الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

درس حركة 17 نوفمبر

6 نوفمبر 2010 21:42
عبدالله عبيد حسن للسودانيين مع شهر نوفمبر ذكريات تاريخية لا تنسى، ففي 17 نوفمبر عام 1958 فوجئوا بـ"البيان رقم 1" على غير معهود البيانات الأولى التي تصدر عادة عن قيادات الانقلابات العسكرية العربية، وقد صيغ بلغة ونفس هادئين. ولم يسمِّ إبراهيم عبود انقلابه "ثورة" وإنما اختار تسميته، وظل مصراً على ذلك حتى أطاحت به انتفاضة أكتوبر 1964، بـ"الحركة المباركة". ولم يسق البيان الأول للحركة المباركة عبارات ثورية واتهامات جارحة في حق زعماء وقيادات الأحزاب الحاكمة والمعارضة آنذاك، ولم يعلن كالعادة منع الصحف من الصدور ومصادرتها.. ولم يعلن "البيان الأول" حل النقابات العمالية والمدنية واتحادات الطلاب والمزارعين... الخ. كان ذلك "البيان الأول" في واقع الأمر، تعبيراً عن ذهنية وعقلية ضباط القيادة الكبار الذين "سودنوا" مناصب القادة العسكريين البريطانيين الذين أسسوا ودربوا "قوة دفاع السودان" وربوا ضباطهم على روح الانضباط العسكري والابتعاد عن أي نشاط سياسي بعد التجربة المريرة بالنسبة لهم، التي واجهوها في ما يعرف بثورة عام 1924 التي شارك فيها -بل قادها- ضباط سودانيون. وفي بداية الأمر بقي الناس بين مصدق ومكذب ومندهش من قيام "الحركة المباركة" لما يعرفونه عن انضباط وحكمة قائد الجيش السوداني الفريق عبود، ولكن الأمر بدأ يتضح قليلاً عندما أصدر عبدالرحمن المهدي (زعيم الأنصار وراعي حزب الأمة) وعلي الميرغني، كلاً على حدة، بياناً بتأييد الحركة المباركة ودعوا أنصارهما لمساندة قادة 17 نوفمبر في حماية السيادة والاستقلال. وليس هدف هذا العمود طبعاً سرد ذكريات أو تجارب السودان مع أول انقلاب عسكري في تاريخه، الذي فتح، في النهاية، الأبواب مشرعة لما تلاه من انقلابات عسكرية لا تحصى.. وإنما تعود الذاكرة بالمرء عند مقدم شهر نوفمبر من كل عام، لموقف واحد لعبود فيه درس وعظة وعبرة وحكمة ربما يحتاج إليها السودان، للاستفادة منها. فقد مرت "الحركة المباركة" بأطوار متعددة شأنها شأن كل الانقلابات العسكرية.. وبفعل الحركة الداخلية أصبحت المؤسسة العسكرية سلطة عسكرية قابضة وقاسية وتحكمت في الناس والأرزاق بدعوى ضمان استقرار البلد، واستفادت من الصراع العالمي والحرب الباردة، فقد لعبت على طرفي الصراع، وأصبح التنافس بين الأميركيين والسوفييت والصين على السودان يجري علناً.. وانهالت على البلاد فيه "المعونات" من الجميع وأقام الجميع مشاريع تنموية وتعميرية، من طرق، وجسور، ومصانع للصناعات الغذائية... الخ. ولكن حركة 17 نوفمبر أخطأت في حربها في الجنوب، فحولت تمرد عام 1955 إلى حرب أهلية- دينية... وإلى جانب أسباب أخرى، فإن تفاقم الأوضاع في الجنوب وما أصبح معلوماً للرأي العام المحلي والعالمي من انتهاكات ميزت عمليات الجيش، هي مما هز أركان وقواعد نظام 17 نوفمبر حتى داخل القوات المسلحة نفسها. وتطورت الأمور إلى أن وصلت نقطة اللاعودة بانفجار ثورة أكتوبر 1964 الشعبية المدنية التي كان سلاحها الإضراب والعصيان المدني. واستناداً إلى حديث مسجل لمدير ديوان الرئاسة آنذاك، فإن الانقسام والخلافات قد وصلا إلى أن انقسم مجلس قيادة الثورة إلى فريقين: فريق يقوده القائد الفعلي للجيش، يرى مواجهة الاضطرابات الشيوعية (حسب وصفه لثورة أكتوبر الشعبية) بالقوة والعنف، بل بدأ فعلاً في تحريك قوات الجيش وإنزال بعضها إلى شوارع الخرطوم.. وفريق كان يرى أن الجيش لا يمكن أن يتحمل تاريخيّاً مسؤولية قتل المدنيين دفاعاً وتمسكاً بكراسي السلطة.. واحتد النقاش في الاجتماع الأخير لمجلس الثورة بين الفريقين والرئيس عبود صامت، ثم خرج من قاعة الاجتماع إلى الشرفة الجنوبية في القصر الجمهوري وألقى نظرة على حشود المواطنين الكثيرة وهتافاتهم تنادي بسقوط ديكتاتورية نوفمبر، وإعادة الديمقراطية للشعب، وإيقاف نزيف الدم في الجنوب.. ورأى أول شعلة نار أحرقت في الخرطوم.. والتفت إلى مدير ديوانه الذي كان إلى جانبه وسأله بعفويته المعهودة: "ماذا صنعنا ضد هؤلاء الناس.. وماذا يريدون منا"؟ ورد عليه الرجل: "يريدون سعادتك أن تتنازل عن الحكم وتعيد الأمر لهم". وقد كان، فقد دخل عبود على المجلس المجتمع الذي أوشك فريقاه أن يتعاركا وأعلن بحزم شديد.. لقد قرر المجلس والحكومة إعادة الأمر إلى أهله.. وعندما حاول بعضهم أن يتحدث أسكته بحزم قائلاً: "أنا لن أتحمل مسؤولية أن أقود الجيش في معركة ضد أهله.. وسأترك الحكم من بعد للتاريخ".
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©