الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إكسير الصحراء...

إكسير الصحراء...
31 أغسطس 2014 13:11
الصحراء أول المخلوقات على هذه الأرض. أول الكوائن، أول التاريخ، أول الحضارات، أول الجنّات، أول الخيام، وأول القرى، أول المدن، وأول كل أول في معجم البلدان، وسجل الأزمان. في قلب هذه الرمال خارطة طريق إلى الأزمنة السرية، كانت فيها الصحراء راعية السماء التي تحمل قرص الشمس بواد غير ذي زرع، خض الملاك دمه فانفجر كسقيا الرواء، زمزميا، تؤوي إليه أفئدة من الطير والبشر والحجر. شامة القمر تستحوذ الصحراء على جل هذا النظام الكوكبي، حتى لكأن الصحراء أم الكواكب، فبمجرد إجراء مسح فضائي لهذه الأرض يتبين للرائي عمق تاريخها الضارب في الزمن السحيق إلى ما قبل سبعة ملايين عام من عمر الخليقة، كجنة من نخيل وأعناب، وأنهار وأشجار وقلاع وحصون وقصور ومدن تختبئ كشيفرة مقدسة في كتاب الأبد، لا يفك لغزها سوى بدوي نبت في لحمها كشامة القمر. يا أيتها الصحراء، يا خليلة الشعراء، عمت لغةً يا بلد البلاد، وكعبة العباد، وثكنة الأجناد، يا حارسة الآلهة وساحرة الأولمب. من جاء أولا: البدوي أم الصحراء؟ يُحكى أن الصحراء، مدينة اللعنة، واللذة، رَبَتْ على يد بدوي خلق من صلبها، توله بها، فشغفت به، خبر كنهها، فوهبته كلمة السر لولوج مغارة علي بابا من بوابة الجنة، فمن جاء قبل الآخر: البدوي أم الصحراء؟ يذكر الكاتب جمال عبد المنعم في مقالته التحليلية التي استند فيها إلى وثائق علمية تضمنتها المجلة العالمية الثقافية، أن البحيرات كانت تغطي هذه الصحراء خلال العصور المطيرة، وهو ما توصلت إليه أبحاث الجيولوجي الأمريكي “هال ماكلور” في رسالة الدكتوراه عن الربع الخالي، ولن تستغربه إذا ما عدت لمعاجم البلدان التي تضمنت وصفا مطابقا لهذه الدراسة يؤكد أن الطبيعة الجيولوجية للصحراء ـ قديما ـ تختلف كثيرا عما عاشه بدو المراحل الزمنية القاحلة، التي ساد فيها المناخ الجاف ودرجة الحرارة المرتفعة، والسنوات العجاف، ومواسم الهجرة القبلية الجماعية، للبحث عن مناطق أكثر خصوبة. الأدبيات التراثية أيضا كانت مرجعا للدراسات التوثيقية والبحوث العلمية في هذا المجال، لأن الأعمال الأدبية القديمة والإبداعات الفنية، والزخارف والتحف والآثار التي تم العثور عليها عبرت عن مظاهر الحياة السائدة في الصحراء قبل التغيرات المناخية الحادة التي طرأت عليها، من حيث برعت في وصف أصناف من الحيوانات لم تكن لتوجد في مناطق شحيحة المياه، لا تكتظ بالغدران والسهول والوديان، ورقة الهواء وحسن البيئة، كالأسود، ووحيد القرن والتماسيح وما شابهها، لا بل إن صحراء نجد القديمة كانت من أكثر الأراضي خصوبة في بلاد العرب. وعمر الحياة الحيوانية وحدها يعود إلى سبعة ملايين عام في صحراء الجزيرة، وهو ما اكتشفته ـ حسب ذات المقالة ـ البعثة الجيولوجية البريطانية التي ركزت بحوثها في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1989، مضافا إلى ذلك المراعي الرغيدة التي أحاطت بها وتم العثور عليها على مقربة من عدن، علما بأن أقدم مدن التاريخ التي عرفها العمران البشري كانت في الصحراء التي لم يخلق مثلها في البلاد، إنها مدينة “عاد” مدينة القلاع الشاهقة، والمستودعات الضخمة، والصروح السامقة، والخزانات الجوفية والآبار والعيون الجارية، حتى أنها وصفت بجنة الأرض في كتب التاريخ. هذه الجنة ظلت على ما كانت عليه، وقد تحول فيها رفات الديناصورات الذي تحلل في تربتها إلى زيت أسود، حسب البحوث العلمية التي تخصصت بدراسة حياة الديناصورات ما بعد الفناء. فأي