السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ساعة أولى من موت مقرر

ساعة أولى من موت مقرر
7 أغسطس 2013 23:29
د. عبد الحليم المدني حين أصابه الحجر برأسه (في يوم ميلادها الحادي عشر بعد المائة)، لم يحسّ به لأول وهلة. قال في نفسه “إن الأمر طبيعيّ”... تكلّمَ، ابتسمَ، حاوَرَ، ناقشَ، ضحكَ، ضحكَ كثيرا... في لحظة ما من ليله الطويل أحس بالألم، مدّ يده متفحصا، كان جزء من رأسه قد تهشم.. لم يهتم، ولم يقل شيئا. وحين وصل إلى مستقره، نسي... شعر بحنين طاغ جرفه بعيدا، وأخذه من حيث أتى، إلى صوتها.. إلى أنفاسها (وهي تسحب دخان سيجارتها إلى أعماق روحها)، إلى عينيها وهما تراقبان حركاته وسكناته، وتقرآن ما ارتسم على وجهه مما يحاول إخفاءه أو إظهاره... ازداد ألم رأسه.. لم يكن يتوقع أن الضربة قد أصابته إصابة بالغة، لكنه يحس الآن بالآلام تجتاحه وتهز كيانه. عادت الصورة تمرّ أمام عينيه. الآخر يمد يده، تمدّ يدها بتلقائية.. يسحب يدها.. يضغط على أصابعها.. يعتصرها.. ثمّ.. يقبلها، يمنة.. يسرة.. ثم على الجبين... شعر بدفقة ألم هائلة تجتاحه من جرحه الذي بات يسيل بدم أسود بارد. هل أُخِذَتْ على حين غِرّة؟ ربما، لكن الحدث كان تلقائيا.. يبدو أن هذا ما تعودت عليه في ذات المكان ومع ذات الكائن. كان هذا بحضوره، فما الذي يحدث وهي بعيدة عن راداراته؟ تقلص قلبه في مكانه، وانزوى، بل أحس به يتصاعد إلى جهة غير مرئية لم تسجلها خارطة جسده المتيبس... ألم لا يطاق.. دم بارد معتم يسيل على صدغه إلى مكان قصي.. تداخلت إشارات الهزيمة في عقله، وتصاعدت موجات هواجسه. لا، لا، المسألة طبيعية.. لا تحملها أكثر مما تتحمل... في يوم ما.. كانت الفتاة الجميلة تتقدم منه، وتمدّ يدها لتصافحه.. مدّ يده بأبوة يدعيها، وبأبليسية تنسب إليه، مصافحا بتلقائية ساذجة... لكن الدنيا ادلهمت، وعصفت بها العواصف، واكفهر ليلها، وسجلت ملائكته التي تسجل أعماله بدقة متناهية نقاطا سودا.. ظلت متراكمة في سجله دون أن تمحى. الليل يطول، يطول.. وهي بعيدة عنه، في مأتم معلن، وملهاة مضمرة تحته. حاول استيحاءها في لحظته تلك.. بدلتها التي توشحت بالعتمة، جسدها الأبيض الذي يرفض قيوده بقسوة، ضحكتها المجلجلة بفرح جهنمي، عيناها المتوقدتان تجولان في كل وجهة، صوتها الذي يعلو كل صوت يخبر عن روحها المتوقدة، فارضة تسلطها بحلاوة مفرطة قاهرة. ازداد ألمه، وشعر بسيل دمه الأسود، يتدفق.. يتدفق... تذكر حالة مماثلة تمّ فيها تبادل الأدوار.. آخر وأخرى.. كانت الأخرى تحتضن الآخر، وكان الآخر ملتصقا بجسدها، يحس بحرارته، يسعّر غرائزه، يضحكان، يهتزان، تتحاور لديهما الكلمات والإشارا، لا يحسان بمن كان موجودا، أو ربما يتجاهلانه، بوعي أو بدون وعي.. ثم يدخلان الغرفة، وتغلق خلفهما الأبواب. “عيب عليك يا رجل.. إنها بعمر أمه.. وبمنزلة خالته.. ما هذا الوسخ الفكري الذي ينتابك؟” في يوم ما زال عالقا في مرئياته، كان الحديث عن الجميلات اللاتي عبرن مرحلة الشباب.. قال مبتسما بمكر: “هنّ الخير والبركة”... هاج سعير قلبه، واحتدمت نيران براكينه الخامدة، أحس بلهب يتصاعد من أعماقه، وكانت مساماته تنفث دخانها الأسود. هكذا إذن.. منافع متبادلة.. أنا وأنتِ.. صغيري وصغيرك.. ما أحلاها! مسألة لا تلفت نظر أحد.. وإذا ما حاول أحدهم أن يقول شيئا جاءته الصفعة على وجهه: “عيب عليك.. أفكارك وسخة.. فكرك منحرف ملوّث.. شططك يكشف عن نفسيتك السوداء...”. ما أطول هذا الليل، النوم لم يأت، والفجر كان بعيدا... كان ينتظر هذا اليوم منذ مائة عام، ميلادها الحادي عشر بعد المائة، تتوالى الصور الوردية.. نهار لا كأي نهار.. كان نهارا ممتلئا بذكريات غدت تاريخه كله.. التقيا صباحا.. جهز كل شيء.. وهيأت هي كل شيء.. الأهل، الأصدقاء، الضيوف، البدلة الفضية، الكوافير.. لم يعجبه عمل الكوافير، وهمس في أذنها: لو عملت أنت الماكياج لكان أحلى... ثم قالا بصوت حمل رعشة الحب الأعظم... قالت: نعم، نعم، نعم، رضيت... وقال: نعم، نعم، نعم، قبلت... لم يكن حلما.. كان حقيقة.. هذا اليوم بكل لحظاته... لم يقل لها شيئا.. أراد أن يختبر فطنتها.. هل تتذكر؟ وفكر: سوف ينتظرها، ويتناولان طعام الغداء سوية، لوحدهما.. لا، لا.. ليحتفل معنا الآخرون، .ليشاركونا فرحتنا، ثم يذهبان إلى حيث تنتقي هي هديتها.. لا، لا، سيفاجئها بالهدية.. لا، لا،هي من ستختار.. سيكون يوما لا كالأيام... ياه.. كم تتداخل الأفكار وتتزاحم الصور، وينسج خياله آلاف الرؤى زاخرة بألوانها السماوية... عاد ألم الضربة يعتصره وأحس بالسخونة تجتاح دمه المتدفق... مد يده بفرحة طفل، ضغط رقمها، أتى صوتها من بعيد.. قال لها: أين وصلت؟ وجاء صوتها باردا، قاسيا بشكل غريب: لم أغادر بعد... ? لكنك قلت سأغادر ظهرا.. وأنا بانتظارك... ? ? سأحاول... ? أرجوك.. أتوسل إليك.. أريدك الآن.. أنت وعدتني بالمغادرة صباحا... ? ? قلت لك سأحاول.. لكنه تأكد أنها لن تحاول... تصفح بعضا من صحفه القديمة. قرأ جزءا من كتاب، من دون أن يعرف ماذا قرأ. ابتهل، صلى، دعا، تضرع إلى الله، ثم اتصل: ? أين وصلت؟.. وكان متأكدا أنها لم تغادر مكانها... ? ? لم أغادر بعد... ? أرجوك.. اقسم عليك بكل من تحبين، بكل من هو عزيز عليك، أبيك، أمك، تعالي الآن، غادري الآن، لا تخذلينني... ? ? سأحاول... ومرة أخرى تيقن أنها لن تحاول أبدا. وعادت أفكاره السوداء ثانية. لماذا تغادر وهي منتشية هناك؟ من أنت؟ ماذا قدمت غير حبك المشكوك فيه؟ ماذا تعني لها الآن؟ بم وعدتها؟ ما أنت إلا أفكار مهشمة طحنتها الرياح، لم يعد لك مكان.. ألم تعرف هذا؟ ألم تدرك مكانك الحقيقي؟ التهمت النيران كل ما تبقى من فرحته، وخبت الأضواء في عينيه، كان الحريق يشتعل في كل جسده... ? أين وصلت الآن؟ ? ? لم أغادر بعد.. انتظر أوراقا أتسلمها.. أعود ليلا... ووقعت الواقعة... “ليس لوقعتها كاذبة... خافضة رافعة...” ولم تعد.. لا ليلا ولا نهارا... الليل يطول، والنوم غائب عن الوعي، وأعصابه أصابها تلف مستديم، تجمدت عيناه على غير عادتهما، جدران الغرفة الضيقة، وسقفها المزخرف، وهمهمة الساعة الإلكترونية، ووحشة قبره الذي اختاره، لم تعد تعني له شيئا... كان الموقف موتا قد تقرر. لم يدركه حين انتابته لوثته المعهودة، لكنه الآن وسط الظلام المضيء بأشعة قوية تجرده من ملامحه، وتبرز الأصفار تتراقص أمام عينيه.. وتذكر أنها كانت تخشى الأصفار وترتعد منها، لكن الأصفار من بين كل الأرقام كانت تحيط به أينما تطلع وحيثما نظر.. كان جهاز التلفزيون المتداعي أمامه. قلب قنواته المحدودة، يمنة يسرة، ثم يسرة يمنة.. انعدم الإحساس فيه ولم يعد يعرف ما يفعل.. نظر إلى ما جلبه معه. فتح كتابا، ثم آخر. تطلع إلى جريدة اليوم التي كانت تأخذ جزءا من وقته، رماها بضجر. كان لون الرماد يطفو محاطا بالأصفار المتراقصة... لا آخر لليل، ولا آخر لهمومه. لانهاية لساعته الأولى من موته المقرر. لم يكن قد تصور كيف سيكون موته. لم يكن مستوعبا لما فعل. ربما كان يراهن على خوارقه في خطوته تلك، لكن خوارقه المدعاة قد خانته، لم يعد لها وجود في عالمه. كل شيء قد غلفه صمت نهائي. لحظتئذ أدرك انه فقد كل شيء. فتح جهازه الذي لا يفارقه على صفحة صورها التي انتقاها كما يشاء هو.. ها هي.. تبتسم، تضحك، تكفهر، تصلي، تدعو، تصدر أوامرها، تسبقها فتنتها التي قتلته آلاف المرات، وأحيته آلاف المرات.. هي التي بعد عنها، لم تعد سابحة في مداراته.. فقدها بإرادته الواعية. تجمدت عيناه وهو ينظر إلى نقاط سود تتقافز أمامه.. وترتسم في فضاءاته حيثما نظر...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©