الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فالتر بنيامين: عابر باريس

فالتر بنيامين: عابر باريس
27 أغسطس 2014 20:40
على مدى إقامته القصيرة في باريس عام 1913، استولى إحساس متناغم على فالتر بنيامين مع رؤيته المناظر الحضرية، فاكتشف فن التسكع. «باريس هي صالة القراءة الكبرى لمكتبة تجتاز نهر السين» (صور الفكر). لم يكن فالتر بنيامين مترجم بروست والمعجب بـ«فلاح باريس» لآراغون و«ناديا» لبروتون وسيطا متحمسا بين الثقافتين الفرنسية والألمانية في العشرينيات والثلاثينيات. كان شغوفا، بعمق، بالقرن التاسع عشر، كما تشهد كتاباته حول بودلير. اشتغل بشدة، من 1935 إلى 1939، على نتاج لم يستطع إنجازه، حيث كانت باريس في مقدمة المشهد عبر «معابر» مشيدة بدءاً من 1822 غناها آراغون في «فلاح باريس». هذا الكتاب «كتاب المعابر» الذي، على الرغم من عدم اكتماله، بين مشهدا ذكيا عن حضارة القرن التاسع عشر، وبلور حياة بنيامين نفسها في تطورها بين برلين وباريس. هذا المنفي الهارب من النازية والمتردد بمثابرة على صالة القراءة بالمكتبة الوطنية، بالتأكيد، موجود في هذا الكتاب. ولكن، عبر التجاوز الذي يتضمنه الكتاب، يرجع بنيامين إلى طفولته: نزهاته في برلين التي ألهمته، حقاً، أول استلهاماته القوية قبالة ظاهرة المدينة الحديثة. على مدى إقامته القصيرة في باريس عام 1913، استولى إحساس متناغم عليه مع رؤيته المناظر الحضرية التي لم يختبرها في برلين من قبل. كانت علاقة جديدة، عفوية، لم يجدها إلا في العشرينيات، لما أقام أحيانا شهورا في باريس لكي يشتغل عليها. ولكن ما يتبقى لديه، يتمثل في التناقض مع برلين، ذلك التناقض الذي حلله منهجيا، مثلما قدر موقف ظاهرة المدينة الكبيرة. ساعدته باريس على إبراز كابوسه عن برلين، على أن يبلغ ما سماه «ضعفه أمام المدينة». ماذا اكتشف، تحديدا بفضل صديقه فرانتس هسل الذي أصبح مرشده في التسكع؟ فن إغواء المنظر الحضري. مما مكنه من أن يقتني بدوره شيئاً من الغرابة والنشاط واليقظة، ودعم الملاحظة. أغوته علامات المدن، شوارعها، بناياتها، عابروها، وظلت سهلة القراءة وهي تخلب لبه. مما سمح له بتطوير دفاعه ضد الأخطار والرعب. مما شكل لديه فن الإغواء، التلقيح، في جوهره، ضد المضامين المتطرفة: تقريظ المدينة، أو رفضها المغلوط تاريخيا. في 1935، تعلق بنيامين في المقام الأول بدراسته عن المعابر الباريسية، وتحرر من صدمته البرلينية على الأقل التي ذكرها في: «طفولة برلينية»، في عام 1900. هذه الوقائع، المتبوعة بشيء من النثر، أعده بين أعوام 1932 و1934: خلالها، واجه البربرية النازية محاولا أن يجد في تجاربه الشخصية، في السرد الشعري للأحداث الذاتية، ما يمكن أن يبلغه. متخلصا من التضمين الشخصي، يستطيع، هذه المرة مع «كتاب المعابر» أن يحمل نظرة تاريخية صافية. مقررا أن يقرأ «خارطة تاريخ العلامات في القرن التاسع عشر»، موضع مكان «الاستبشاح» (1) في المسيرة الثقافية في عصر الرأسمالية التجارية. في مفهوم «الاستبشاح»، الذي استعاره من دراسات ماركس حول فتشية البضاعة، رأى الأثر السحري الذي انتهى إليه بأن يكون مكسوا بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية. من الضروري رفع هذا الستار والنظر. لكي نلاحظ ماذا؟ على سبيل المثال، نشأت «المعابر» من الآثار الاقتصادية المتعذر دحضها التي رافقت نمطها في البناء ووظيفتها: استعمال المعمار المعدني الجديد وانتشار صناعة النسيج. ولكن إذا كان «الاستبشاح» يحقق «سحرا»، و«فك السحر» معرض دوما للحصول على مكان، وباريس تظهره جليا: «مع ذلك، هذه الومضة، مثلما كتب بنيامين، وهذا البهاء اللذان يحيطان بالمجتمع المنتج للبضائع، والشعور التوهمي بأمنها غير بعيدين عن التهديدات، إذ إن انهيار الإمبراطورية الثانية وكومونة باريس في الذاكرة». في وجهة النظر تلك، أصبحت باريس «عاصمة القرن التاسع عشر»، إذ يوجد فيها وجها القرن. باريس، رأس جانوس. مدينة طورتها رأسمالية محملة بالحلم، مدينة الاستبشاح حيث ترتدي الواقعة زيا غريبا مزدانا بحلي أوبريت مدينة أوفنباخ. ثم، مدينة الثورات، ثورات 1789، 1830، 1840، 1871، التي تشكل قيدا طويلا على القطيعة مع الحلم. هذا الروسم، أعاد بنيامين التفكير فيه في 1938. على مدى قراءاته في المكتبة الوطنية، اكتشف كتابة متأخرة لنصير ثورة باريس الشعبية للعوام، بلانكي (2)، كتبها في سجنه: «الأبدية عبر الكواكب». أفضى سقوط الكومونة بالثوري إلى أن ينقل، على المشهد الكوكبي، تشاؤمه أمام إمكانيات تحول الممارسة الاجتماعية. بالنسبة لبنيامين، يجب أن تكون هذه الممارسة مأخوذة «كرؤية شيطانية»: رؤية أسطورة العودة الأبدية. هذا الكتاب، كما كتب عن «الأبدية عبر الكواكب»، حقق مجموعة من كواكب استبشاح القرن عبر آخر استبشاح، ذي الخاصية الكوكبية، الذي يتضمن، على نحو ضمني، النقد اللاذع. غير التوجه الذي منحه لدراسته عن «المعابر»، حينما اشتغل عليها ثانية في عام 1939. وبالتالي وجد نفسه مصابا «بالاستسلام اليائس» لبلانكي. منذ 1935، سقطت الجمهورية الإسبانية، وفشلت الجبهة الشعبية في فرنسا، وضم النازيون النمسا، واحتلوا تشيكوسلوفاكيا. ومع ذلك، لم تصب المرارة بنيامين. تخلى عن «الرؤية الشيطانية» لبلانكي متخذا تحليلا جدليا لها الاستبشاح الأخير من استبشاحات القرن التاسع عشر. آنئذ، استبعد تناقضا تقدما/ أفولا، لحساب فكرة جديدة: بمعرفة أن عصور الأفول، حقا، لا توجد. من اللازم اختبار القرن التاسع عشر تحت زاوية إيجابية كليا، بنفس الطريقة التي درسها عن القرن الثامن عشر في نتاجه عن الدراما الباروكية. آنذاك لم تكن باريس، ببساطة لدى بنيامين، مناسبة للعودة إلى برلين. كانت الوسيلة، ما وراء تاريخها الشخصي، لفهم التاريخ. بالاستسلام لليأس، قدم، قبل أن تدفعه الأحداث بعد ذلك إلى الانتحار، تحليلاً عن جملة المتناقضات في القرن التاسع عشر. وهذا لكي يرفع، بعناد، توهم كافة استبشاحات هذا القرن. هوامش: *عن: ماجازين ليترير، رقم 273. (1) الاستبشاح: فن إظهار الأشباح في قاعة مظلمة بمساعدة الخدع البصرية. (2) إشارة إلى ثورة باريس الشعبية التي جرت في عام 1871.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©