رخاء تنعم به هذه الصحراء في كل العصور! رغد العيش الذي عرفته هذه الرقعة الجغرافية ـ التي استقطبت الباحثين من أصقاع المعمورة لاكتشاف ماضيها ومستقبلها ـ هو الذي شهدت له المخطوطات القديمة وقد وصف أهلها بالأشداء على الخيانة والغدر، وبالراغدين المنعمين الزاهدين، المؤمنين المعمرين المخلدين. أنت هنا إذن في الجنة، إنها طريق القوافل إلى سدرة المنتهى! البحث عن “أوبار” أو عاد تلك، كان هاجسا مسحورا يؤرق الكثير من الباحثين والمستشرقين، على رأسهم لورانس العرب الذي أطلق عليها “أطلنتس الصحراء” ورحل دون أن يفلح بفك شيفرة المكان رغم استعانته بالبدو، لاختراق الأسلاك الشائكة غير المرئية التي شيدتها العصور الجيولوجية الماضية حول هذه الأطلنتس التي تشف ولا تصف وهي تتوارى خلف شال شفاف من الرمال الذهبية! إنك تبحث عن الصحراء في الصحراء، فأية فتنة تلك، أية لعنة، أية لذة يا الله! صندوق الرحلة عليك أن تقتحم الفضاء كي تتمكن من حمل عين تلسكوبية على ظهر السماء، تمكنك من اختلاس النظر لمدن نائمة تحت سرير الرمال، أو مخبأة ككنز أسطوري في صندوق الصحراء السري كشيفرة دافنشية مخطوطة بدم الأزمنة البكر، ووردة النار الخبيئة في دلال البدوي الذي ابتكر الرحلة كأسلوب حياة غايتها الاستقرار! العصور كلها بدأت في الصحراء، الصحراء باكورة الأمكنة، وسيدة الكائنات، ومعقل الطبيعة، ومعسكر العمران الأول الذي يضبط إيقاع التطور البشري والتاريخي للخلد. الصحراء التي سبقت التكنولولجيا هي أول السلالات التاريخية للتقدم التكنولوجي الذي تحفل به الحضارة المدنية الحديثة، ما دامت فلسفة البدوي كإله للرعي، وإله للرحلة بحثا عن مستقر، هي التي بشرت بالمدنية المعاصرة التي استلهمت منها فلسفتها، واعتنقت عقيدتها القائمة على جوهر الترحال كوسيلة ضرورية لنشدان غاية مقدسة هي الحلول. الخاص والاستثنائي في طقوس تلك الرحلة، أن البدوي لا يغادر بيته “خيمته” بل يحمله معه مسكونا بهاجس التنقيب عن رقعة جغرافية تستوفي شروط البقاء، وهو إن ترحل فإنما ليحل، بل إن ارتباط إقامته بالمواسم لا يجعل من الهجرة أسلوبا للعيش بقدر ما يجعل منها عاملا نشطا لاكتشاف الأمكنة وترك آثار الإعمار في أمكنة مهجورة، وهو ما يدلك على مهارة العمران بالتنقل، وليس فقط بالمكوث. الصحراء مرآة البدوي، كما البدوي مرآة الصحراء، إنه اندماج تام بين مزاجين انصهرا بذاتهما حتى توحدا ببعضهما، حتى ليصعب عليك أن تتكهن بمن جاء قبل الآخر، لأن مزاج التكوين بين العنصرين: المكان وساكنه، اتخذ مع الزمن طابعا قدريا، يجعل من كل طرف مصيرا للآخر في لوح محفوظ هو الشيفرة! وما دامت الصحراء أول الأمكنة، فالبدوي أول البشر، الذي يحيي التاريخ بحجر الفلاسفة، ويوقظ المدن السرية من سبات الزمن، ينفض عنها غبار العصور، وينتشلها من حفرة الانهدام. إنه باني الأرض، سابق الحضارات، معمر البسيطة، ملهم التكوين، إنه ابن البلاد التي لن يخلق مثلها في البلاد، وريث الخلود، والممالك التي تأخذ قيلولتها تحت عباءة الرمال، لتسلم دفة البناء إلى ممالك تقوم من رحمها لتعتلي خيمة السماء، وبين جنتين من صحراء وصحراء، تنهض صحراء ثالثة، لا تشبه سواها، تخرج من المصباح السحري كجنة معلقة على وتد خيمة، أو كعشبة خلود في شجرة ابن خلدون، يرعاها بدوي يبني اللغة في بيت القصيد كما يشق البحر في قيامة الصحراء! يا هذه الصحراء، يا مولهة بابن الوله “البدوي”، يا صنوان لصنو واحد هو أنتما. سلام عليكما. سلام على الذي رفع القصيدة بلا عمد، وبسط الأرض بالوتد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©