الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«فلاش».. انتهى

7 أغسطس 2013 23:25
قبل عام مضى دعيت لحضور احتفال يبدو لافتا للنظر من عنوانه “توزيع جوائز المسابقة العالمية للقصة القصيرة جدا”، لم أكن قد سمعت عن هذه المسابقة على الرغم من أنها تختار أفضل خمس قصص “قصيرة جدا لا تزيد عن مئة كلمة” باللغات الإسبانية والإنجليزية والعربية والعبرية، كان ذلك في قرية صغيرة قريبة من مدينة طليطلة الإسبانية التاريخية، كنت متوجسا من الدعوة لأن العربية التي اعتبرتها المسابقة لغة رابعة لا تدخل في إطار اللغات العالمية المعروفة والمعترف بها في الأمم المتحدة، ونظرا لإعجابي بفن القصة القصيرة فقد قبلت الدعوة وحضور توزيع الجوائز لأتعرف إلى نتاج هذه المسابقة. خلال توزيع الجوائز وجدتني في مواجهة مفاجأتين: الأولى أن القصة التي فازت بالجائزة الأولى كانت لسيدة إسبانية متوسطة العمر غير محترفة الكتابة ولكنها أثارت إعجاب الحاضرين وأنا من بينهم، حتى أنها دفعتني إلى ترجمة قصتها ونشرتها في ملحق “الاتحاد الثقافي” في إطار نشر خبر الجائزة، والمفاجأة الثانية كانت فوز الكاتب المصري الشاب شريف سمير بالجائزة الثالثة الذي لم أكن قد قرأت له من قبل. حاولت التعرف إليه خلال الحفل على الرغم من قصر الفترة الزمنية نظرا لوجود الحفل في قرية بعيدة، وكان يجب أن نعود إلى العاصمة الإسبانية بسرعة، إلا أن سمير شريف أرسل لي أول مجموعة قصصية تصدر له: “فقط آدم آخر”، وكانت صادرة عن النشر الإقليمي لهيئة قصور الثقافة بالإسماعيلية، وعادة ما لا يلتفت النقاد القاهريون المركزيون إلى النشر الإقليمي في مصر لأنهم يعتبرونه أقل مستوى أو أنه متاح للمبتدئين فقط وهذا خطأ فادح، وهذه المجموعة القصصية تؤكد صدق قولي. وجدت في مجموعة “فقط آدم آخر” ما أثار دهشتي وإعجابي وأعادني إلى اليوم الأول الذي قرأت فيه يحيى الطاهر عبد الله وجعلني أبحث عنه لتزداد صداقتنا وتمتد طويلا على الرغم من سفري إلى خارج مصر المبكر وأيضاً وفاة يحيى الطاهر عبدالله الأكثر تبكيرا، فقد توفي في حادث سيارة ملعون بعد أشهر قليلة من رحيلي عن مصر، وإن ظلت قصصه عالقة في الذاكرة لأنها إبداع على قيمة كبيرة لا يمكن تخطيه عند تقييم أي عمل في هذا المجال، خاصة أنه يكاد يكون أول من كتب القصة القصيرة جدا جدا التي حار النقاد في تصنيفها وقتها في فترة السبعينيات وأسماها بعضهم “القصة القصيدة”. مجموعة سمير شريف القصصية التي بين يدي وبعد قراءتها للمرة الثالثة يبدو أنها تدخل في هذا الإطار، القصة القصيرة جدا أو القصة القصيدة أو القصيدة القصصية، سمها ما شئت عزيزي القارئ ولكنها تظل قصة قصيرة بمكوناتها التي تعارف عليها النقاد مع بعض الخروج عن هذا التصنيف باعتبار أن الإبداع سابق على النقد والتصنيف، ومن هنا يصبح المجال مفتوحا للمبدع لإدخال جديد على التصنيف السابق على إبداعه. تحتوي هذه المجموعة القصصية “فقط آدم آخر” على حوالي اثنتين وثلاثين قصة، معظمها يكاد لا يتجاوز الصفحة الواحدة، ولكنها قصص