الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طعم الهزيمة

طعم الهزيمة
2 أغسطس 2012
صدر مؤخرا للشاعر المغربي سعيد السوقايلي ديوانه الشعري الجديد الذي أطلق عليه اسم “مثل وقع قدميك”، ضم ثلاث مجموعات شعرية هي: “مثل وقع قدميك” و”القطرة حلمة الماء”، و”النهر لا يعد نفسه”، ويقع العمل الشعري الذي صدر في لبنان، عن دار الغاوون في 12 صفحة من الحجم المتوسط. وينتمي الشاعر المغربي المولود في سنة 1970 إلى جيل تسعينيات القرن الماضي وهو جيل شعري عُرف بصوته الذي يعّبر بكتاباته عن قلق وجودي، سواء على مستوى الشكل أو المضمون، خاصة وأنه جيل مهووس بالبحث عن صوت يقطع مع الأجيال السابقة، والتمرد على القوالب والمقاييس التي أرستها الحداثة التقليدية، مُراهنا على لغة مُتيسّرة وانسياب بلا حدود للمكنونات المتدفقة من الذات واليومي، كما أن قصائد الشاعر سعيد السوقايلي تنفرد بطعمها الذي تكشف عن انهزام الفرد، والإحساس بالعزلة، وتشظّي الروح، مما يدفع هذا الكائن الحساس إلى الهروب الى تأملاته وأبراجه العالية لنسج منها عوالمه الخاصة، سيرا على درب عدد من الشعراء المغاربة الجدد الذين يراهنون على السيري لاجتراح المعنى مرتكنين إلى الانصات الى الدواخل والأعماق بدل نقل التجارب الأخرى المستنسخة ينشدها بكلمات وصور شعرية تؤسس لمنجز شعري يقوم على البساطة في اللغة، والتمرد على الإيقاع بكل أشكاله بما فيه الوزن العروضي، والميل الى السرد المتيسر في حكي تجارب الذات في علاقاتها المختلفة مع الاشياء والعوالم المحيطة. بهذا المعنى تأتي قصائد سعيد السوقايلي القصيرة التي نقرأها في ديوان “مثل وقع قدميك” حيث يقول في نصه المعنون “ضفة الشاعر”: “لقد مروا يا أبي، مروا بمحافظ ثخينة، ولم ألحق بهم، مروا خفافا وصاروا جنرالات ومجرمين... كل ما في الأمر يا أبي، أني بقيت هناك، إذ ثمة سلحفاة لم تعبر بعد إلى الضفة الأخرى”. وفي نص بعنوان “غربة” يقول: “أعبر وجوهكم الكثيفة، وأحيي أشجار الشوارع واحدة واحدة، غريبا كما ينبغي، مجنونا كما تزعمون”. وفي نص بعنوان “شجرة تكتبني” يقول: “كانت مجرد شجرة قرب بابي، أحييها كلما مرة، فلا ترد، كثيرا ما ينتابني الغضب لقطع هذا الحارس ذي الشعر المنفوش، الذي يرمقني بريبة ويرخي جذوره تحت منزلي، أكاد أرى دروعه تمتد إلى سريري وإلى مكتبي، يشاطرني الأحلام والكتابة، كما لو يملي علي ما أكتب، داعيا إياي في كل سنة، أن أقرأ ـ وهو المتريث ـ أجمل تحاياه، وأفصح أفكاره معلقة بين أوراقه الخضراء”. وفي نص يعنوان “كلما خرقتُ جدارا” يقول: “حجرة حجرة، أهد سدود فيضاناتي الموسمية، شجرة شجرة، أنثر غاباتي من أجل وحوشي الضارية؛ وأنا لمن لا يعرفني، أطلق أيضا الحمام في سماء رحبة. فُضْلاً هلا أتيتموني قبيل الفجر، وأنا أفتح الإسطبلات، لتركض الأحصنة إزائي، مبتهجا بحريتها وهي تدوسني. لذتي الكبرى أن أصدم الحواجز العصية كلما خرقت جدارا”. وفي نص بعنوان “الظلال تتفيأ أشجارها” يقول: “هكذا دائما في الغابة، الظلال تتفيأ أشجارها، الأشجار في كل خريف تشير بأصابعها نحو السماء، زهرة خبازي تتفتح بهدوء واثق معلنة عن نهاية الشتاء، الطريق الوحيدة تحاذي النهر كما الأشجار، الثمار تسقط بسرعة أما الأوراق فوئيدا، عصفور الطنان يطارد ذبابة تائهة بين الزهور، الأزهار تكور حزنها بالأريج ثم تذرف قطرة ندى، شجار عابر بين