الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بهجة الصبار

بهجة الصبار
10 أغسطس 2011 22:38
حين أحضرتها إلى المنزل، رفض الجميع استقبالها، وكان النظر إليها يشبه النظرات الخاطفة والسريعة التي تتميز بالاشمئزاز والخوف واللامبالاة في وقت واحد. قالت لي شقيقتي الصغيرة بكل فلسفة: صدقيني وجودها في المنزل سوف يؤذي الجميع، ويجلب لنا الشؤم، لا بد أن تتخلصي منها.. منذ أن رأيتها، لم أتمالك نفسي من الإعجاب بها، كانت محط اهتمامي، أختي الصغرى تتابعني من بعيد بنظراتها الحذرة، تتجنب الاقتراب مني، إذا حملتها في يدي تبتعد عني أمتاراً طويلة.. كنت أنظر إليها في كل صباح ومساء وأتفاءل بوجودها معي، لم أستطع وضعها أمامي والنظر إليها، فشقيقتي تبدي تذمرها منها طوال الوقت، وتتشاءم من وجودها في أي زاوية من زوايا المنزل.. ظللت طيلة اليوم، أبحث عن مكان كي أخفيها فيه، بعيداً عن جميع الأعين التي ترقبها بخوف وشك، وتتوجس منها المرض والأذى، فكرت طويلاً، فلم أجد سوى غرفة الاستحمام، فهي المكان الذي لن يصل إليها فيه الضوء القوي النفّاذ، فيؤذي أوراقها الطرية، وكي تكون أمامي كلما فكرت في الاستحمام.. في الصباح الباكر، أجدها أمامي تعلن عن عيشها ورغبتها بالحياة عن طريق أوراقها الخضراء التي تكتسب لوناً أخضر مفعماً بالبقاء والنضارة، أنظر للنقش الخلفي للجدار، يبدو باهتاً، ربما تستحق نبتتي الجميلة، صورة تذكارية حتى أعلقها مع مجموعتي الأنيقة التي أحتفظ بها في ألبوم الصور الكبير.. كانت شقيقتي كلما دخلت إلى غرفة الاستحمام تطلب من الخادمة أن تحمل أصيص النبتة وترميه خارجاً، لأنها تتضايق منها ولا تتخيل وجودها معها أثناء فترة استحمامها ومشاركتها لها، وتظل النبتة برفقتي، أتأملها، ألمسها بيدي، أشعر بإبر الشوك تلامس أصبعي، تخرج صرخة عفوية من شفتي، ظل خوف شقيقتي من نبتتي ملازماً، أصبحنا ندخل في شجار لا ينتهي سوى بتدخل والدتي التي تصر عليَّ أن أرميها خارجاً أو أزرعها في الحديقة.. كانت نبتتي الصغيرة تعلن بقاءها، وكنت أحاول التمسك بالأمل، عندما أخبر الأطباء والدي بأن المرض قد استشرى في جسدي، بكيتُ طويلاً، واختبأت تحت فراشي، بكيت ولم يكن لدي شيء جميل أحبه، كنت أشعر بأن حياتي خاوية، وقلبي هو الآخر خاو لا يملؤه أي شيء سوى الأسى.. صديقتي “لولوة” ذات الوجه المكتئب المتذمر أعلنت ذات صباح عزمها على التخلي عن نباتاتها الصحراوية، بحجة أنها سوف تبدأ حياة جديدة بعيداً عن الهموم والمتاعب بعد خطوبتها، فهي تريد أن تبعد نفسها عن كل ما يضايقها وتبدأ تأسيس حياة جديدة، فأعلنت عن تنازلها عن نباتاتها دون مقابل.. مرت أيام ولم تتلق أي عرض من أي واحدة من الموظفات في المكتب، فأحضرتها ودفعتها إليّ في تململ: خذي هذه النباتات، أنت فتاة ليس لديك مسؤوليات وتحبين الجلوس في المنزل، ربما اعتناؤك بهذه النباتات المسكينة يضفي عليك شيئاً من البهجة. لم أستطع الرفض أمام إصرارها، منظر أصيص الزرع أثار في داخلي الفضول والرغبة في الاعتناء بشي جديد في حياتي. لأول مرة رأت والدتي هذا النشاط والمرح على وجهي، ويدي تحتضن الأصيص في سعادة بالغة، لم تكن “لولوة” وحدها تتذمر من الأصيص، وتشتكي من التعاسة التي عاشتها بسبب تلك النباتات الشوكية التي كانت نذير شؤم عليها لسنوات طويلة، حرمتها من الالتقاء بحبيبها، أخريات كن يشتكين من الكثير من المشاكل والهموم وكن يتذرعن بالشؤم ونحاسة الحظ، وحدي أنا كنت الصامتة، الخانعة. وحدي أنا التي كنت أنظر إلى كل شيء من حولي دون أن أنبس ببنت شفة، عيناي، بل حواسي كلها، كانت تتابع الأمور بصمت، لم أكن أشكو أو أتذمر، لم أكن أتحدث إلا نادرا، ولم يكن الحديث مع الناس يستهويني أو يجعلني أستمتع، وحدها الوحدة