السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كنزهة رصاصة بين ضفتين

كنزهة رصاصة بين ضفتين
10 أغسطس 2011 22:30
تؤشر تجربة الشاعر وديع سعادة (لبنان 1948) على المستوى التداولي وأثرها في الشعرية العربية إلى تبدل مرجعيات، ومصادر ثقافة، جيل الشعراء العرب الشبان الذين كانت قصائده في قراءاتهم نموذجاً لتحريك قصيدة النثر من ثبات أشكالها، وتكرار أساليبها، وتقليدية موضوعاتها. إذ لم يعد مشروع مجلة “شعر” هو المحرّك لهم والباعث على الكتابة الجديدة، فوجدوا في وديع سعادة إمكان استحضار النثر مما هو متعين ومحسوس، لا من التجريد الذهني والمخيلة واللغة الخالصة والأساليب الصادمة. لم يحظ وديع سعادة في بواكيره بالانتشار الذي عرفته أشعار مجايليه كعباس بيضون وبول شاؤول مثلًا، لكنه بصمت وقناعة واصلَ محاولاته في كتابة قصيدة نثر جديدة، سيتعزز منهجها ويتبلور بعد هجرته إلى استراليا (1988) فكانت قصائده المهجرية منذ ديوانه “بسبب غيمة على الأرجح” تعيد معادلة الفن الشعري ومفردات الحياة، وهي المهمة التي اشتغل عليها وديع سعادة واختار لها لغة تقترب من السهل الممتنع، وترقى بفضاء المجاز دون مغادرة أرضها وما عليها من حيوات. كانت لوديع سعادة منذ ديوانه الأول مقدرة فحص الواقع وانتقاء أكثر علاماته وإشاراته بلاغةً لتشكيل صورة شعرية له، والتعليق عليها بألفة تُخرجها من جماد هيئاتها الخارجية لتصبح كائنات شعرية. في قصيدة من ديوانه الاول الذي كتبه مخطوطاً ووزعه باليد “ليس للمساء أخوة”1981 يقول: “في هذه القرية/ تُنسى أقحواناتُ المساء/ مرتجفةً خلف الأبواب/ في هذه القرية التي تستيقظ/ لتشربَ المطر/ انكسرتْ في يدي زجاجةُ العالم”. يعد هذا المقطع إنذاراً شخصياً من الشاعر بأنه غير متصالح مع محيطه، حيث الأقحوانات ـ النساء ربما ـ منسيات في وحشة المساء مرتجفات، سجينات خلف الأبواب المغلقة عليهن، وحيث لا تفعل القرية سوى الظمأ ليلا، والاستيقاظ لشرب المطر ـ المنحة الطبيعية التي لا تجترحها القرية بنفسها. وفي مكان كهذا حصل صدامه مع العالم؛ فانكسرت زجاجته ـ حياته؟ ـ وصار عليه أن يغادر. هذا التوسيع القرائي لإنذارات الهجرة وأجراسها الخافتة، سنجدها في مكان آخر أيضاً يخاطب فيه الشاعر وطنه لبنان: “لبنان، لبنان، وراءك ارتجافات مهجورة/ أرى خرطومَ مدفعٍ في أنفك، مستودعَ جثثٍ في عينيك،/ وشحاذاً يتبعه كلب على صلعتك/ لبنان، هذا دولار لك، انصرفْ/ أريد عطوساً/ يجب أن أسحب لبنان من صدري”. لقد صار الوطن حملاً ثقيلًا يتمنى الشاعر لو تناول عطوساً يعينه على لفظه خارج صدره. ولا نحتاج كثير تأمل لمعرفة خلفيات هذه النجوى؛ فثمة أجواء الحرب الأهلية واجتياح بيروت وانقسامها، وتشظي المكان والبشر. فبيروت معزولة كبحر تفصل المياه ضفتيه ولا أحد مستطيع وصلهما ـ عنوان أحد دواوين وديع سعادة “محاولة وصل ضفتين بصوت” ـ كما ترد الصورة ذاتها في القصيدة المتخذة