الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكاية موسم الهجرة إلى الشمال؟

حكاية موسم الهجرة إلى الشمال؟
25 فبراير 2009 23:47
ثمة تقليد في قرى شمال السودان (يمكن العثور على ما يشابهه في بلاد الشام أيضاً)، وهو أن تطلق الأسرة على الطفل الذي يعيش بعد أن تفقد الأم حملها أكثر من مرة، لقب الطيب، لأنهم يعتقدون أن ''الطيب'' اسم تحل به البركة إذا كانت الأسرة تفقد مواليدها، وهذا ما فعلته والدة الطيب صالح، من دون أن تنتبه أن هذه ''البركة'' لن تكون قصراً على الأسرة فقط، بل ستمتد إلى الثقافة العربية لتمنحها هذا الصوت الإبداعي الخاص والمتفرد· الطيب صالح ليس بدعة بين المبدعين الذين حالفهم الحظ في عمل ما يبقى خالداً في الذهن، فيغطي على إبداعاتهم الأخرى، وهم شوارد إبداعية نعثر عليها هنا وهناك· في حالات كهذه يرتبط اسم الكاتب بعمله الإبداعي ويسكنه الى الأبد، ويقترن به في علاقة لا تنفصم، وهذا ما حدث مع الطيب صالح، الذي منحته روايته الشهيرة ''موسم الهجرة إلى الشمال'' فضلاً عن الشهرة وذيوع الصيت، لقباً يغبطه ويحسده عليه روائيون كثر وهو ''عبقري الرواية العربية''، وسواء كنا مع هذا أو ضده، سيبقى هذا اللقب علامة فارقة نميز بها الطيب صالح من غيره، ونعرفه به كما نعرفه من لونه واسمه وملامح وجهه· فعلى الرغم من أنه كتب غيرها عدداً من الروايات والقصص القصيرة التي لا تقل عنها فرادة وتميزاً مثل ''عرس الزين'' و''بندر شاه'' ظل الطيب صالح موشوماً بـ ''موسم الهجرة إلى الشمال'' لكن ما هو السرّ الكامن وراء ذلك؟ لاعتبارات ليست كلها إبداعية بالضرورة، خطفت ''الموسم'' البريق، وأحيطت بهالة واسعة من العناية والاشتغال النقديين· فالرواية من أكثر روايات القرن الماضي شهرة، ووضعت حولها الكثير من الدراسات والبحوث، ونالت من التقريظ ما لم تنله رواية أخرى، حتى إنها تحولت لتمارس نوعاً من السطوة الإبداعية التي عانى منها الطيب صالح، كما اعترف هو نفسه ذات مرة، وبات أسيراً لها· فعل المرحلة ويبدو لي أن المرحلة التي ظهرت فيها الرواية (1966) لعبت دوراً في ذلك، وكانت واحداً من هذه الاعتبارات، فقد نشرت في فترة كان أحد انشغالاتها الرئيسة يتمثل في توصيف وتحليل العلاقة بين الغرب والشرق، هذا الموضوع الإشكالي الذي حظي لدى المثقفين العرب والغربيين بأهمية خاصة، وكان المثقف العربي يعيش نوعاً من الصدمة الحضارية، أو التأزم العقلي والانفصام النفسي والتمزق الوجداني بين تقاليد المجتمع العربي المنغلقة التي يحملها على عاتقه، وبين تقاليد الحضارة الغربية المنفتحة التي تصطدم في أحيان كثيرة مع ثوابته الثقافية والحضارية· في هذا المناخ جاءت ''موسم الهجرة إلى الشمال'' لتعالج هذه الإشكالية بجرأة كبيرة (أثارت أحياناً سخط المحافظين) ومتقدمة على أعمال سبقتها (توفيق الحكيم في ''عصفور من الشرق'' أو سهيل إدريس في ''الحي اللاتيني'')· فحظيت باهتمام واسع، نظراً لجرأة الطرح والنظرة التحليلية الثاقبة لهذه العلاقة الإشكالية التي جسدها الطيب صالح عبر بطله ''مصطفى سعيد'' في معالجة رمزية توظف الجنس على نحو تأويلي يجعله معادلاً للصراع الحضاري بين الثقافتين (الغربية والشرقية)· ينضاف إليهما تلك اللوحات التي رسمها للسودان وتقاليده وقريته بتفاصيلها اليومية والحياتية وحمولاتها النفسية والاجتماعية، ودلالالتها الحضارية والروحية، من دون أن ننسى أن الرواية على المستوى الفني قدمت اقتراحها أو مشروعها الروائي الذي يحمل جانباً من علامات التحديث، على المستوى الشكلي والأسلوبي والتقنوي، وأنها حملت خصوصيتها اللغوية على مستوى السرد والحكي، لكل هذه الأسباب وغيرها حصدت ''الموسم'' هذه الأهمية الاستثنائية· الغموض الأفريقي من أفريقيا وأسرارها، ظهرت الرواية في لندن حاملة صور الشرق وغموضه وعوالمه المتمظهرة في البيئة وصورها، وشخوصها، وطقوسها، وتقاليدها التي غالباً ما تبدو للغربيين ''غرائبية'' ناهيك عما منحها الروائي من أسطرة وسحرية آتية من عوالم الطفولة، وبدا أكثر من مرة أنه يكتب ليتصل بذلك الفردوس الضائع الذي فقده وإلى الأبد، فقد ظلت صور الطفولة في ذاكرته تستدعي حنيناً جارفاً لبراءة غائبة ووجوه يخشى أن تذهب هي الأخرى في النسيان وتغرب في بيداء الغربة، وفي هذا يقول: ''كتبت حتى أقيم جسراً بيني وبين بيئة افتقدتها ولن أعود إليها مرة أخرى· وأعتقد أن الشخص الذي يطلق عليه لفظ كاتب أو مبدع يوجد طفل قابع في أعماقه، والإبداع نفسه فيه البحث عن الطفولة الضائعة''· حضور البيئة هذا الحضور الكبير للبيئة ومفرداتها يعزوه الطيب صالح إلى أن قريته ''كانت مختلفة تماماً عن الأمكنة والمدن الأخرى التي عشت فيها، ولاشك أن هذه المنطقة هي التي خلقت عالمي الروائي''· وللقرية أو البيئة الريفية حضور هائل في أعمال الطيب الروائية، لا سيما في موسم الهجرة إلى الشمال، فهي تحضر بكل ما فيها، لتشكل مكاناً روحياً تتدفق صوره حارة طازجة من مختزنات الذاكرة والوجدان؛ رائحة التربة والثمار، اصوات النخل والزرع والطير، حفيف اوراق الشجر حين يداعبها النسيم، ينقلها بكل تفاصيلها وحيويتها، ليس على سبيل اللقطة الفوتوغرافية الميتة بل بكل ما فيها من الحياة المتحركة في البيوت والشوارع والناس، وفي الملابس الشعبية والطقوس والمشروبات والمأكولات والمجالس والطب الشعبي والشعر الذي يوظفه في ثنايا النص ليضع القارئ في لوحة واقعية يرى فيها الألوان والأمزجة ويسمع الأهازيج· من هنا، تعكس أعمال الطيب صالح الروائية، ثراء فكرياً وغنىً في الأبنية والأنساق والعوالم الفنية الآتية من غنى التجربة الحياتية والإنسانية التي يلتقط منها تفاصيل شخوصه وأحداثه، وما فيها من الأصالة والرحابة، والتعبير عن كل ذلك بلغة شاعرية موحية هي أقرب ما تكون إلى الأسلوب السهل الممتنع· فالطيب يمتلك أدواته الفنية، ويتميز بقدرته الفائقة على السرد والحكي لبلورة الفكرة ونسجها في تفاصيل شديدة الخصوصية، وفي بناء متكامل يتداخل في معماره الروائي الواقع بالخيال، والحقيقة بالأسطورة، وتتجاور أحياناً وتندعم أخرى في هذا المعمار الروائي اشكال شتى من التعبير الأدبي لتسهم في إيصال العمل إلى المتلقي، وتضعه في صورة الحياة التي تظهر ثرية، في تداعياتها وأسرارها وأشواقها وجمالياتها المختلفة· جماليات فنية بجانب هذه العوالم المضمونية، ثمة عوالم اللغة التي يتقن الطيب أسرارها، ويلعب بمهارة على مترادفها ومتشابهها ووظائفها النفسية والجمالية، مستخدماً لغة متعددة المستويات، بحيث تحمل خطاباً فكرياً عميقاً في قوالب بسيطة وبعيدة الغور في دلالاتها في الوقت نفسه، كما أن لغته توظف جميع الحواس (السمع، الذوق، الشم، البصر) لكي توصل القارئ إلى حالة يشعر معها أنه يرى الموقف الموصوف ويدركه ويحسه ويشعر بحركاته وسكناته· فالطيب الصالح، لطالما أراد للرواية أن تعبر عن فكره الموسوعي، وأن تحيط بعالمه الفكري وجوانياته وتفرعاته وهواجسه الحضارية والأدبية والسياسية والمجتمعية وحتى صبواته التراثية· فالطيب كاتب صحافي، وسياسي ومؤرخ وحكواتي ومهتم بحقوق الإنسان، وإن غابت هذه الجوانب وراء صورة الروائي الذي ذاع صيته، وهي جوانب لا تقل أهمية وثراء عن صورته الروائية والإنسانية· ثمة درس خفي يمكن أن يخرج به المرء من ''حكاية الشهرة'' الخاصة بهذه الرواية لا علاقة له بعوالمها، بل بالطيب صالح نفسه، وهو التواضع، ففي الوقت الذي يجمع النقاد على اختلاف اتجاهاتهم على أنه غزا العالمية مثلما غزا ''مصطفى سعيد'' بطل روايته أوروبا، نجد أن مثل هذا الإطراء وغيره كثير، لم يكن ليجعل الطيب صالح يتنازل عن الطيبة والتواضع اللتين تميز بهما، ففي الوقت الذي نجد مبدعين أقل منه بكثير يتيهون على الناس خيلاء، ويملأون المجالس صخباً، ويرهقون من يسمعهم بـ ''أناهُم'' المتضخمة، يتحلى هو بتواضع شديد غير مصطنع، يمكن أن يلمسه كل من يتعامل معه، ويعلق على أهمية روايته التي اختيرت ضمن مئة رواية من أهم روايات القرن العشرين: ''ليس لديّ أي إحساس بأهمية ما كتبت، ولا أحس أنني مهم· هذا ليس تواضعاً لكنها الحقيقة· إذا اعتقد الناس أن ما كتبته مهم فهذا شأنهم لكنني قطرة في بحر، قصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر''· ''النوارة'' هو الاسم الذي يصف به السودانيون الطيب صالح، فهو ''نوارة الثقافة السودانية'' حسب الكاتب عبدالله علي ابراهيم الذي يؤكد على ضرورة إخراج الطيب صالح من دائرة السودان إلى دائرة اوسع وأشمل عند بحثه ودراسة منتجه الفكري والإبداعي·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©