الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بالصورة وبوحها.. فلسطين من الأول

بالصورة وبوحها.. فلسطين من الأول
7 أغسطس 2013 22:54
"كانت تسمى فلسطين.. صارت تسمى فلسطين"... لم أجد فاتحة للدخول على فلسطين أفضل من هذه الكلمات التي تتوفر على قدر كبير من البلاغة والحكمة ـ رغم بساطتهاـ والتي يختصر بها الرائع محمود درويش حكاية الفلسطيني في إيجاز مذهل، من دون الإخلال بالميثولوجيا وغناها، ولا بالخيال وفنياته، ولا بقدرة اللغة على وضع يدها على البعد التاريخي والعمق الحضاري الذي تستبطنه عبارة كهذه.. عبارة توجز رحلة الفلسطيني في المكان والزمان وتحققه واستمراريته بالفعل والاسم. شهيرة أحمد المعنى ذاته، يمكن العثور عليه وإن في شكل آخر، في كتاب أصدرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية حديثاً تحت عنوان: “من الأرض المقدسة إلى فلسطين” يحاول تخليص فلسطين من الخرافة وإحضارها إلى أرض الواقع، لكن من خلال بلاغة الصورة وبوحها، وبأقل قدر من الكلام/ التعليق. وهو كتاب أشبه ببحث تاريخي عكف عليه المصور الفرنسي سيرج نيجر وتقصى خلاله ملامح فلسطين الراهنة التي تروي أماكنها حكاية العذاب مع المقدس. ضوء على ضوء حين جاء المصورون القدامى، وتحديداً في القرن التاسع عشر، إلى فلسطين جاؤوا مدججين بتلك النظرة النمطية القاصرة التي لا ترى في الأرض إلا الحجر، وتقصي البشر إلى آخر المشهد. من هذا المنطلق، صور الكثيرون فلسطين أرضاً بلا سكان.. منحوا كل اهتمامهم للأبنية والأضرحة وربما للمشاهد الطبيعية غافلين عن الناس والسكان والحياة التي تجري من حولهم. في تلك الفترة (1831 ـ 1885) صور المصور الفرنسي فيليكس بونفيس فلسطين مركزاً على أماكنها المقدسة ومتتبعاً الأماكن التي لها أبعاد تاريخية وميثولوجية.. وبونفيس هذا لم يكن مجرد مصور فوتوغرافي يصور الأماكن التي فتنته بجمالها وبما تحمل من تاريخ، وإنما كان رحّالة يتنقل في أرجاء الشرق الأوسط وينقل ما يشاهده خلال 30 سنة من عمله، في صور بالأسود والأبيض.. لقد عرف الشرق جيداً، إذ كانت عائلته استقرت في لبنان وأسس فيه استوديو تصوير. بعد نحو 150 عاماً يحمل مصور فوتوغرافي فرنسي آخر، هو سيرج نيجر، المولود في سنة 1951، كاميرته وينقل عبرها الأبعاد الإنسانية في الصور التي يلتقطها، وهو أيضاً رحّالة أمضى سنوات يجول في دول المنطقة، وفي فلسطين خصوصاً، حاملاً 55 صورة أصلية كان صورها بونفيس، باحثاً عن الأمكنة الفلسطينية ذاتها لإعادة تصويرها كما هي الآن بناسها وليس فقط بحجارتها. الصور القديمة، كما الحديثة، تجول بالقارئ/ المشاهد، في أرجاء القدس العتيقة وخارج أسوار المدينة المقدسة وفي جنوب فلسطين والشريط الساحلي وشمال فلسطين على مساحة 282 صفحة من القطع الكبير تنتهي بصورة لجدار الفصل الذي أقامه الكيان الصهيوني في إشارة فصيحة إلى ما يعاني منه أصحاب الأرض في الحقيقة، على الأرض، لا في الخيال ولا في الأساطير. بالضوء وحده