نموذجاً هنا، وهي “محاولة للوصول إلى بيروت من بيروت”، حيث تحدث الشاعر عن ضفتي مدينته المفصولتين: بيروت الشرقية والغربية (ببحر لامع من المتفجرات). قصيدة “محاولة للوصول إلى بيروت من بيروت” من ديوان “رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات” 1985 تؤكد ماشخصناه حول أثر الحرب في شعر وديع سعادة، وهو مبحث يمكن أن يُستكمل بقراءة تجارب الحرب الشعرية في لبنان، كذلك في مدونات الحصارات المتفاقمة كما أرخها الشعراء عبر يومياتهم ومشاهداتهم. والعبور من المدينة إليها هو تأكيد آخر ـ بجانب انقسامها ـ لعدم الإمكان، في صياغة استباقية، أي أن العنوان يستبق محمول النص ليؤكد فشل محاولة الوصول إلى المدينة حتى لو كان الخروج حاصلاً منها. وتتخذ مفردة الوصول إضافة دلالية لأنها لا تعني وطء المكان بالجسد، بل التعرف إلى ما كان مدينة اسمها بيروت، حوّلتها الحرب مزقاً متناثرة الأعضاء والأجزاء. أما إهداء النص إلى سركون بولص الشاعر العراقي المغترب حينها في أميركا فهو تعضيد آخر لدلالتها. فالمنفي يتسلم (قصيدة) فحسب كهدية، ولكن عن مدينة يستحيل الوصول إليها. هنا نتساءل: هل كان وديع سعادة يعمل تناصاً ذكياً مع عنوان ديوان معروف لسركون بولص هو “الوصول إلى مدينة أين؟” صدر في عام صدور ديوان وديع سعادة، وهو يريد توريطه عبر الإهداء في مهمة الوصول المستحيلة وكأن الشاعرين يتجهان معا نحو مدينتيهما البعديدتين والمحفوفتين بأهوال تعيق الوصول إليهما؟ المخاطَبة في النص هي المدينة ـ بيروت، مؤنثة لا تظهر ملامحها بوضوح إلا في المقطع الثاني حين يؤثثها الشاعر بما كانت عليه: قذيفة الأعداء، والطريق المنسوفة، وجثث العمال، والأرض منسلخة الجلد كقرصان محترق. يجدر التوقف لمعاينة القصدية في الصورة فاحتراق القرصان شديد القسوة لأنه يستحضر الغائب وهو البحر الذي يحف به ولكن دون أن تنطفئ النار. على مستوى البنية يهيمن الاستفهام على النص منذ الاستهلال (هل كان عليَّ..؟)؛ فصار السؤال حاجزاً بين المقاطع بتكراره في الجملتين الشعريتين الطويلتين الأولى والثانية. ثم يتخفى السؤال ـ الذي يريد تقرير حالة ـ وراء صيغة إيهامية بالوصول فعلا، ولكن دون تحقق ذلك. ويمكن تجريد أربع جمل شعرية تنتظم النص المتأرجح بين الماضي ـ نية الوصول، والحاضر ـ استحالة ذلك. فهناك التراتب الآتي للجمل الأساسية والثانوية: ـ هل كان عليّ: أن أخرج اليوم .............. أن أذهب هل كان عليّ أن أخرج لأذهبَ إليكِ ـ وأذهب إليك الآن، أحاول أن اذهب إليكِ ـ أحاول أن أذهب إليكِ ـ لكنّ ضفتيكِ مفصولتان ببحر لامع من المتفجرات ـ فاتدحرج/ أتدحرج/ بلا قرار هذا التجريد للجمل الشعرية يرينا حركة النص المقصودة بغية الوصول المقرون بفعلين لهما دلالة ميتافيزيقية هما: أخرج/ أذهب، ويمكن رؤية تناوبهما في النص، وثم امتزاجهما في جمل لاحقة، وبتصدر لكن الاستدراكية لجملة شعرية كبرى في النص هي الجملة