الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ملائكة طنجة وشياطينها

ملائكة طنجة وشياطينها
27 أغسطس 2014 20:40
* طنجة شبيهة بحلم يمتدّ من الماضي الى الحاضر بخطّ فاصل بين حلم وواقع * بعد سنة من الإقامة بدأ ضيق بوروز بطنجة وأهلها يخفّ ليكتشف فيها "جمالا وحشيّا" * كيرواك: أحببت طنجة والعرب الفخورين بأنفسهم الذين لا ينظرون إليك عندما تكون في الشارع قبل مائة عام، وتحديدا في الرابع من شهر فبراير ـ شباط 1914 ولد في نيويورك الكاتب الأمريكي ويليام بوروز الذي توفي في الثاني من شهر أغسطس ـ آب 1997. وكان ويليام بوروز أحد أعلام الـ"بيت جينيرايسون"، تلك الحركة التي لعبت دورا مهمّا وخطيرا في تحديث الأدب الأمريكي بعد الحرب الكونيّة الثانية، سواء في مجال الشعر أو النثر. وقد عاش هذا الكاتب، الغريب الأطوار في السلوك كما في الكتابة، الشطر الأكبر من حياته خارج بلاده، مقيما في مدن مختلفة مثل باريس، ومكسيكو سيتي، وطنجة المغربية حيث كتب في فندق "المونيريّة" المطلّ على مضيق جبل طارق عمله الشهير "الغذاء العاري". لذلك تعتبر طنجة بالنسبة له محطّة أساسيّة في مسيرته الإبداعيّة. عنها كتب ذات يوم يقول: "طنجة هي بحقّ نبض العالم. وهي شبيهة بحلم يمتدّ من الماضي الى الحاضر، بخطّ فاصل بين حلم وواقع". وكان ويليام بوروز قد وصل إلى طنجة قادما اليها من ايطاليا مطلع عام 1954. وفي ذلك الوقت كانت عاصمة الشمال المغربي تعيش آخر سنوات العزّ التي عرفتها منذ أن أصبحت "منطقة حرّة" وذلك عام 1923. وقبل أن يأتي اليها، كان بوروز قد طاف طويلا في اوروبا، وفي المكسيك. وكان قد أصدر كتابا حمل عنوان "Junkie" بفضله أصبح من ألمع رموز الموجة الأدبية الجديدة المتمثّلة في الـ"بيت جينيرايسون" التي تشكلت عقب الحرب الكونية الثانية مشهرة الحرب على المجتمع الاستهلاكي، وعلى الحياة الأمريكية الخانقة. وراح رموزها من أمثال آلن جانسبارج، وجاك كيرواك، وفارلنجيتي، وجريجوري كورسو يبحثون عن خلاصهم في موسيقى الجاز، والمخدرات، والحب "في ما وراء الخير والشرّ. إغراء بول بوولز ولا بدّ أن طنجة بموقعها الجغرافي المتميز، وبحياتها الكوزموبولوتيّة قد بدت لهؤلاء المكان الأفضل لتحقيق مطمحهم في المغامرة، والجنون الجميل، مخوّلة لهم بلوغ ما يبتغونه من "خلل لجميع الحواس" على حدّ تعبير رامبو. وقد يعود ذلك الى أنهم كانوا قد قرأوا مطلع الخمسينيات من القرن الماضي رواية بول بوولز: "دعه يسقط" التي يروي فيها قصة شاب أمريكي يستقيل من عمله كموظف في أحد البنوك، ثم يأتي الى طنجة ليغرق في المخدرات. وفي النهاية يؤدي به ذلك الى ارتكاب جريمة فظيعة إذ انه يدقّ مسامير غليظة في أذن صديقه المغربي الذي كان غارقا في النوم بعد أن تناول كمية هائلة من "المعجون". ويعترف بوروز بأن رواية "دعه يسقط" كانت من أبرز العوامل التي حرّضته على المجيء الى طنجة، وذلك بهدف التعرف على صاحبها. لكن في حوارات أخرى أجريت معه، هو يقول بإنه جاء الى طنجة تنفيذا منه لأحلام قديمة كانت تراوده اثناء الطفولة: "طفلا كنت أرغب في أكون كاتبا ذلك أن الكتاب مشهورون وأذكياء. وهم يهيمون على وجوههم من سانغافورة الى رانجون مرتدين بدلات من الحرير الأصفر الخفيف. وهم يعيشون في حيّ طنجة العتيق". . . في البداية، استقر ويليام بوروز في أحد الفنادق المتواضعة بالحيّ الإسباني بطنجة. وسرعان ما ضاق بالأجانب الذي يقيمون هناك. وفي رسالة الى صديقه آلن جانسبارج بتاريخ 20 كانون الثاني ـ يناير 1954 كتب يقول: "داخل