الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«وكالة البلح» ملاذ المصريين الهاربين من جنون الأسعار

«وكالة البلح» ملاذ المصريين الهاربين من جنون الأسعار
7 نوفمبر 2010 20:17
تحظى سوق وكالة البلح بشهرة واسعة بين المصريين باعتبارها من أكثر الأسواق شعبية في مجال الملابس المستعملة تمتد لنحو 20 فدانا من مساحة حي بولاق أبوالعلا العريق بالقاهرة، وتتمتع بموقع مهم فهي تطل على نهر النيل من ناحية الشرق وأمامها على الضفة الأخرى حي “الزمالك” الشهير بثراء سكانه وبجوارها من ناحية اليمين والشمال عدة مبان ومزارات مهمة مثل مبنى التليفزيون المصري ووزارة الخارجية. على نيل القاهرة وتحديدا بمنطقة بولاق أبوالعلا تصطف محال أزياء ليس لها واجهات زجاجية أو ديكورات مبهرة أو “مانيكان بلاستيكية” ترتدي أحدث صيحات الموضة وإنما ألواح وطاولات خشبية توضع عند باب كل محل وبامتداد الرصيف المقابل وعليها أنواع مختلفة من الملابس والمفروشات ومن حولها يتراص الزبائن يتفحصون القطع بأيديهم وعيونهم والبعض منهم يكتفي بعين واحدة فالأخرى تتفقد المكان برهبة خوفا من وجود شخص ما قد يتعرف عليهم ويعلم أن ملابسهم من “سوق وكالة البلح” المتخصصة في بيع ملابس “البالة” المستعملة أو كما يحلو للمصريين وصفها بملابس “الكانتو”. نشأة السوق يتفق تجار السوق على أن نشأة المكان ترجع إلى مطلع القرن 19 في عهد محمد علي باشا، حيث كانت الواجهة الأمامية من السوق المطلة على النيل بمثابة ميناء تفد إليه المراكب المحملة بالبلح من مختلف قرى ومدن مصر ليباع لسكان القاهرة فعرف المكان بوكالة البلح، واستمر الحال إلى أن احتلت بريطانيا مصر فتوسعت تجارة السوق لتشمل أيضا الكتان والأقمشة القطنية وكذلك بيع مخلفات الجيش الانجليزي من ملابس وأحذية وغيرها، وظل هذا النوع من تجارة الأشياء المستعملة يجد رواجا وانتشارا بين المصريين حتى بعد جلاء الإنجليز عن البلاد نظرا لمناسبة أسعارها لأبناء الطبقة الفقيرة وبمرور الوقت بات نشاط الوكالة يقتصر على تجارة المستعمل وقطع غيار السيارات بعد أن انتقلت تجارة البلح إلى سوق العبور شرق القاهرة منذ سنوات. ويقدر حجم رؤوس الأموال المتداولة في وكالة البلح بنحو 4 مليارات جنيه سنويا القيمة بالدرهم او الدولار ويعمل في السوق قرابة 50 ألفا بين تاجر وبائع ومتخصص في التنظيف وكي الملابس وتحميل وتفريغ البضائع. ومن أشهر تجار الوكالة عائلات “العمدة والصعيدي وعطية وحماد وأبو احمد وصالح ومحمود والشرقاوي”. يقول جمال محمود (47 سنة)، تاجر في السوق “رغم حصولي على بكالوريوس تجارة قبل 25 عاما إلا أنني فضلت العمل مع والدي في تجارة البالة والاستفادة من خبراته وكذلك من الفرص المتاحة في السوق للكسب. ويوضح أن كلمة “بالة” لا تعني الملابس وإنما قطعة القماش الكبيرة على هيئة الكيس الذي تعبأ فيه الملابس ونظرا لتعرضه لعوامل الطقس والتنقل على أرصفة الموانئ المختلفة يتسخ الكيس ويصبح بالة