مكثفة يجب قراءتها والتعامل معها كما هي كفن إبداعي ينطق بأكثر مما يتكون من كلمات وجمل ويصعب شرحها، ولو حاولت أن أشرح إحدى هذه القصص مؤكد أن شرحها سوف يستغرق صفحات وصفحات، فهي قصص لشدة كثافتها عصية على التلخيص، وإن كانت اللغة المكتوبة بها واضحة وتقدم نفسها للقارئ من دون أدنى صعوبة. تبدو قصص المجموعة بسيطة تحكي أشياء بسيطة من الحياة على درجة عالية من الكثافة والحساسية، لو تمعنا في قصة “صورناه” نجدها تكثيفا لحياة الأب كاملة في لحظة التقاط صورة له لعلها تكون ذكرى لأن الموت قريب ويطل على الأسرة بعد إصابة الأب بجلطة هدلت جانبا من فمه، القصة قصيرة تدور في لحظة محددة، التقاط صورة الأب، فالأم “تسوي الطاقية البيضاء على رأسه وياقة الجلابية... هل أبروز الصورة أم انتظر إلى ما بعد أن... فلاش” حتى الحلم ممنوع أو على الأقل ممنوع حكايته “الـ 28” بالطبع هي السيارة فيات الشهيرة التي كانت في وقت ما حلم الطبقة الوسطى في مصر، ولأن الحلم طبقي فقد كان يحلم أنه امتلكها وأجلس أمه إلى جواره وابنته في الخلف، ولكن ليقص الحلم على زوجته كان عليه أن يضعها مكان أمه في السيارة حتى تضحك كثيرا، لأنها لم تعلم أنه تخطاها في الحلم إلى أمه. في “حذاء جدي” نجد الجد حافي القدمين تؤلمانه كثيرا أثناء الصيد وجمع والتقاط الثمار كان يحلم أن تكون الأرض مثل كوخه مكسوة بالجلود من دون أن ينتبه إلى أنه يحتاج فقط لكسو قدميه بأقل من جلد حيوان واحد. بعض القصص تنحو إلى اللامعقول لكنها تعكس واقعا يجعلها واقعية على الرغم من التسميات “لذلك انتظر” الفتى الباحث عن عمل يرى كل العاملين في المكتب على هيئة غير هيئتهم الحقيقية، أو هيئتهم الفعلية بلا عمل، إنهم على هيئة العجزة غير القادرين على فعل شيء سوى الجلوس: الموظفون صما بكما، والساعي مقعد، والسكرتيرات كفيفات، فلا بد أن يكون المدير هكذا بلا أطراف”، ترى ماذا يمكن أن يفعل من يتمتع بقدرات إبداعية في مثل هذا المناخ؟ في “تبشيع” تنعكس بيئة شريف سمير البدوية، فهو من أبناء سيناء الذين كان لهم حظ التعلم، و”البشعة” قليلون يعرفون أنها أداة كشف الحقيقة في ذلك المجتمع، على الرغم من تحفظات كثيرة عليها حتى في ذلك المجتمع إلا أن مكانتها راسخة، ومهما كان المتهم بريئا فإن لحسها واحتراق اللسان بها يجعل “الشيخ يقول: مغفوف مذنب”. وإذا خرج عن نطاق ذلك المجتمع يجد أنه “الواحد أقرب إلى صفر منه إلى ثلاثة”. حتى “الغزل” لا يكون إلا من أعلى، من بعيد، مجتمع مغلق يحرم عليه غزل الفتيات فيكتفي بالنظر من الشرفة في الطابق الخامس، يرى النهود تتحرك والشعر يهفهف فلا يجد بدا من اللجوء إلى الخيال للتدلي حتى يلامس رأسه زجاج السيارة التي تفصلها عن الفتيات خطوة ليراهن بوضوح. إنها قصص تدفعك إلى التأمل والتوقف مع كل منها عبر متعة في القراءة واللغة التصويرية التي لا تبتعد كثيراً عن لغة قصيدة النثر أو القصة القصيدة، إنه كاتب متمكن من الجنس الأدبي الذي يكتب من خلاله.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©