السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غياب الهوية.. يفتح باب التأويل

غياب الهوية.. يفتح باب التأويل
10 أغسطس 2011 22:23
شرعت الهيئة العربية للمسرح مؤخرا بإصدار سلسلة “نصوص مسرحية” التي تُعنى بنشر النصوص الأدبية المسرحية عربيا. كانت باكورتها ثمانية نصوص مسرحية من الإمارات صدرت في جزءين، ضمّ كل منهما أربعة أعمال لم يسبق نشرها كما لم يجرِ عرضها كلها على الخشبة من قبل، سواء مأخوذةً كما هي أو تمّ إعدادها. وقد واصل “الاتحاد الثقافي”، تباعا، نشر متابعات نقدية وقراءات في هذه المسرحيات. ما يلي قراءة في النص الأدبي المسرحي الأخير ضمن هذه المجموعة من النصوص المسرحية الأدبية الذي يحمل العنوان: “السدادة” للكاتب المسرحي صالح كرامة.. من غير الممكن في “السدادة” أن يحدد المرء زمانا ومكانا للحكاية وشخصياتها في بنية نص أدبي مسرحي متكامل بوسعها أن تحدد “هوية” واضحة للقارئ، أو للقارئ الذي يقوم بتخيُّل النص على الخشبة دون أن يرى النص وقد اكتمل في عرض بصري تحكمه رؤية إخراجية واضحة للعمل وحكايته وشخصياته، سواء تأويلا أو التزاما بالنص الأدبي ومقترحات المؤلف التي تتدخل في البناء السينوغرافي لعرض ما لهذا النص أكثر مما أنها تتدخل في الإخراج، وبالتالي الرؤية الإخراجية على نحو أسبق على ذلك. ويحدث ذلك ليس بسبب الغياب الكامل لهذه الهوية أو امّحاء الموقف الانساني الذي يسند مخيلة التأليف على اجتراح الحدث والشخصية في إطار درامي، بل بسبب أنها نص أدبي فانتازي من ذلك النوع من الفانتازيا التي من الممكن تخيّلها لكن من غير الممكن حدوثها على أرض الواقع. فغالبا ما تكون النصوص المسرحية أقرب إلى قراءة الواقع وإعادة إنتاجه وفقا لحراك اجتماعي سياسي ما ولمعطياته الراهنة وتأثيراته على الأفراد والمجتمع بكل ما يتركه عليها من تحولات في القيم والأخلاق والعادات والتقاليد، وكذلك وفقا لسياق نقدي يجترح الحدث وشخصياته في إطار حكائي يستند إلى ما يحدث على أرض الواقع إلى حدّ انه لا انفصال تقريبا بين المتخيَّل الواقعي، إذا جاز التوصيف، والمتخيل الفني في النص الأدبي المسرحي مع الأخذ بعين الاعتبار أنه ما من تنازل هنا عن الشروط الفنية وعن القيمة الدرامية للعمل التي تكثّف من الحدث والشخصية بحيث يكون كل واحد منهما دالّ على الحدث والشخصية في الواقع. إنه أمر يشبه إلى حدّ بعيد وجهي العملة الواحدة لكن المختلفين وليس النقيضين. نزعة تجريبية بينما واقع الأمر في النص الأدبي لمسرحية “السدادة” أقرب إلى النزعة التجريبية في التأليف المسرحي؛ تلك النزعة التي تقوم على حدث وشخصية مسرحيين محكومين لشروط الحوار بين الشخصيات والفعل الموازي لهما الذي تقوم به هذه الشخصيات على الخشبة المسرحية لجهة علاقة ملفوظ الممثل بحركته في إطار سياق ورؤية إخراجيين واضحي المعالم بقَدْر ما في النص الأدبي للعمل من وضوح في كسره لشرط العمل الواقعي حيث “الواقعية” هنا تحمل المعنى التقليدي للكلمة تماما. لا يقوم المؤلف بتسمية أمكنة تدور فيها الأحداث وتتحرك