الجالية الأمريكية هناك النماذج الأشدّ سوءا، والتي لم ينتج بلد الحرية مثلها أبدا. هناك مكانان أمريكيّان: دخلت الى الأول ظهيرة يوم سبت في الساعة الواحدة. والمشهد الذي طالعني كان مريعا الى أقصى حد: أناس يترنّحون فاقدي الوعي تماما. ووجوه محمرّة تسقط في مقاعدها. دفعت ثمنا باهظا لجلستي التعيسة، ثم انسحبت". ولم يلبث ضيق بوروز أن امتدّ ليشمل أهل المدينة من العرب وثقافتهم. ففي رسالة الى آلن جانسبارج بتاريخ 26 كانون الثاني ـ يناير من العام المذكور، كتب يقول: "لست أدري ماذا تعني كلّ هذه الثقافات التي تروى عن الثقافة العربية. وعلى أية حال لقد تعلمت شيئا. وأنا الآن أعلم ماذا يفعل العرب على مدار الليل والنهار. إنهم يظلّون مقرفصين، أو متربعين يدخّنون ويلعبون الورق. وليس عليك بالخصوص أن تنصت مطلقا الى تلك السخافات التي يمكن أن يهذي بها بول بوولز عن "الشرق الغامض، العصيّ عن الفهم". ان العرب كسالى ومهذارون. وشيئا فشيئا يزداد وضع ويليام بوروز سوءا. وفي المقدمة التي خصّصها لعمله: "الغذاء العاري" كتب يقول: "كنت آنذاك أعيش في غرفة داخل طنجة العتيقة. لأزيد من عام، لم آخذ دشّا، ولم أغيّر ثيابي بل أني لم أكن أنزعها أبدا إلاّ لكي أغرس في كلّ ساعة الإبرة في لحمي الرمادي ذي الألياف، لحم من الخشب في المرحلة الأخيرة من كثرة الإفراط في تناول المخدرات". كراهية ونكران وفي شوارع طنجة التي كان يجوبها في الليل، وفي النهار، كان ويليام بوروز بقبعته الرمادية، ومعطفه المطري، ووجهه العريض الحادّ القسمات، يبدو لأهل طنجة شبيها بمفتش سري (وكان قد مارس هذه المهنة في فترة ما من حياته). وكان فتيان "السوق الداخل" قد أطلقوا عليه اسم: El hombre invisible (أي الرجل اللامرئي) ذلك أنه كان أحيانا يختفي ثم فجأة يبرز هنا أو هناك وهو واقف في ركن معتم، أو هو يسير في شارع ضيّق بخطوات ثعلب مرتاب. وبسبب إفراطه في تناول المخدرات، وإهماله التام لمظهره الخارجي، كان أصحاب الحانات يعاملونه بقسوة، بل وقد يرفضون تلبية طلباته. وفي رسالة بعث بها الى آلن جانسبارج بتاريخ 24 يونيو ـ حزيران 1954، كتب يقول: "البارحة رفض دين (صاحب دينس بار) تلبية طلبي مديرا عينين مفعمتين باللوم. غير أن Kells كان هناك. وهو زبون جيّد (هو يحسّ أني شخص خطير، غريب الأطوار، ويجلب النحس). وهكذا ظللت جالسا هناك محطما، مهزوما، متلذّذا احتقارهم لي". وعلى مدى الثمانية أشهر الأولى لم يتمكن ويليام بوروز من أن يلتقي ببول بوولز إلاّ مرّة واحدة. . ويبدو أن هذا اللقاء كان فاترا، وخاليا من أية مودّة. . ومشتكيا من ذلك، كتب بوروز الى آلن غانسبارغ بتاريخ 19 أغسطس - آب 1956 يقول: "المرة الوحيدة التي التقيت به فيها لم يكن بول بوولز وديعا معي. ومنذ ذلك الحين لم يفعل أيّ شيء لمواصلة العلاقة. وربما هو يتصوّر أن مخاطبته لرجل مشهور جدا بغرابته يمكن أن تجلب له مشاكل. وبما أن تينيسي ويليامز وترومان كابوتي هما من أصدقاء بوولز، فإنه من الطبيعي ألاّ أتمكّن من الالتقاء بهما عندما يمرّان من هنا". عقب أزيد من سنة أمضاها هناك، بدأ ضيق ويليام بوروز بطنجة، وأهلها من العرب بالخصوص، يخفّ ويتلاشى شيئا فشيئا. وها هو يخرج للتفسّح في ضواحي المدينة ليكتشف أن هناك "جمالا وحشيّا" يجعله يشعر هو الذي كان في ذلك الوقت يعاني من عقم في الكتابة بأنه قادر على أن يكتب خمسين صفحة عن تلك الجولة الرائقة التي بدت له شبيهة بـ"رؤيا صوفيّة". وفي رسالة بعث بها الى كلّ من آلن غانسبارغ وجاك كيرواك بتاريخ 23 أكتوبر