لا تحدث الصورة.. ولا بضغطة زر من يد حاذقة.. بالعين أولاً.. عين المصور المفكرة، العين البصيرة هي التي تمنح الصورة هويتها.. تظل الصورة نائمة حتى يأتي المصور ويوقظها.. يخرجها من الكتمان إلى العلن. عين المصور إذن لا عين الكاميرا هي ما يصنع المشهد. لكن الأمر بحاجة إلى ما هو أكثر من ذلك.. ثمة ما يجعل الصورة قصيدة مكتوبة بالضوء. يعتمد الأمر على مهارة وقدرة ومزاجية ووعي المصور في صياغة المشهد صياغة بصرية قادرة على قول ما هو جديد ومفارق، وهذا ما توفر للمصور سيرج وهو يحوك فكرته القائمة على مقارعة الصورة بالصورة أو الضوء مقتفياً أثر الضوء. لكن أي دور يمكن أن تلعبه الصورة في قضية يبدو أن الدويّ الذي فيها أكثر تعقيداً بكثير من أن يخضع لميكانيكية ـ أو حتى لعبقرية ـ اللقطات.. هنا ضباب كثيف يزيد هذا (اللغز التاريخي الآسر) على حد تعبير آرنولد توينبي إلغازاً وغموضاً، مع ذلك لا بأس من التفاؤل مع المصور الباحث الذي يطمح أن يحل السلام في الأرض التي تفتقد السلام، وأن يكون التعايش بين الجميع بديلاً للحقد والحرب والكراهية. ربما تنبع أهمية الصورة التي يلتقطها سيرج من اقترانها بالتعليقات التاريخية من جهة، ولكونها محملة بقدرة ترميزية عالية ترمي فتصيب الهدف من جهة ثانية، ولأن اليد التي تقود الكاميرا هي يد مثقفة لم تنجز بحثاً إثنياً ولا دينياً بقدر ما تهتم بأن تطلع القارئ على النتائج والتبعات التي نجمت عن تلك النظرة القاصرة للشرق، النظرة النمطية إياها، وما جرته من ويلات على الفلسطينيين باتت واضحة للعيان. ومن المؤكد أن التغيرات التي حدثت في فلسطين في القرن الماضي أكثر دراماتيكية من اي مكان آخر، بل ومن الأحداث التي شهدتها البشرية على مدى القرن العشرين. فمنذ أنشئت دولة اسرائيل لم تغير مصادرة الأرض والممتلكات، وهدم المنازل، وبناء المستوطنات، وأخيراً ضم القدس المظهر الطبيعي والوجه الديموغرافي لفلسطين وحسب، بل دمرت هذه السياسة المجتمع الفلسطيني أيضاً. ثم إن الصورة تضعنا في الحال التي كانت عليها فلسطين في الماضي، قبل أن تصبح بؤرة دائمة للتوترات والاضطرابات، وأرضاً مباحة لممارسات جيش الاحتلال ونقاط التفتيش وجدار الفصل. لكن الجديد في هذا العمل أو البحث الفني هو في أنه يضع الصورة القديمة في جوار الصورة الجديدة.. ومن شأن هذا الاقتران أن يظهر الكثير من الخافي، والمسكوت عنه بصرياً وإنسانياً في الموضوع الفلسطيني، ناهيك عن أنها تظهر بشكل جلي الاستمرارية التاريخية والاجتماعية والسياسية لفلسطين... إلى هنا ينتهي الكلام في الغايات والمقاصد ليبدأ كلام الصور... لسان الحال.. الفصيح الصورة الجيدة ترجمان لبيب، فصيح، يتقن الحديث بكل اللغات، بما فيها لغة العيون والقلوب. بالصورة وحدها يمكنك أن تؤسس موقفاً متفهماً أو متشككاً أو رافضاً، مؤيداً أو معارضاً، وبالصورة أيضاً تشكل فكرتك عن الماحوْل والماقبْل والمابعْد.. وبعيداً عن تعقيدات الجهود التنظيرية التي تسعى لفهم