الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما الحب؟

ما الحب؟
27 أغسطس 2014 20:40
الإجابةُ عن هذا السّؤال معروفةٌ طبعاً. فمنذ قرون، كان ابن حزم قد أجاب إجابته الشهيرة: “الحبُّ، أعزّك اللّه، أوّله هزلٌ وآخره جدٌّ”. وقد أتى ابن حزم كما نعلم على كلّ أعراض الحبّ وعلاماته، حتى جعل جدّه فاجعة. لذلك فإنّنا لا نروم اليوم جوابا يصف، وإنما نروم جوابا يكشف. لا نريد جواباً يستعرض الأعراض والعلامات ويستذكر الأخبار والروايات، وإنما نريد تعليق العلامات واعتزال الأخبار، ومباغتةَ الحبّ معنى، أي “صورة عَنْيٍ” لا تستبقي من لواحق الحبّ غير قصده في الوعي الذي يعيشه، أعني اقتصاده إلى عنصره، ولعل بعض معاني الإيبوخا الهوسرلية إنما تتمثل في هذا الاقتصاد، وبه تمكن فينومينولوجيا الحبّ بما هي “اقتصاد معيش الوعي العميق، أو الحميم، بالحب”. ولكنّ الحبّ الذي ننشُد هو كذلك حاصل فهم، ولذلك فهو أيضا معنى (sens) لاشكّ أن إدراكه موضوع لتأويليّة تعنى بتحديد تجربة الحابّ بوصفه موضع الحبّ، أي بتحليل كيفية تمثله لوجوده مُحباًّ. لواحق ولما كان الغرض من هذا القول الوقوف على عنصر الحب، فإن لواحق الحبّ من الأعراض والعلامات والوضعيات لا تهمنا إلا بقدر ما تخدم ذلك الغرض أعني إدراك المعنى ظهورا للشيء الذي هو الحبّ أو تظهّرا له في ثنية المشيء الذي هو كلّ إحالاته، وكلّ مرجعياته، أعني إذن كل متعلّقاته التي توجد معه، والتي خرج إليها ابن حزم من بعد جملته الأولى، ولم يعد إليها من بعد ذلك أبدا. قال: “الحب، أعزك الله، أوّله هزل وآخره جدّ” ثم خرج إلى الأصول، والأعراض، والآفات الداخلة، وانتهى إلى العبرة والمغزى، فضيع علينا الحبّ إلى غير رجعة. إنّ ما نبحث عنه وراء طبقات المعنى التي تتوسّط تجربة الحبّ وتمثلنا لتلك التّجربة، هو إدراك ضرب من الحبّ السّابق لكل حبّ، ضرب من الحبّ الأعرى، ضرب من الحبّ المحض. وإن دربنا إلى إدراك هذا الحبّ الأصلي لتعطيه أسطورة ديوتيما في محاورة المأدبة لأفلاطون، حين تجعل أصل الحبّ، عناق وصل بين بوروس (المرور، المائي) وبينيا (الفقر). فكأنما الحبّ الأصلي، هذا الذي نردّ إليه عنصر الحب في الوعي، لا يبتغى خارج الإدقاع المخلي للوعي من كلّ إحالة. “ما الحب؟” إذن، سؤال يبتغى خارج الأصول والأسباب، والأعراض والعلامات، والآفات الدّاخلة، والعبرة والمغزى. “ما الحب؟” إذن، سؤال يبتغي ما يظهر خلف الإحساس والاهتزاز والانفعال ودقات القلب، وخلف ما يظهر من تشاكل الأنفس أو اتصال ما كان انقسم من الأكر التي هي الأرواح، وخلف ما يظهر من البخت السعيد أو من قلّة السعد. إنه سؤال يبحث عما يظهر خلف ما يظهر، عمّا يخفيه هذا الذي يظهر. إنه سؤال جوابُه عند أدونيس: “أن أغمض عيني كي أبصر”. وها هنا فإننا مهما قلّبنا النظر، وغيرنا من إضاءة الوضعيات، وتخيّلنا من اختلاف الهيئات، واجدون أنّ الحبّ علاقة بآخر. ما بنية “الوعي المتعلّق” إذن؟ لاشك أنّ التعلّق تشكّل آهلٌ، ومن هنا مباحث الأنس والمؤانسة أو مباحث الهجر والغياب في مبذول الرّأي ومبذول الغناء. إن منشود الحبّ في هذا المبذول حضورُ آخرٍ. وبعدُ، فما الابتذال في موقف كهذا؟ أليس كلُّ حبٍّ بحثا عن آخرٍ، وسعيا إلى إدراكه والظفر به، أو تذكُّرا لحضوره، أو شوقا للقائه؟ ومع ذلك فإن ما يروم هذا المقال أن يرسمه رسما هو أن الحبَّ في عنصره المخصوص ليس كذلك أصلا. إن أقصى توصيفات الحبّ على معنى ما، هي تلك التي تجعل العلاقة مع الآخر، أي مع المحبوب، سكينة ذوبان في الآخر، أو تماه أو تطابقٍ معه. ولكن كيف يتبدَّى هذا الآخر؟ كيف يتظهَّر؟ إنه من جهة كونه مختلفا عني، آخري أنا، ويتحقّق حبُّه في نفسي استقبالا له وإفساحا من نفسي، واستضافةً ونزولا له عليّ. إنّه النازل عليّ، النّزيل بنفسي. وما أنا إلا المحبُّ، أي المتحقِّق منْزلا، ولكني لست المحبّ النازل بأي منزل، ما أنا إلا المنزل الآهل بالقفر: لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت أنت وهنّ منك أواهلاختلاف فأمّا من جهة كونه مختلفا عن نفسه، أي من جهة كونه آخرَ نفسه، أي من جهة كون آخريته آخريةً مُحبَّة، وبوجه ما متصلةً، فإن مُقامه ومقامي يؤلفان عالما يستضيفنا. إن العالم هاهنا عالم سعيد. وإنّ سعادة العالم متأتية من ضرب من انقلاب الآخرية أو من لقائها مع مسار الذاتية المخصوصة. ومن جهة كونه مختلفا عني وعن الآخر، فإنّ الآخر هو آخر الذات وآخر الآخر، وهو الآخر بإطلاق، ومن هذه الجهة فإن حبه في نفسي يتحقق كحب مقسوم ومنزله في نفسي لا يتسع له على قدر نفسه بل على قدر نفسي. ما أنا بمنزله الوحيد، إن أنا إلا منزل من منازله. فإما أن حبه يتحقق كحب مختلف عن كل حبّ أو أنّ حبّه يتحقّق كأكثر من حبّ واحد. ذلك هو معنى العبادة، اختلافا عن كل حب، أو هو معنى الحبَّين الذين تحدثت عنهما رابعة في التقليد الصوفي: “أحبك حبَّين. . . ” بل حُبِّين. ولكني في جميع هذه الأمثلة التي ذكرت والحالات التي عدّدت، لم أتجاوز تحليل الأخبار حين كان يجب أن أُدرك الحبَّ فيما يبصَر منه خارج كلّ خبر. ولذلك سأطلب إلى سبيل أخرى أن تبلغ بي إلى حيث لم تبلغ بي الأولى. لن أتساءل عن الآخر من هو، وعلى الأصح لن أتساءل عنه من يكون من بين الآخرين. ولن أتساءل عن وقع الحب عليه أو عن وقعه عليّ. ما الحب بصرف النظر عن سعادته وشقائه، ما الحب بصرف النظر عن شخصه وشخصه. سأستسمحكم في أن أعود إلى أبي حيان حينما خصّص الصداقة، على إثر أرسطو، بكونها الآخرية المماهية للذات، ولكن بغيرية بالشخص: “صديقك أخرُ هو أنت، إلا أنه غيرك بالشخص”. ما هذا الغير الذي بالشخص؟ هل هو الحدّ الذي تصطدم به المماهاة بين الأنا والآخر؟ لو كان ذلك مقصود أبي حيان لما لزمه أن يستنجد بأبي سليمان المنطقي ليظفره بنكتة منها. ولكنه إنما يشير بذلك إلى التراجيديا التي تلازم كلّ حب. فهذا الغير الذي بالشخص، ليس حفنة ريح، إنه غيري. إنه الغير الذي لي، الذي لي أي الذي أملكه. ماذا أملك؟ إني أملك الذي لستُ. بل أملك الذي ليس. وليس يتجه أني لست (هو)، أو أنه ليس (أنا). بل العبرة فقط بأني على جهة الليس، وأني على، جهة الليس، أملكُ (أملكُ الذي لستُ). لا شك أنّ هذه العبارة على أقصى درجات المفارقة. ولكنها مفارقة الحدثية اليومية. فأنا أحب، أعني أشهد أني بمحضر غيري، أي أني بمحضر الليس الذي لي. إن الحب انتقال من المَلْك1 (أني أملك) إلى اللاوجود (غيري). لأن غيري، الذي لي، هو لا وجود بالشّخص، وأنا أملكه. ماذا أملك؟ أملك اللاّوجود. ما أعظم ما أملك. من هذا الغير إذن؟ هو إمّا بالشخص وساعتها لا أملِكه، أو هو بلا شخص وساعتها أملكه. فإذا ملكتُ فقد فَقدتُ، وإذا افتقَدت فقد ملكت. من أحبّ إذن؟ من هذا الصّديق إذن؟ ولكم يقوّلنا الحبّ : “إني أحبُّ الحبّ” ؟ ولكن من هو الحبّ؟ ثمّ ما هذا السؤال؟ إما أنّنا تراجعنا إلى ما قبل سؤالنا، أو أننا تجاوزنا إلى ما بعده. لقد سألنا: ما هو الحبّ؟ وانتهينا إلى: “من هو الحبّ ؟” فإنّ الحبَّ يسارقُ الحبّ. هامش: 1 ـ جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة مَلَكَ، عن ابن سيده أنّ “المَلْك والمُلك والمِلك احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به. ملَكَه يملِكه مَلكا ومِلكا ومُلكا وتملُّكا. . . وما له مَلك ومِلك ومُلك ومُلُكٌ، أي شيء يملكه”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©