في نطاقها الشخصيات، وكأنما هي أمكنة قادمة من لا وعي خاص أو من حلم كابوسي ما، فثمة بلدة لا تصلح للعيش، تحيا في فقرها وعوزها الشخصية الرئيسية والشخصيات المجاورة لها، لكن وفقا للوصف الذي يقده المؤلف صالح كرامة للمكان، فهو من نوع الأمكنة المحطة الذي غالبا ما ينتشر في أسافل المدن الكبرى الحديثة والطاحنة وضواحيها الأقل حداثة والأكثر انتماءا لعصور قريبة مضت. ثم هناك المكان الآخر الذي هو محتلّ، بحسب الشخصية الرئيسة (سرور ـ عمران) وغير المحتلّ بحسب الشخصية المجاورة (حافل) بكل ما تحمله هذه الشخصية من مضامين سلطوية، لكنه أيضا مكان غير مسمّى وبلا هوية وما يدور فيه من حدث وحوار قصير جدا بين شخصياته التي هي شخصيات تنتمي إلى الكهولة مكانا وزمانا مسرحيين يشير إلى أنها مدينة تنتمي إلى ما قبل الحداثة الاجتماعية للبلدة أو المدينة الأخرى التي يدور فيها العمل بشكل أساسي. هكذا يبدو المكان في العمل أمرا مانحا لفكرة متبلورة عنه وكأن أمره متروك لرؤية إخراجية يتلمسها المؤلف أو لا يريد الإفصاح عنها، وبالتالي إلزام المخرج بها أو أقلّها التأثير على الصيغة التي قد تتبلور بها الرؤية الإخراجية لديه بدلالة النص الأدبي لـ”السدادة”. وتترك هذه النزعة التجريبية في التأليف المسرحي لدى صالح كرامة أيضا، أثرها على البنية الزمانية فلا يدرك القارئ تماما هل هو زمن افتراضي تحيا به الشخصيات زمنا راهنا؟ أو هو زمان يقبل القسمة على التأويل والقراءات المتعددة إلى حد أنه زمن مطلق؟. وقد يتلمس القارئ البعض من الإشارات في الحوار التي قد تشير إلى زمن راهن أو آخر مضى أو حتى زمن افتراضي لكن من غير الممكن له من خلال الحورا وحده أن يستقر على نتيجة واضحة بهذا الصدد، حتى لو كان هناك “سيفون” أو “دفتر حساب” أو أي مظهر آخر من مظاهر زمن ما أو حداثة هذا الزمن، لأن هذه الأمور والأشياء والأفكار غالبا ما تجد لها معادلا موضوعيا في أكثر من زمن وإن بمسميات أخرى فضلا عن أنها لا تشير إلى راهنية بعينها بل هي من أدوات تحريك النص الأدبي، وخاصة الحوار، بهدف خلق نوع من التأثيرات الدرامية وزيادة فاعلية التوتر الدرامي إذ تكون ذرائع لتحولات وانعطافات يرجو منها المؤلف أن تبقي القارئ منجذبا بمخيلته نحو هذا النص. وبما أن المقصود ها هنا بـ”الهوية” هو انتماء العمل ـ الذي هو هنا “السدادة” ـ إذ هو الفضاء الثقافي بكل عناصره وتجلياته التي تشكل وعي الكاتب، أو جزءا منه، أثناء كتابة العمل فقد انسحب غيابها أيضا بوصفها فاعلة في النص ومحركة له وفيه على الشخصيات أيضا، فلا يدرك المرء تماما ما الذي تدافع عنه الشخصية الرئيسية “سرور ـ عمران” أو ما الذي تريده من خلال خروجها من حكاية يومية فردية إلى مسرودة كبرى تخص شعبا أو أمة او بلادا بأسرها ثم العودة إلى الحكاية الأولى دون مقدمات للانتقال او الرجوع وعلى نحو مفاجئ، أضف إلى ذلك بعض الغموض في الشخصيات والحوار الذي يدور بينها بسبب الغموض بين الحكايتين اللتين يتمحور حولهما العمل إجمالا. تحولات نصية فالثابت الوحيد