كانت ملاذي، وعندما انضمت تلك النبتة إلى عالمي صارت صديقتي الوحيدة، وكنت أبثها جميع همومي وكانت الزهرة تسمع لي أو يخيل لي إنها تستمع إليَّ بإنصات، قد لا تستطع أن تعبر عن شعورها أو حتى أحاسيسها أو تهز رأسها أو تقوم بأي حركة، سوى إنها كل يوم تزداد خضرةً وجمالاً عن السابق، كنت أنظر إلى النبتة التي تبدو شامخة رغم وحدتها، وتربعها في ذلك الركن الهادئ، كنت أتمنى في أعماقي لو كنت مثلها. لم تكن نبتتي الصغيرة ذات ملامح واضحة، تتميز بلونها المائل إلى الاخضرار، وفيها بعض الشوك، في الليلة الأولى التي نامت نبتتي معي، كانت أختي “حنان” تحمل بطانيتها ووسادتها، وتسحبها بعصبية، وهي تغادر غرفتي، وتصرخ في تذمر: لن أنام لحظة في هذه الغرفة، وتلك النبتة السخيفة معنا.. لوهلة شعرتُ أن النبتة حزنت لذلك الكلام الذي تفوهت به “حنان”، نظرت إليها بإشفاق، هذه هي الليلة الأولى التي تغادر فيها النبتة صديقتها “لولوة”، لا بد وأن “لولوة” تفتقدها، لا، لا، لا أتوقع هذا الأمر، هي دائماً تشتكي بأن نباتاتها الصحراوية التي اعتادت أن تربيها منذ طفولتها كانت السبب في سوء حظها، وقد نصحتها ابنة خالتها برميها في سلة المهملات، هل استطاعت حقا أن تقسو على قلبها وترمي باقي النباتات، أو ربما وزعتها على صديقاتها، لا بأس احتاج إلى الهدوء والتركيز. لقد أخبرني الطبيب أن أهدأ وأركز، فلم يتبق لي الكثير في هذه الحياة، لم تبق لي إلا أيام معدودات وسوف أرحل عن هذه الدنيا، أشعر بالحزن على أمي، فالألم على مرضي وكلام الأطباء هو الذي يذبح والدتي ويجعلها حزينة طيلة اليوم علي، حاولت مراراً أن تخرجني من هذه العزلة التي أعيشها، ورغم ذهابي إلى العمل، لكن شخصيتي ظلت هي، لا تتغير.. كانت شقيقتي “حنان” تشاكسني، ومراراً حاولت رمي نبتتي، أحياناً كنت أجدها مرمية في الحديقة أو عند سلة المهملات، وأحياناً أخرى تضعها في المطبخ، ودخلت معها في شجارٍ حقيقي يختلف تماماً عن جميع المشاجرات التي تحدث بيننا. فقد نتخاصم أو نتضايق من بعض، ولكننا نعود مرة أخرى ونتعاهد بألا نعود لمثل تلك التصرفات الصبيانية، ولكن هذه المرة كان غضبي شديداً وألمي يفوق الوصف، كانت نبتتي مقلوبة وقد سقط منها الزرع وتناثرت التربة والسماد، كل محتوياتها تناثرت في الطريق، وجن عقلي، لم أحتمل فكرة أن تموت أو أن تنتهي هكذا مني دون سابق إنذار.. كانت الأيام القادمة بالنسبة لأمي جحيماً لا يطاق، لقد عاودتني الحمى بسبب سهري بجانب نبتتي، فقد ذبلت تماماً وأصابها العفن في مناطق معينة، نبتتي الصحراوية لم تحتمل الظل والمكان المظلم، لم تحتمل الرطوبة، وقد يئست من تلك المعاملة التي تعاملها بها شقيقتي، لذلك آثرت الرحيل من حياتنا، ودخلت في غيبوبة. ويبدو أنني غبت عن الوعي فترة طويلة جداً، متخيلة أن نبتتي قد كبرت جداً، وأصبحت عملاقة ورحت أتزحلق بين أوراقها وأغصانها الضخمة، ثم بدأت تنكمش تدريجيا، حتى صغرت وأصبحت بحجم كفي، كنت أتوسل إليها بألا تتركني.. لكنها انفجرت بقوة لتصبح مجرد أوراق ذابلة في يدي. صرخت بقوة لأجد نفسي في المستشفى ومن حولي أمي الباكية ووالدي وأخواتي ينظرون إلي، وأمي تحضنني بسعادة وتصرخ: الحمد لله.. الحمد لله. توقعت بأنني نمت طويلاً، واستيقاظي كان سبباً في فرحة أمي الغالية، بحثت عيناي عن نبتتي لأجدها في يد “حنان” التي أحضرتها لي خصيصاً إلى المستشفى، خطفت منها النبتة، ونظرت إليها، كانت حنان تتأسف وفي عينيها بعض الحزن: سامحيني لم أكن أقصد إزعاجك ولا مضايقتك، لقد اهتممت بالنبتة طيلة فترة مرضك، لا تخافي عليها إنها بخير. نظرت إلى النبتة، كدت أقفز في فرح وعيناي تنظران إلى فرع صغير أخضر قد نما بقوة..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©