شرذمة من العصافير يهوش على الظهيرة صمتها، شجرة منكفئة تهمس للنهر بسعادة ما دام التيار لن يجرف صورتها، طائر وحيد سئم المدينة الصاخبة يحلق بحثا عن عش جديد... هكذا دائما يحدث في الغابة على مرأى من شمس لن تفهم معنى الظلال. في هذه النصوص وغيرها، ينحت الشاعر نصوصه بنفسه السردي المنساب، و يعمل على تغيير اللغة تماشيا مع لغة اليومي، والابتعاد عن الصورة والميل الى المباشرة والتقريرية، والتمرد على طريقة تأثيث الحيز الورقي، حيث تعامل الشاعر مع نصوصه تعامل الكتابة النثرية، وإن كان إيقاع الجمل والكلمات والدفقات الشعورية تتأثث بشكل آخر يستشعره المتلقي، وتراهن القصائد هنا على لغة المفارقة والسخرية في انتقاد القيم السائدة، وهي قيم غالبا ما ترتبط بالجواني، وتخاطب الدواخل وتكرس أحلام الشاعر المجهضة ورؤاه التي تنمو مع الزمن انطلاقا من طفولة عاصفة إلى حيث تسير السفينة المثخنة بالجراح وسط الأنواء. ومن نصوص هذه المجموعة نقرأ: لن أعترف ببراءتي! الكائن الذي بداخلي، لا يهدأ، حين يكتمل البدر، يخرج في هدأة من المدينة، ينعتونني (بالوحش)، أستغـرب لذلك، وهم المسوخ، على الأرجح أقترف (جرائمي على حد قولهم): أكسر مصابيح الشوارع، أهد القناطر، وأحفر مزيدا من الأخاديد حول ضفتي النهر، أجرف الأرصفة لتتبعني الغابات والأدغال، أقلم عمارات أشبه بالأظافر، أصعق كل من أصادفه أمامي بأنوار لا يعترف بها أهل المدينة المعتوهين.. لي هبة عجيبة، كأن أشق الصدور، وأقايض كل قلبين، الطيب بالشرير، والعجوز بالشاب، والغني بالفقير.. وفي النهار أتجول بين هؤلاء المسوخ كساعي البريد أوزع رسائل بيضاء، أو أجلس على قارعة طريـق في وضعية يوغا كدرويش هندي، أسترق السمع والبصر.. لن أعترف ببراءتي مما اقترفته، فأنا الجاني الجميل، الطريد النبيل. وحين أشمئز، آوي إلى مهد طفلي الرضيع أتلو عليه آخر أشعاري. على مضض أقيس خطواتي بحجم الوقت الذي يوصلني إلى حيث أشاء، أدرك أني رياضي فاشل في الحساب، إذ ثمة أمور كثيرة تعوزني، كأن أحترس مثلا من عمود كهراء لكيلا أصاب بصعقة ذاكرة، أستعيد بها ما فاتني من الأزمنة التي نزفت مني وأنا أعبر الدروب الطويلة طوال حياتي، غير ظافر بشيء؛ أو كأن أقع في هاوية ما، لا يهم إن وقعت ما دمت ماسكا بتلابيب ثقتي محاولا النهوض من جديد. رجل يحضن شجرة ولأني مهووس بالأشجار، سأسلك الطريق المظلمة، وعبر الأجمات الشائكة، أبحث عن شجرة عالية ومتغضنة، عاريا أحضنها، وبنشوة أليمة أتضور من الأحلام، أشبك ذراعي، أصابعي، رجلي، بكل شبر من جسدها، ألثمها بهذيان أعمى وجد للتو عكازته في زحمة الطريق، أتهجاها ورقة ورقة، أستعظم صمتها الثابت، ولأني مهووس بحكمتها المتغضنة، سأحضنها حتى أتخشب. حجر مرماة هنا أوهناك، فهي مجرد حجرة، تنتابها الريح، فتحلم بالزوبعة، يجللها الماء، فتهذي تحت الشمس كحجر كريم؛ أحيانا تحمد الله، أنها لم تخلق حجرا كريما، ذنبه كذلك، دفين الأعماق دائما. عارية، طليقة، تحلم ملء الأرض والسماء حين تعبث بها يد طفل. دراجة هوائية بمقود ودواستين وعجلتين تمتحنين الهواء، في المنحدر كما التلة، ثمة أنفاسك صرير يستحث أعشاب الجنبات على اللحاق بك، هوسك المنطلق، في الدروب والمنعرجات المتربة، أحلام طفل لا يهمه إن كان واقفا لصق الجدار، أو منبطحا لصق التراب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©