الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نبع الواقعية السحرية

نبع الواقعية السحرية
7 أغسطس 2013 23:25
رواية “بدرو بارامو” للروائي المكسيكي خوان رولفو تستحق ما أطلقه عليها القاص والمترجم محمد إبراهيم مبروك في تقديمه لها “الكاتب الاستثناء والرواية الاستثنائية”. أما الكاتب الاستثناء فلأنه لم يكتب غير هذه الرواية، التي صدرت سنة 1955 ورغم النجاح الساحق الذي حققته، فإن المؤلف لم يكتب غيرها من الروايات، وحين سئل عن ذلك أجاب بتواضع “لست كاتباً محترفاً، إنني مجرد هاوٍ أكتب عندما تواتيني الكتابة، وعندما لا تأتي لا أقدم عليها أبداً”. كتب خوان غير هذه الرواية مجموعة قصصية وحيدة اسمها “السهم الملتهب” وصدرت قبل الرواية بعامين، أي في سنة 1953 وللدلالة على أهمية روايته “بدرو بارامو” صدرت منها ـ حتى الآن ـ 431 طبعة في 52 لغة عبر العالم، حتى سنة 2010 أي بمتوسط عشر طبعات في السنة الواحدة، وقال عنها بورخيس “إن بدرو بارامو واحدة من أفضل الروايات في الأدب الإسباني، بل والأدب العالمي كله. اما كارلوس فوينتس فذكر انها افضل رواية مكسيكية على الإطلاق. أما جابرييل جارسيا ماركيز الحائز جائزة نوبل في الأدب فإن هذه الرواية هي التي قادته إلى الواقعية السحرية وكتابة روايته المهمة “مئة عام من العزلة”، حكى ماركيز أنه كان يمر بأزمة أدبية، ان صحت التسمية، لم يكن قد اصدر غير “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه”.. ورواية “جنازة الأم الكبيرة”، وتوقف شاعرا بأنه لم يعد لديه ما يقدمه، وانه وصل إلى نهاية الطريق، شيء مثل ذلك الذي مر به من قبل نجيب محفوظ بعد الانتهاء من الثلاثية في أبريل 1952، وسافر ماركيز إلى المكسيك مشاركا في مؤتمر أدبي ومر عليه ذات ليلة صديقه الكاتب الكولومبي موتيس حاملا معه مجموعة من الكتب، قدم له أصغرها قائلا: “خذ هذه اللعنة واقرأها كي تتعلم”، وكانت تلك الرواية، يقول ماركيز: “لم أنم ليلتها إلا بعد أن قرأتها مرتين وظللت طوال ستة أشهر متبقية من العام بعدها غير قادر على قراءة عمل أدبي آخر”، هذه شهادة ثلاثة من الحاصلين على جائزة نوبل في الأدب تتعلق بهذا العمل. لعبت هذه الرواية دوراً مهماً في نضج وتطور تيار أدبي يعرف باسم “الواقعية السحرية” في الرواية والأدب عموما، ويعبر عن هذا التيار كتاب ومبدعو أميركا اللاتينية عموما، أي أننا بإزاء عمل ساهم في تأسيس تيار أدبي وروائي كاسح على مستوى العالم رغم انه محلي تماما، يعبر عن هموم وقضايا المجتمعات التي يصدر عنها وبمفرداتها البسيطة والمؤلمة. تدور الرواية في إحدى قرى المكسيك، وهي قرية فقيرة وبائسة بصورة لا تخطر ببال أحد ولا نظير لها في مجتمعاتنا العربية، نحن بإزاء قرية ينزح عنها أهلها جميعا من الفقر والجوع، ومع ذلك فهو يقدم لنا هذا البؤس بأسلوب شاعري، وبروح لا تصيبنا بالكآبة والتجهم بل هي حالة إنسانية، تستثير الألم والتعاطف النبيل. نقرأ ما يلي “في الخارج وفي الساحة خطوات كخطوات ناس يتجولون، ضوضاء صامتة وهنا، تلك المرأة واقفة على العتبة، وجسدها يمنع وصول النهار، تسمح من خلال ذراعيها بظهور أجزاء من السماء، وخيوط من الضوء ترسمها قدماها، ضوء مبعثر كأن الأرض من تحتها مغمورة بالدموع. وبعد ذلك النشيج مرة أخرى البكاء ناعم لكنه حاد، والحزن يلوي جسدها. لقد قتلوا أباك وأنت من قتلك يا أمي. على هذا النحو وبهذا الأسلوب تمضي الرواية فالأدب لا يقدم لنا بؤس الواقع لتدرك حجمه فقط، لكنه يحاول أنسنة ذلك البؤس، لندرك حجم التدمير الذي يقع على نفس الإنسان وروحه، ومع ذلك يبقى هناك الأمل أو لنقل درجة من التفاؤل، يقول خوان رولفو في روايته “ثمة هواء وشمس، ثمة سحاب هناك في الأعلى سماء زرقاء وخلفها ربما أغنيات، ربما أصوات أفضل.. باختصار ثمة أمل. ثمة أمل من أجلنا، لمواجهة حزننا”. في الرواية كل مفردات البؤس والقهر المعهودة، رجل الدين الذي يعظ المؤمنين في الكنيسة، معلما إياهم “انه يجب أن لا نكره أحداً أبداً” ومع ذلك فهو يمتلئ حقدا وكراهية ضد “ميجيل بارامو” الذي مات ولم يصفح عنه “لذا لف الجسد واسرع بالخروج من دون منح البركة لهؤلاء الناس الذين كانوا يملأون الكنيسة”. ذهب بدرو بارامو إلى الأب رنيتيريا وتبرع له بحفنة من العملات الذهبية من أجل الكنيسة والهدف ان يصفح ويسامح صديقه المتوفى أخذ الأموال ودعا الرب بجوار المذبح “إنها لك. فهو قادر على شراء الخلاص أنت تعرف ما اذا كان هذا هو الثمن. أما بالنسبة لي، يارب” فأنا أمام تدبيراتك لأطلب منك ان تظهر ما هو عادل وغير عادل، فكل شيء متاح لنا طلبه، فلأجلي أدنه يارب”. ولد خوان رولفو في 16 مايو 1918 ببلدة نايولا، وهي منطقة جافة عانت من الجوع والاضطرابات الاجتماعية والسياسية، وفي السادسة من عمره قتل والده وفي العاشرة ماتت امه فعاش مع جدته ثم انتقل الى ملجأ للايتام، وفي سنة 1926 نشبت ثورة المكسيك التي استمرت ثلاث سنوات، هكذا عاش طفولته، وسط الآلام والاضطرابات، وظل ذلك يشغله طيلة حياته، يقول “شيء كالقضاء والقدر، غير مفهوم، وحتى اليوم لم اتمكن من العثور على مبرر لمقتل أسرتي بهذا الشكل، أو لارتكاب كل هذه السلسلة من الفظائع والاغتيالات بلا سبب مفهوم”. المهم أن هذه المآسي وتلك الأحزان دفعته إلى أن يقدم لنا هذا العمل الإنساني البديع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©