الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإنسان في مقام الجان

الإنسان في مقام الجان
27 أغسطس 2014 20:40
عن قصة وسيناريو وحوار أحمد مراد، تعرض دور العرض السينمائي حاليا في مصر، الفيلم المأخوذ عن روايته «الفيل الأزرق»، محققا نجاحا كبيرا وإيرادات تخطت حتى الآن الملايين الخمسة، في ظاهرة جديدة تسترعي الانتباه، وتعيد للأعمال السينمائية المأخوذة عن أعمال أدبية رونقها وحضورها بعد غياب طويل. «الفيل الأزرق» من بطولة كريم عبد العزيز، وخالد الصاوي، ونيللي كريم، ومحمد ممدوح، وشيرين رضا، والفنانة القديرة لبلبلة، ومن إخراج مروان حامد، الذي قدم في تجربته السينمائية الرابعة عملا مميزا وباهرا على مستوى الصورة والديكور والإضاءة والجرافيك، سيجعله ينافس على العديد من الجوائز في المهرجانات السينمائية القادمة. والفيلم الذي أعاد جمهورا غائبا إلى دور العرض، استطاع عبر تضافر عناصره الفنية والتقنية بحرفية، أن يقدم تجربة جديدة على كل المستويات، بدءا من النص الروائي الذي حقق نجاحا وانتشارا لا مثيل لهما، حيث طبعت الرواية أكثر من 10 طبعات، ووصلت للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2014، مرورا بالسيناريو المعالج سينمائيا بوساطة الكاتب نفسه، واختيار فريق العمل «الممثلين»، وصولا إلى توظيف الديكور والموسيقى التصويرية وزوايا التصوير الجديدة، وغيرها من عناصر العمل في إخراج فيلم باهر يحبس الأنفاس ويقدم دراما جديدة تركز على الشخصيات وأزماتها الداخلية وتناقضاتها الإنسانية. ورغم العوائق التي تمثلت في رفض جهات كثيرة التصوير فيها خاصة مستشفى الأمراض النفسية بالعباسية، مما اضطر صناع العمل إلى بناء ديكور كامل للمستشفى وعنابر المرضى، بالإضافة إلى صعوبة الأدوار وتركيبتها النفسية المعقدة، والإمكانات الإنتاجية الضخمة، فإن إصرار مخرج العمل على الحفاظ على روح النص المكتوب مع تقديم صورة سينمائية ناصعة وباهرة، وتفهم جهات الإنتاج المتعاونة في إنجاز الفيلم، مكنه بعد عام ونصف العام من العمل والإعداد من إنجاز فيلم متميز من كل الوجوه. والفيلم استغرق 7 أسابيع تصوير، على مدى أكثر من عام ونصف العام، وبسبب الظروف والاضطرابات السياسية التي عانتها مصر خلال تلك الفترة تأجل عرضه أكثر من مرة، وكانت هناك تخوفات من اختيار توقيت غير مناسب لعرضه يحجم فيه الجمهور عن الذهاب إلى دور العرض، خاصة مع الأزمة الكبيرة التي تعانيها صناعة السينما في مصر منذ 2011. ويمكن تصنيف الفيلم على أنه دراما شخصيات في المقام الأول، تتداخل فيها خيوط ثلاثة، الأول ظاهره بوليسي ينطلق من جريمة قتل يسعى بطل العمل الطبيب النفسي يحيى راشد إلى الكشف عن دافعها ومرتكبها في إطار نفسي، والثاني رومانسي يدور حول علاقة حب قديمة تتجدد بين البطل والبطلة «لبنى» شقيقة شريف الكردي المتهم بارتكاب الجريمة على خلفية اضطراب نفسي أصابه وتحول غريب غير مفهوم طرأ على علاقته بزوجته القتيلة، والثالث والأخير، وهو الأكثر إثارة وتشويقاً، يدور في أجواء غرائبية تستدعي عالم الجن والعفاريت والطلاسم وكسر الزمان والمكان والانتقال إلى عوالم متباينة في فترات تاريخية قديمة، والمواجهة الأبدية بين الخير والشر في عالم لا يحكمه منطق ولا يخضع للحواس. وسؤال الفيلم، وهو ذاته سؤال الرواية وهاجسها: متى يواجه الإنسان نفسه؟ وهل نحن في حاجة لأن يقتحم الجان حياتنا كي يواجهنا بأزماتنا وما نجهد في إخفائه حتى عن أنفسنا؟ لماذا لا نملك القدرة على الغفران إزاء ما نرتكبه من خطايا في حق أنفسنا والآخرين؟ هذا السؤال على تجريديته وبساطته، استدعى من صناع الفيلم مجهودا جبارا لتجسيده دراميا، فالطبيب يحيى راشد الذي فقد أسرته الصغيرة (زوجته وابنته نور) في حادث مأساوي اعتبر نفسه مسؤولاً عنه، وهو كذلك إلى حد كبير، قرر أن يحيا في عزلة كالأموات، جسد بلا روح، وحواس بلا إحساس، حتى يفاجأ بأنه أمام واقع جديد وغريب يفرض عليه العودة وبكل قوة إلى الحياة ليفاجأ مجددا بأنه أمام حب عمره، عبر الاشتباك بجريمة قتل متهم بارتكابها صديقه الطبيب أيضاً شريف الكردي وشقيق حبيبته القديمة لبنى. وعبر سلسلة من الأحداث والمفاجآت المتقنة، نخوض رحلة مدهشة وسيلتها قرص عجيب «الفيل الأزرق»، هو في الحقيقة نوع من المخدرات الفتاكة، لكنه في ذات الوقت يفتح الباب على عوالم شديدة الغرائبية ومغرقة في الخيال لا يجمعها منطق ولا يصدقها عقل، فيها الحلم وفيها الهلاوس وفيها أيضا سر الجريمة وكشف اللغز. ولا نستطيع القول إن الفيلم قدم محاكاة خالصة للرواية المأخوذ عنها، نظرا لإجراء تعديلات أدخلت على النص المعد للسينما، بمعرفة كاتبه، الذي كتب السيناريو أيضا، ولكن دون إخلال بالروح والفكرة المحورية للعمل، ويبدو أن إصرار مخرج العمل مروان حامد على أن يقوم مراد بكتابة السيناريو كان موفقا للغاية، إذ كان من الشائع أن يقوم كاتب سيناريو آخر بكتابة المعالجة الدرامية أو السينمائية للعمل الأدبي حال تحويله إلى فيلم سينمائي. و«الفيل الأزرق» أطلق طاقات تمثيلية كامنة وهائلة لأبطاله الكبار، كريم عبد العزيز قدم واحدا من أفضل أدواره إن لم يكن أفضلها على الإطلاق، أما خالد الصاوي فليس جديدا عليه أن يبهر جمهوره بأدائه المذهل القادر على الانتقال بين ثلاثة أدوار مختلفة تماما فيما بينها «شريف الكردي» و«المأمون» و«نائل»، ويقوم بتأديتها في وقت واحد ببراعة متناهية، لايكاد يفصل بينها سوى ثوان في المشهد الواحد، فيما بدت نيللي كريم بلا تكلف أو افتعال، وأدت دورها المرسوم لها ببساطة لافتة. وهذا الثلاثي اللامِع قدم مُباراة صعبة تدور في أجواء خيالية، تبارى كل منهم في استكشاف أظلم المناطق في الشخصيات التي يؤدونها والتوحد معها، حيث ترى في الفيلم دموعا ودماء وجنونا وضحكات هيستيرية وحتى لحظات تنتزع الابتسام والضحكات بسخرية محببة دون استظراف أو تكلف. وتألق فريق العمل في الأدوار المساعدة، وظهرت قدرات محمد ممدوح في دور «الدكتور سامح»، وأثبتت شيرين رضا أنها فنانة رائعة في دور «ديجا» أو ضاربة الوشم، وكعادتها قدمت لبلبلة دور «الدكتورة صفاء» مديرة مستشفى الأمراض النفسية والعصبية بحرفية عالية. وواضح أن الروح المسيطرة على فريق العمل بأكمله كانت تتركز نحو صنع سينما جديدة ومختلفة، قدمت عملا مشرفا لكل من شارك في الفيلم. وأخيرا، فإن المخرج الواعد الذكي مروان حامد، أثبت أنه مخرج محترف بكل المقاييس، وسعى بكل جهده للحفاظ على روح العمل الأصلي كأنه هو الذي كتبه واحترم بشدة الخطوط الرئيسية فيه، وعقد جلسات عمل مطولة وشاقة مع الممثلين، وجلسات تدريب لفريق العمل واستعان بأفضل الفنانين خلف الكاميرا؛ أحمد المرسي مديرا للتصوير، وناهد نصر الله مصممة الأزياء، ومحمد عطية مهندس الديكور، والمونتير أحمد حافظ، وهشام نزيه مصمم الموسيقى التصويرية. ويعد «الفيل الأزرق»، أحد أفضل أفلام 2014، إن لم يكن أفضلها حتى الآن، وسيفتح بابا جديدا في مجال الصورة السينمائية المصرية والعربية. وفي المجمل فإن الفيلم قدم تجربة فريدة ومغامرة جديدة تماما في السينما العربية، لأنه عمل مُختلف يَحمل الكثير من التحدي، ولم يكن لرواية أدبية مهما كانت لتصبح فيلما إذا فكر صناع العمل بعقلية المخرج العادي والمنتج التقليدي، خيال لا تستطيع توفيره السينما المصرية إلا عن طريق فريق من المغامرين؛ مثل مروان حامد ومن ورائه شركات الإنتاج الثلاث المساهمة في العمل، وبالطبع أبطاله الذين تميزوا بروح تحدٍ كبيرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©