ومن هنا جاءت التسمية “ملابس البالة” أي البالية. أنوع البالات حول أنوع البالات التي تأتي إلى “وكالة البلح” من موانئ مصر الشهيرة كالإسكندرية وبورسعيد ودمياط عبر شركات ومكاتب متخصصة في استيراد تلك الملابس من كافة أنحاء العالم، خاصة أوروبا وأميركا، يقول محمود إنها تستورد لصالح تجار الوكالة بالكيلوجرام والذي يتحدد سعره وفقا لنوع البضاعة والموديل ودرجاتها من الجودة، لافتا إلى أن أغلى الأنواع من البالات هي التي يطلق عليها اسم “الكريمة” أو “نمرة واحد” ويصل متوسط ثمن الكيلوجرام منها 75 جنيها، وهي تضم بواقي التصدير وملابس لماركات عالمية بها عيوب تصنيع بسيطة، وملابس أخرى استعمال بسيط بحالة جيدة. أما ملابس الدرجة الثانية فهي اقل جودة ويشتري التجار الكيلو منها بحوالي 50 جنيها بينما ملابس الدرجة الثالثة هي “الكانتو” ويشتريها التاجر بنحو 25 جنيها للكيلو. ويقول إن عملية الفرز هي الخطوة التالية بعدما تصل البالات إلى المخازن ومن ثم تبدأ عملية تقدير الأسعار لكل قطعة حسب جودتها ويعقب ذلك مرحلة غسيل وتعقيم تلك الملابس جيدا ثم كيها بدرجة حرارة مرتفعة كي تلفت نظر الزبون من أول نظرة. ويؤكد أن كل فئة من ملابس البالة لها زبونها الذي يبحث عنها ويقدرها ويعرف ثمنها الحقيقي في سوق الملابس الجديدة، خاصة أن بعضا ممن يأتون إلى وكالة البلح يكون هدفهم نوعية البضاعة وليس السعر فهم يبتغون بضاعة محددة وماركات بعينها لا تتوفر إلا في وكالة البلح. ويقول إن الإقبال على شراء الملابس من الوكالة لا يقتصر على الأسر المحدودة الدخل فهناك الميسورون وفئة طلاب الجامعة ممن يرغبون في ارتداء ملابس من ماركات عالمية بأسعار مناسبة. حرج الشراء قبل سنوات قليلة مضت كان اقتناء “البالة” يسبب الحرج للمشتري ويثير سخرية المحيطين به بدعوى أنه فقير ولا يقدر على شراء الجديد واليوم تغيرت الصورة كثيرا وتخلص البعض من تلك العقدة وبات يتعامل مع الأمر ببساطة فهذه ربة منزل تدعى ماجدة - أم لأربعة أطفال - كانت تقف قرب إحدى طاولات عرض البالة المستعملة بالسوق وهي تجتهد في البحث بين أكوام الملابس عما يناسب أطفالها وتقول “الفقر ليس عيبا طالما أنني أدبر حال أسرتي وفقا لدخلنا فما المانع من أن أشتري ملابس أسرتي من هنا؟” وتجزم بأن العيب الحقيقي يكمن في الاستدانة من أجل المظاهر الكذابة ومن ثم تراكم الديون وعدم القدرة على السداد مما يعرضنا للإحراج وربما للسجن. وتوضح أن طاقم ملابس جديدة لطفلتها البالغة من العمر 7 سنوات يصل لنحو 300 جنيه وبقليل من الصبر يمكن إيجاد نفس الملابس في وكالة البلح بنحو 50 جنيها فقط. ورغم أن البعض يتعامل مع الأمر ببساطة ويغلب مصلحته الاقتصادية فإن من الناس من لايزال يخفي على من حوله من أين اشترى ملابسه ويفضل كتمان أمر تردده على وكالة البلح تجنبا للإحراج، لاسيما العاملين في وظائف مهمة والشباب وطلاب الجامعة. يقول حسام الطالب بكلية الحقوق جامعه القاهرة إن غالبية