الصورة ضمن نظام من العلامات او الإشارات أو قراءة الصورة وتحليلها في سياق سيميوطيقي أو سيميائي، تملك الصورة من الأثر والتأثير ما يفوق في بلاغته عدة فنون مجتمعة.. هي ليست سيدة الغواية البصرية التي تسحر العين فقط.. بل لها من الفتنة ما يؤهلها لأن تأخذك من يديك وتسلمك إلى الشعور الذي تختاره لك.. تتدخْلن فيك على نحو مباغت، وحين تنتبه إلى أنها تسللت إليك لا تجد حيلة لدفعها عنك.. تدير بصرك عنها، ربما تفلح قليلاً لكن صور الوطن على نحو خاص لا يمكن الفكاك منها ولو أوتيت حكمة لقمان ما إن تباغتك حتى تسلبك نفسك.. وبمجرد أن يقع بصرك عليها تفتح في روحك جرحاً بليغاً، تماماً مثلما فعلت العيون التي في طرفها حور بذلك الشاعر العاشق المتيَّم... بالصورة تفتح ذاكرة فلسطين العتيقة... ينفتح الخيال على مصراعيه لتنهال الحكايات والقصص كما تتناثر فقاعات الصابون من فم طفلة تلهو على درج الطفولة. تسلمك إلى عالم منير بهي، تمرح بين جنباته حكايا الحنين أو تتمرجح على أراجيحه الأناشيد في أعياد بعيدة. تناولك وجوهاً نسيت أن تكبر، ظلت مؤبدة في صورتها الأولى كأن الزمان لم يزرها ولم يحل بديارها، وهي تردد مع فيروز أغنيتها التي تقرع أبواب الزمان: (سألونا وين كِنتو/ وليش ما كْبِرتو إنتو/ بنقلّن نسينا).. أجل.. أجل.. كأنها ظلت خارج الزمان وخارج نواميسه. في الصور ترحل إلى أزقة القدس العتيقة، برائحتها الفريدة غير القابلة للنسيان أو التفاوض أو التفريط. تعبرك من غير استئذان، بحزم يتركك مذهولاً عنك. تصافحك مبانيها القديمة التي تتألق في طرز معمارية متعددة؛ بيزنطية ورومانية وإسلامية وعثمانية ومملوكية فضلاً عن طابع العمارة المحلية.. تبرز في المساجد والكنائس والأضرحة وقبور الأولياء والأنبياء والمقامات والقلاع والأسوار وغير ذلك... فلسطين التي في التاريخ تسرد عليك أحداثاً جساماً مرت على رأسها.. تعرض أسماء ملوك نزلوا بها وأقوام عبروها وقادة هزموا على أبوابها، ولكل منهم لديها أثر.. فلسطين التي في الجمال تبوح لك بسر الخضرة السارحة في سهولها.. والزرقة الغافية على حواف بحيراتها وبحرها الوسيع.. والطمأنينة التي تتهدل على كرومها وبياراتها... فلسطين التي في المقدس ترسم قسماتها من خلال أبعادها التاريخية والميثولوجية، هذه بالذات قادرة بكل يسر على أن تفتح لك الجنة والجحيم في الآن نفسه.. أن تأخذك في حضنها الفسيح مثل سماء، أو تدخلك إلى الجحيم الممدد في المشهد... وعندها تتحول الصورة إلى خنجر ينغرز بطيئاً، بطيئاً، في خاصرتك. ولا تعود مجرد وثيقة تختصر ألف كلمة، بل طعنة تختصر خمسة آلالف عام. إنها الوجع ينتصب على حيله في سخرية عجيبة يمكن أن تصيبك في الصميم. سِفْر الصورة.. سَفَرها بين زمنين أو بين حقبتين تسافر الصور. ترحل في الأسماء لتطاردها نشأة وشيوعاً. تحلّ ضيفة على المسجد الأقصى لتستمع منه إلى ظروف النشأة والتأسيس. ربما تسمع حفيف الملائكة الذين تقول المرويات أنهم بنوه مع سيدنا آدم عليه