ـ تشرين الأول 1955، كتب يقول بإنه بدأ "يستعذب الحياة العربية". ثم لم يلبث ذلك الضّيق أن اضمحلّ تماما. وفي رسالة أخرى لصديقيه المذكورين هو يعبّر عن ابتهاجه بالعيش في "مدينة الحلم" التي هي طنجة. غير أن صحة ويليام بوروز لن تلبث أن تدهورت بسبب إفراطه الجنوني في تناول المخدرات، فسافر الى لندن ليمضي بضعة أشهر هناك. العودة إلى طنجة ثم من جديد عاد الى طنجة. وفي هذه المرة، استقرّ في فندق "المونيريّة" الذي كان يملكه بلجيكي، ورجل عصابات من مدينة بيرمنجام يدعى بول لوند. وفي الحين شرع في كتابة "الغذاء العاري": "بدأت في الكتابة واهبا إياها كلّ وقتي تقريبا. يحدث هذا لأول مرة في حياتي. أحيانا أحرص على أن أحمل معي دفترا عند الذهاب لتناول العشاء". في شهر فبراير - شباط من عام 1957، وهو نفس العام الذي صدرت فيه رائعته "على الطريق"، التحق جاك كيرواك بصديقه ويليام بوروز. ومستحضرا وصوله الى طنجة في باخرة قادمة من "الجزيرة الخضراء" الاسبانية، كتب كيرواك يقول: "فجأة موكب بطيء من المسلمين يرتدون الأبيض. غير أن ذلك لم يكن كما تبيّن لي في ما بعد سوى السقوف البيضاء الموضوعة على الماء في ميناء طنجة الصغير. هذا الحلم بإفريقيا مرتدية الأبض على البحر الأزرق ـ يا له من شيء رائع! من الذي جلبه؟ رامبو! ماجلاّن! ديلاكروا! نابليون! تموّج شراشف بيضاء على السطوح!". ويضيف جاك كيرواك قائلا: "أحببت طنجة فعلا، والعرب الفخورين بأنفسهم الذين لا ينظرون اليك أبدا عندما تكون في الشارع، بل هم يهتمون بأنفسهم، عكس المكسيك حيث العيون تلاحقك أينما ذهبت". رؤية مختلفة أقام كيرواك في فندق "المونيرية". أمام غرفته الكبيرة التي كانت على السطح، باحة مبلطة تنفتح على "ديكور حالم" هو عبارة عن مجموعة من البيوت المغربية الصغيرة، وفضاء ترتع فيه ماعز. ومن غرفته تلك كان باستطاعته أن يرى المضيق. وفي ساعات الصحو تتبدّى له سواحل الأندلس. وفي الصباحات المشمسة كان يجلس في الباحة ليقرأ، أو ليدخن منصتا الى نواقيس الكنيسة الكاثوليكية القريبة من هناك. وفي الليل، محدّقا في البحر، يراقب البواخر القادمة من الدار البيضاء، من الجزيرة الخضراء. وكان ذلك يزيده اقتناعا بأن رحلته الى طنجة لم تكن خاسرة. وكان بوروز قد استعاد حيويته ونشاطه. وقد بدا لصديقه جاك كيرواك قويّ العضلات. معا راحا يطوفان في الميناء، وفي بارات المدينة، وأحيائها البائسة. وكان جاك كيرواك سعيدا مثل طفل. أما ويليام بوروز فكان فخورا بانه أصبح دليلا جيّدا في طنجة، وعارفا بأسرارها. وكان الصديقان قد شرعا في العمل معا لإصلاح مخطوط "الغذاء العاري" لما التحق بهما الن جنسبارج مصحوبا بصديقه بيتر اورلوفسكي. . وجميع هؤلاء انشغلوا بمخطوط "الغذاء العاري". وفي أوقات الاستراحة، كان الأصدقاء يقومون بجولات على الشاطئ، ويمضون ساعات في الثرثرة، وفي الاستماع الى دعابات صديقهم "ويل" السوداء. وكانوا يتناولون طعام العشاء في مطعم "الف ليلة وليلة" الذي يملكه صديقهم الأمريكي الأسود بريون جيزين الذي كان عاشقا لطنجة هو أيضا وعنها كتب رواية بديعة حملت عنوان: "الصحراء التي تلتهم". وقبل أن ينتهي عام 1957، غادر كل من جاك كيرواك، وآلن جانسبارج، وبيتر أورلوفسكي طنجة عائدين الى أمريكا. أما ويليام بوروز فقد ظلّ مقيما في فندق "المونيرية" منكبا على اصلاح وترتيب فصول "الغذاء العاري". وحالما انتهى من ذلك انطلق الى باريس عام 1958. ولم يعد الى طنجة بعد ذلك أبدا. . .
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©