الممهدة للنهاية، يكون الفشل المسبق قد حلّ مصيراً لمحاولة الوصول التي هي في أصلها افتراض (هل كان عليَّ) فالخارج المحتشد بالموت وتداعيات الحرب يحول دون بلوغ ذلك الهدف. اخرج ـ اذهب فعلان ينتجهما الحصار والخوف من التنقل في بيروت المحتربة المحترقة؛ حتى ليستخدم الشاعر مفردة الرحلة لتجسيد التباعد بين ضفتي المدينة أو قسميها المنشطرين. ويمكن لي فهم المحرك الشعوري لا اللساني فحسب لهذا الاستخدام، فقد قُدّر لنا ـ نحن العراقيين ـ أن نرى انشطار المدن، وتَقابل أمكنتها عدائياً، ويصبح العبور من ضفة النهر للأخرى، أو من محلة ما لجارتها مغامرة ومقامرة بالحياة. وهما فعلان يوازيان رغبة الشاعر في التجوال والرؤية والتعرف إلى مدينته التي هو فيها ويريد فحسب الوصول إليها من داخلها، لكن بيروت لا تهبه ذلك. وفي المقطع الثاني يكون الخراب شخصياً: أعضاء جسد الشاعرالأعزل ميتة كلها فيذهب إلى بيروت بما ظل له من أجزاء محطمة: هي فك مدروزة بالرصاص ورأس وذراع واهنان، وما تأتي به الذاكرة: قرية بعيدة محترقة، وشجرة يتربع عليها الغربان! والمدينة بيروت المنقسمة إلى ضفتين مفصولتين ببحر يلمع بالمتفجرات. والحل الافتراضي هو القيام بنزهة كالتي تقطعها رصاصة باتجاه هدفها. لكن: ثمة حراس عند بابها يحولون دون الوصول، وبركلة منهم يظل الشاعر متدحرجاً، متنقلاً بلا قرار. وهذا ما استوعبه النص عبر واقعة الحرب وانشطار المكان واستحالة الوصول إلى المدينة التي تبدل وجهها، وأثخنتها الجراح، بنثر لا يتعالى على الموضوع ولا يتجاهل الدلالة، ويمضي في عمق تجربة الشاعر مستفيداً من إمكانية النثر في القصيدة، والاستعانة بالسرد، وتكثيف اللغة كي لا تهيمن عليها الغنائيات وإيقاعات الندب العالية. محاولة للوصول إلى بيروت من بيروت (قصيدة إلى سركون بولص) هل كان عليَّ أن أخرج اليوم لأمسّد بأصابعي الصغيرة قذيفةَ الأعداء أن أذهب في طريق يذوب إسفلتها مستعيداً عمَّالَ منجمه الذين تناثروا بديناميت مستعيداً عميانه، وبوهمييّن قدامى يراقبون انسلاخَ الأرض عن جلدها كقرصان محروق هل كان عليَّ أن أخرج لأذهب إليكِ بعد موت آخر أرساغي، وقدميّ، ويديَّ المتعانقتين كعريسين أُطلِقَ عليهما الرصاصُ قبل المساء بعد أن جُرِّدتُ من أسلحتي جميعها في وادٍ يلعب فيه المغول، وأذهب إليكِ الآن، أحاول أن أذهب إليكِ بما بقي لي: فكُّ مدروزة بالرصاص نُصبتْ علامةً للجنود في وقت فراغهم رأسٌ يوضع عادةً فوق كتفين كفلّينة تقاوم حوتاً في رأس صنَّارة ذراعٌ لا تستطيع التلويح قريةٌ بعيدة، بعيدة جداً انبثقتْ ذات يوم من دخان السطوح وشجرة تزيّنها ابتساماتُ الغربان. أحاول أن أذهب إليكِ وذلك لا يستدعي سوى رحلة بسيطة: نزهةِ رصاصة بين التباريس وشارع الحمراء لكنَّ ضفَّتيك مفصولتان ببحر لامع من المتفجرات وحرّاس بابك يركلونني، فأتدحرج أتدحرج بلا قرار.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©