السلام. تتموضع على مرقد أو تعلو ضريحاً أو تنحفر على جدار كنيسة أو تبرق تحت ضوء قنديل نسي المعنيون به أي يرسلوا إليه بزيت يسرج فيه. ترحل مع الصور التي تقول لك تاريخ المدينة القديم وواقعها الراهن.. القدس التي بنيت ودمرت أكثر من مرة باسم الله هي نموذج مثالي لإبراز التداخل الكبير بين الدين والسياسة كما يقول سيرج. تدخل معها الى القدس العتيقة، داخل الأسوار التي بنيت لحماية المدينة والدفاع عنها، والتي لا تفلح في حمايتها من الألم الحالي رغم نجاحها في منح المدينة مظهر القداسة والروحانية التي تتميز بهما. الأسوار التي تبث إليك رسائل كثيرة تضم سبعة أبواب ما تزال إلى الآن تفتح مع بزوغ الشمس وتغلق مع غروبها. الأسوار تبدو في الصورة جميلة إلى حد موجع. رصدت جمالياتها المعمارية ونقوشها والأشكال المحفورة عليها، وأقواسها، وزخارفها، وحجارتها العتيقة التي تروي ما مرّ على رأسها من محن وملمات. ينتصب باب دمشق أو باب العمود، الباب الأشهر للمدينة، أمام عينيك، وقبل أن تشرع في تأمل جماليات الزخرفة التي تزينه تطالعك كلمات الشاعرة فدوى طوقان التي وصفت حال القدس في قصيدة طويلة اقتطف منها الشاعر هذه الأبيات ليضعها في مقابل الصورة: يا سيد، يا مجد الأكوان في عيدك تصلب هذا العام أفراح القدس صمتت في عيدك يا سيّد كلّ الأجراس من ألفي عام لم تصمت في عيدك إلا هذا العام فقباب الأجراس حدادٌ وسوادٌ ملتفٌ بسواد ??? القدس على درب الآلام تجلد تحت صليب المحنة تنزف تحت يد الجلاّد والعالم قلبٌ منغلقٌ دون المأساة هذا اللامكترث الجامد يا سيد انطفأت فيه عين الشمس فضلّ وتاه لم يرفع في المحنة شمعة لم يذرف حتى دمعة تغسل في القدس الأحزان يقع باب العمود في المدخل الشمالي القديم، وهو نموذج رائع يجسد العمارة العثمانية بزخارفها الكثيرة، وحجارتها الكبيرة المزينة بالحفائر والنقوش، والأعمدة العريضة التي تعكس نمط فترة الموزاييك التي اشتهرت بها مدينة مأدبا الأردنية في القرن الرابع قبل الميلاد، ولهذا السبب سمي الباب بهذا الاسم. ومن باب العمود الى باب الاسباط ويسمى أيضاً باب الأردن تواصل الكاميرا سرد روح المكان وناسه. يعرف هذا الباب باسم شارع ستيفان بالنسبة للمسيحيين الذين يأتون من خارج فلسطين، أما مسيحيو فلسطين فيسمونه باب العذراء أو باب ستي مريم. في باب صهيون الذي يحمل اسم جبل صهيون يمكن للمرء أن يرى سمات العمارة العثمانية التي تتميز بالأقواس المحفورة، وزخارفها وأنواطها المعمارية تتوالى الصور لترصد الأبواب الأخرى في لقطات متنوعة، من زوايا متعددة، ومنها: الباب الذهبي التي تقول بعض المصادر التاريخية أنه بني في القرن السادس قبل الميلاد.. فيما تظهر في الصفحة المقابلة صورة حديثة يظهر فيها حاجز إسرائيلي تجمع الفلسطينيون أمامه في انتظار السماح لهم بالعبور.. ويثور السؤال الذي يسعى سيرج إلى إثارته: لماذا يحدث ذلك؟ إلى باب يافا أو باب الخليل تأخذك الصور، لتقترن مع مدينة الخليل التي تشهد واقعاً مماثلاً، وهي مدينة خليل الله إبراهيم التي تأتي في المرتبة الثانية بعد القدس من حيث المكانة الدينية والقداسة بالنسبة للفلسطينيين. في الجانب الغربي من القدس تقع القلعة التي أنشئت هي الأخرى لحماية المدينة، وهي مبنية على الطراز المملوكي في العمارة، وتحتوي على ثلاثة أبراج أطولها يبلغ طوله 45 متراً. تتواتر عدة صور قديمة لحائط البراق (يستخدم سيرج اسم حائط المبكى) مشيراً إلى أنه ظل قروناً يحمل هذا الاسم وأنه بني في القرن 20 قبل الميلاد، وأنه دمر أثناء الغزو الروماني للمدينة في العام 70 بعد الميلاد. وفي واحدة من الصور الجديدة التي تم دمجها بالقديمة يظهر الفارق بين المتدينين اليهود السابقين والحاليين، من حيث نمط الملابس الذي صار أوروبياً فيما كان القدامى يرتدون الملابس العربية. لقد بدأت الأزمة في وقت مبكر. يقول هنري ميلر: “لم يكن الكل يبحثون عن الماء ليستقروا بقربه. كان هناك من يبحث عن الخلاص. داخل الجسد استقر ذلك اللغز اللامرئي، الروح أو أي شيء آخر. قلنا من يضرم النار في الروح التي كانت ترتعش من شدة الصقيع؟. ثمة من نقل الصورة بصورة مختلفة، حدث حريق في الروح، في الشرق الأوسط تعثر على مفردات لم تألفها كثيراً. لا أتصور أن الحياة تصنع هكذا، لقد وضعت روايات عدة حول العدالة الخارقة والجور الخارق، لكنني لم أستطع أن أفهم أحداً في تلك المنطقة. إنهم يمارسون عدميتهم سواء من خلال المضغ السيزيفي للنص أو من خلال الفرار الى ما وراء الحائط. لا شيء هناك سوى الهجرة البعيدة. لا يمكنني أن أتخيل ردة الفعل حين أطرح مثل هذا التساؤل: هل هناك من مبرر لكي يكون الموت هو أرض الميعاد؟ لا تظنوا أنني أطرح السؤال إيغالاً في الفانتازيا اللاهوتية، لقد طرحته لأنني لا أصدق أنه هكذا يمكن أن يعيش بشر، هل يفترض أن يكون العرب واليهود كائنات أخرى لكي تجد مقاعد تجلس فوقها وتعقد هذه الصفقة التي تدعى الحياة”. يقول سيرج ما يقوله هنري ميلر بطريقة أخرى: مدينة القدس دمرت مرات عديدة، ولم يبق شيء من مبانيها القديمة، ويؤكد على حضور الديانات السماوية الثلاث على أرضها، وتعايشها معاً بالإضافة الى الأرمن قبل أن تفسد السياسة علاقة الجوار التي كانت قائمة. وعلى لسان مدينة القدس والفلسطيني يكتب: “أنا مدينة فلسطينية أحمل بين يدي ثلاثة أنبياء، ويمكن للمرء أن يعد مئات الأتباع والتلاميذ لهم. أنا لست واحدة. المسيح يخصني تماماً كما يخصني يعقوب ومحمد. كل أسمائهم هي حجارة القدس. وأنا كفلسطيني أشعر أن القدس هي أنا. كل الرسل والأنبياء الذين عبروا أو مروا من هنا هم جزء من ثقافتي وتاريخي وحضارتي”. تسقط العين على قباب المسجد الأقصى. هذا منبر صلاح الدين الذي يعتبر آية في الجمال الفني، هنا سبيل قايتباي، وهناك البوائك والزوايا والتكايا.. وتطل قبة الصخرة بكل جمالها الفني وزخارفها النباتية التي أبدعها الفنان المسلم، وقبتها الذهبية التي تلمع في الصورة كما لو أنها تغازل الشمس في نهار مقدسي