ملابسه من وكالة البلح وان كان يقر بأن الكثيرين من زملائه في الجامعة ينظرون إلى من يشتري ملابسه منها بازدراء ولذا يضطر إلى إخبار زملائه بأنه اشتراها من محال وسط البلد أو من احد المولات كي يتجنب سخريتهم. ويوضح علاء سعد (بائع) أن هناك زبائن يأتون إلى السوق ومن سلوكياتهم وأسلوب كلامهم يستطيع استنتاج أنهم من اسر عريقة أو يشغلون وظائف مهمة واضطرتهم ظروف الحياة إلى المجيء إلى هنا لشراء ملابس مناسبة بسرعة دون أن ينتبه إليهم احد ويتجلى ذلك في نظراتهم الزائغة وحركتهم المرتبكة ورغبتهم في مغادرة المكان سريعا لذا ندعوهم إلى دخول المحل وفي احد الأركان البعيدة عن أنظار المارة نأتي لهم بما يريدون من ملابس البالة وهؤلاء يدفعون بلا مساومات أو فصال مقابل القطعة التي تعجبهم، خاصة القطع الماركة ولذا فكل بائع يحتفظ بقطع من تلك لتلك النوعية من الزبائن وأحيانا يتفق مع الزبون على انه كلما عثر على النوعية التي يريدها يرسلها له في البيت في أكياس مغلقة. أساليب تسويقية من الأمور اللافتة في سوق وكالة البلح، تفنن الباعة في أساليب الدعاية والترويج لبضاعتهم وجذب الزبائن ولفت الأنظار تارة بنثر الملابس لأعلى قبل أن تستقر على الطاولة وأخرى بتعليقها على ألواح خشبية مرتفعة عن الأرض كي يشاهدها الزبائن من بعيد كما يحرص الباعة أيضا على الهتاف وترديد عبارات بها قدر من السجع مثل “بـ 2.5 تعالى بص” و”قرب ببلاش.. قميص ببلاش وبنطلون ببلاش” و”خد فكرة وتعالى بكره”. وهناك عبارات أخرى موسمية مثل “كسوة الشتاء عندنا” و”فرحة العيد عندنا” وبعضها يداعب الزبائن من خلال الفنانين المحببين إليهم فهناك من يردد: “بص شوف فستان نانسي وقميص هيفاء”. ويؤكد طلعت لبيب - 33 سنة - بائع أن لهذه الهتافات دورا كبيرا في تشجيع الزبائن على الذهاب الى محل دون غيره وغالبا ما يسند أمرها لشخص بعينه تكون هذه هي وظيفته ويمتاز بالذكاء وبالحنجرة القوية والقدرة على ابتكار عبارات موحية وأن يفهم ما يريد الزبون من مظهره، فمثلا المرأة غالبا ما تأتي إلى السوق لشراء ملابس لأولادها فينادي “بنطلون حمادة” و”قربي هنا يا أم العيال”. بينما لو كانت فتاة في مقتبل العمر يكون النداء: “قربي عندنا فستان نانسي وبدلة شاكيرا اللي تمشي العرسان وراكي طوابير”. ورغم أن وكالة البلح مشهورة بأنها سوق للملابس بأسعار رخيصة فإن لغة “الفصال” لا تغيب أيضا هنا وتظل حاضرة بقوة على طاولات الملابس لحظة البيع فتسمع وصلة “فصال” حاميه الوطيس بين البائع والمشتري قد تطول لدقائق قبل تنتهي في الغالب بكلمة واحدة من اثنتين؛ “الله يبارك لك” في حالة الموافقة أو”يفتح الله” في حالة الرفض. ويقول البائع أحمد سليمان “رغم أن البضاعة برخص التراب فإن الزبون يريد أن يأخذها بالمجان والنساء أكثر قدرة على الفصال من الرجال، وأتحلى بالصبر وطول البال عندما أتعامل معهن وأطل متمسكا بالسعر المناسب.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©