، حيث يعبر مرتحلاً أكثر من مليون عجل بري ومئتي ألف حمار وحشي تلاحق الأمطار الموسمية، رحلة من الصعب مقارنتها أو مقارنة سلوكيات أي حيوان بما يقوم به الإنسان الذي يرتحل ويهاجر لأسباب متنوعة ويسعى دائماً إلى التغيير، ولكن للتغيير أسسه ومنها الانتقال من التقلقل إلى الاستقرار... من الأرض الجدباء إلى ينابيع المياه... من الظلم إلى الحرية...
المصدر: كينيا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©