يعبق بأصوات المؤذن وأدعية المصلين.. تقربها لك اللقطات لتمتع عينك بكل ما تنطوي عليه من جمال فني.. جمال يرهب الروح ويشعل فيها الألم بلا هوادة. بين الصورة القديمة بالأبيض والأسود والصور الحديثة بالألوان تجري مقارنة عفوية تبرز الفارق الجمالي الكبير الذي يميل لصالح الصور الجديدة فيما تحتفظ الصور القديمة بغموض ساحر ومهابة روحية كاملة. الأمر نفسه يحدث مع منبر برهان الدين، ثم سبيل قايتباي ثم... إلى درب الآلام. هذا الممر الضيق الذي يضوع بأنفاس المسيح عليه السلام، الذي سارت خطاه عليه إلى الجلجلة حسب الديانة المسيحية.. تتابع عبر الصور رحلته المضنية وآلامه النازفة والاختبار الراعد الذي قبله لتخليص البشرية. غير بعيد تواجهك قلعة أنطونيا التي بناها هرقل بين 35 و37 بعد الميلاد، ثم قوس النصر الذي بناه الإمبراطور هدريان في القرن الثاني الميلادي... ومنها إلى باب الواد، بروائحه العتيقة وظلمته التي تصعب حتى على الكافر على حد تعبير المثل الشعبي في فلسطين، وشارع القادسية بأقواسه التي تنحني بحنوٍّ عجيب على القريب والغريب ثم تقوده الى قصر هرقل. في شارع عقبة الخانكة الذي يعج بالسياح الأجانب من كل شكل ولون إلا أصحابه الفلسطينيين تبتلع غصة هائلة لا تفلح معها كل محاولاتك للتجمل بالصبر، خصوصاً وأن الصورة المقابلة هي لفتيان فلسطينيين يواجهون الجدار بصدور عارية في بلعين التي تحارب الجدار منذ سنوات لمنعه من قضم أراضيها.. ها هنا يوجد درب آلام حقيقي، يعاني عذابه الفلسطينيون كل يوم.. تحت الصورة تقرأ تعليق المصور (درب الآلام في بلعين، ابريل، 2007). أمام دير القبطية والقبر المقدس، اللذين يتوفران على جماليات معمارية وفنية هائلة، ثمة صورة مقابلة لامرأة فلسطينية تحدق في الجدار الذي رسمت عليه صورة لامرأة تحمل ابنها أو زوجها الشهيد وهي تقول: أوقفوا قتل أبنائنا، إخوتنا، أزواجنا، آبائنا. و... يتكرر المشهد نفسه في أكثر من مرة.. تتكرر الغصة.. يتكرر السؤال الموجع: لماذا؟ لعل هذا ما رمى إليه سيرج بحرصه على إظهار الجدار في أكثر من صورة.. وكلها صور معبرة، دالة، تحمل رسائلها إلى الضمير الإنساني الذي يصر على أن ينظر إلى فلسطين بعين سياحية، تأتي فلا ترى إلا المكان المقدس فيما الإنسان يعيش ظلماً هو بالتأكيد (غير مقدس). تتواتر الصور التي ترصد جماليات المعمار التي تتميز به الكنائس الفلسطينية: كنيسة المهد، مغارة المهد، كنيسة القيامة، الكنيسة اليونانية، الكنيسة الأميركية، الروسية، الأرمنية، معبد الملوك، مغارة إرميا، كنيسة العذراء، كنيسة الجثمانية وحديقتها، كفار الطور، قبر وادي قدرون، قبر أبشالوم، ثم... رام الله، سلوان، بركة سلوان وغيرها كثير.. جنوباً إلى فلسطين تمر العين على عين كارم، عمواس، العيزرية، بيتونيا، بيت لحم، بيت ساحور، برك سليمان، دير مار سابا، الخليل، أريحا، البحر الميت وكلها تعكس جماليات المشهد الطبيعي في فلسطين. ومنها إلى الشريط الساحلي، ويا قلب لا