في هذا النص الأدبي هو “عمران ـ سرور” وما تبقى ليس سوى تحولات يمكن القول بأنها تحولات نصية ـ درامية تغذي من حضور الشخصية الرئيسية أكثر مما أن لها دور خاص بها في العمل المسرحي ككل إذ ينتفي حضورها تماما بانتفاء حضور هذه الشخصية. إن شخصية “سرور ـ عمران” في حكايتي العمل هي ذاتها تقريبا، فلا يشير الكاتب، تبعا للحوار والحدث إلى أي تحول في شخصية “سرور” عندما يصبح “عمرانا”. فخط الخذلان ذاك من الواقع ومنح الإحساس للقارئ بأنهما “شخصية واحدة” مستفَزَّة ومستنفِرة هو ذاته في الحكايتين، فلا يتماهى “سرور” بدوره الآخر ولا يُنتج من خيالاته آفاقا أخرى لشخصية أخرى يرتكبها ويقوم بمنحها طابعا مختلفا وطعما مختلفا إذ يتنقل من “حالة مسرحية إلى “حالة” أخرى ضمن الصراع المسرحي ذاته بطابعه المأساوي إنما بنهاية غير تراجيدية، حتى لكان المؤلف أراد له أن يكون تلك الشخصية التي لا يتمحور حولها العمل كاملا فقط بل إلى تعدد هذا النوع من الشخصية في أزمنة وأمكنة متعددة ومختلفة. شخصية مطحونة في حين أن ما يشذ عن هذا التوصيف هو الإحساس بالإحباط لدى شخصية “سرور ـ عمران”، فإذا كان هناك الطحن الذي تتعرض له شخصيته الاجتماعية لسرور قادم من جهة التحولات الاقتصادية ـ الاجتماعية وبعدها التاريخي، فإن شخصية “عمران” تتعرض للطحن ذاته بسبب الأثر الذي تتركه فيها تلك الفوارق بين ما هو محلوم به على نطاق اجتماعي واسع بكل ما ينطوي عليه من أشواق عليا بالتحرر والعيش المحتمل والكريم من جهة وبين الواقع بكل شخصياته الطامحة إلى تحقيق مصالحها الخاصة ومقدرتها على منع حدوث التغيُّرات الإيجابية التي تعنى بها مجتمعات بأكملها ولا يقتصر التوق إليها على أفراد بعينهم من جهة مقابلة، أو جهةٍ ضدٍّ بمعنى أصحّ. يُضاف إلى ذلك أيضا أن الشخصيات غير واضحة المرجعية الاجتماعية فالشخصية الرئيسية بلا ماض ولا طبقة وكانها تتحرك في الحكايتين على نحو هلامي فلا تقوم بإنتاج فكرة عن ذاتها تصل إلى القارئ بل هي أفكار من الممكن التعرف عليها من خلال الحوار وحده فقط. أيضا، لا تتصل هذه الشخصيات في “السدادة” بأي موروث حكائي أو مسرحي كما أنها لا تقيم أي نوع من “التناص” بينها وبين النص المسرحي العربي الحديث بما يترك أثرا قد يقتفي من خلاله القارئ أي علاقة بينها وبين عمل مسرحي سابق عليها، وكأن الكاتب أراد لعمله هذا أن يكون من ذلك النوع الذي يؤسس لخطاب مسرحي خاص به في أفق عربي من الكتابة المسرحية التي بات كتّاب المسرح فيها كثيرون بما لا يمكن متابعته قراءة أو مشاهدة على الخشبة المسرحية. وهذا المسعى نحو الخصوصية لا يتحدد بهذه القطيعة بين هذا النص المسرحي والنصوص الأخرى المعرفة او المجهولة عربيا بل أيضا ببنية العمل ذاته وبمواصفاته التي أثيرت في السطور السابقة، بهدف أن يترك المؤلف للمخرج الحرية الكاملة في قراءة النص وتأويله بأكبر قَدْر ممكن من الحرية وغياب الاشتراطات المسبقة، حيث ربما تصح هذه المقاربة وربما تكون على خطأ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©