تحزن.. لا تسأل عن يافا ولا مراكب الصيادين التي صارت أثراً بعد عين. قف على الأبواب واترك للروح أن تعبّ رحيق الذاكرة العتيقة، والزمان الجميل.. هنا البيوت، وهناك الأسواق التي لطالما شهدت نداء البائعين والتجار على اليافاويات الغاويات اللواتي يبحثن عن الحرير. هذا ميناء قيسارية التي تعيش منذ ثلاثة آلاف عام قصة غرام لا تنتهي مع البحر.. فيما جبل الكرمل يرقبها بنظرة أكثرها حب وأقلها غيرة.. نابلس بكل عراقتها التاريخية والحضارية التي جعلتها العاصمة التجارية لفلسطين ترفل في حنين أخضر.. سبسطية تتباهى بطرازها الروماني الذي يأتي إليه العشاق من كل بقاع الأرض ليشاهدوه، أما جنين فحكاية لا تنتهي عن الصمود ورغبة الحياة رغم أنف الموت والحصار.. ويا صفورية حين يسألك نهر الأردن عن أبنائك الغائبين لا تذهبي في النسيان، بل قولي إنهم عائدون حتى أولئك الذين غرقوا في النهر غداة علا صوت الكرامة.. لا تترددي في أن تخرجي كل طبريا لتزفهم إلى البلاد.. أما أنت يا خربة المجدل فلا تظلي حزينة كما في الصورة، ضعي حاشية في أسفل الزمان واكتبي عن فتية جدّلوا شعرك وطوحوا به في وجه الأقدام السوداء.. فانكفأت. ما أكبر الصورة.. مع أن الكثيرين يشعرون أن فلسطين مكان كارثي، لا يحتمل الشعر أو الكلام المنمق، فثمة في هذه الصور، ما يقول: هنا، على هذه الأرض ما يستحق الحياة. أنا من الذين لا يرون في تلك الأرض سوى الألم العظيم، ذلك الطراز النادر من الألم الذي يجعل كل شيء مراً مهما كانت حلاوته كبيرة.. لم أكن أتصور أنه يمكن أن تكون هناك عيون للكلمات، لكن صور سيرج تقول إن الكلمات يمكن أن ترى إلى مسافات بعيدة.. أن تفتح باب الماضي وتسبره بجرأة، من دون أن تخشى ذلك الشيء الذي يعوي داخل التاريخ كما يقول مايكوفسكي. لعلها النصوص التي قطعت مسافات شاسعة، وأزمنة كثيرة حتى وصلت إلينا. إنه المكان الذي تسكنه لوثة الخرافة والأسطورة والاشتباك الدائم بين المحلوم به أو المتخيل وبين الواقعي بكل فجاجته. قليلون جداً هم أولئك الذين يتقنون قراءة المقدس ويعرفون لغته.. هنا، على هذه الأرض، ترتطم الخرافة بالحقيقة، لعل سيرج واحد من هؤلاء المسكونين بالسؤال الهائل: من يحطم الآخر، الخرافة أم الحقيقة؟ أم أن كلتاهما تحطمتا لكي تحدث كل هذه التراجيديا!!. يشعر سيرج بأن هناك حاجة ملحة للتوقف عن تقديس الموتى، لمنعهم من أن يتحكموا بمصائرنا.. وهو يرى أن على المثقفين والفنانين والكتاب والشعراء والرسامين والمخرجين السينمائيين الشجعان من الطرفين: الفلسطيني والإسرائيلي، أن يأخذوا زمام الأمور بأيديهم، وأن يجدوا الطريق التي من خلالها يقودون الناس بمسؤولية الى مستقبل إنساني يحترم فيه الجميع. طموح ومفهوم من رجل يفكر بعقل غربي، سواء اتفقنا أم اختلفنا معه، لكن يُخشى أن لا يحلق أكثر مما يسمح طول الجدار.. ففي هذه الأرض لا يتوقع المرء نهايات سعيدة.. ثمة من يحول كل شيء إلى رماد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©