الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غزل الطبيعة (2)

غزل الطبيعة (2)
25 فبراير 2009 23:58
بعد أن أورد ''السريّ الرفاء'' بيتي البحتري في تعانق الأشجار، اكتفى بكلمة ''آخر'' قبل أن يذكر الأبيات التالية، لأن شخص الشاعر لم يعد مهما في هذا العرف الجماعي: ويومٍ حجب الغيمُ به الشمسَ عن الأرضِ بنوعين من القطرِ بمعقودٍ ومرفضِّ إذا همت بها الريحُ تدانى البعضُ من بعضِ غير أن هذا الشاعر لا يزيد شيئا في وصف حركة الطبيعة بهذه الصورة المفصلة التي تشرح الأشياء بوضوح دون أن تسبغ عليها طرفا من كثافة الشعر ولا وجازته، فالغيم قد حجب الشمس عن الأرض، ياله من تصريح غير شعري بالمرة، لكن قافية ''الضاد'' قد أوقعته في مأزق جعله يفصّل أنواع القطر من معقود ومحلول ليصل إلى الضاد في نهاية البيت فحسب إذ لا يضيف التفصيل في أنواع القطر كثيرا إلى الصورة المتخيلة، فضلا عن التداني الرتيب لايرقى تلبس الحالة الإنسانية التي وجدناها من قبل في اللثم والعناق وغيره من حركات المحبين· على أن شاعرا آخر يتفنن في إضفاء هذا الطابع الإنساني الحميم في قوله: وكأنها عند التعطف مصغيان للسرارِ لنسيم ريح كالمغازل للغصون وكالمُداري فهذه الأغصان في تقاربها تحاكي حبيبين يتناجيان فيما بينهما، بينما يميل عليهما ثالث يسترق السمع ويحاول هتك الأسرار، إنه النسيم الذي يقوم بدور المغازل لهذه الغصون والمداري عليها في الآن ذاته، فهو المتكتم والمنافس، الحامي والرقيب، في صورة مركبة تحيل المشهد إلى واقعة حركية مؤنسنة· ثم يأتي دور ''الأخيطل الأهوزاي'' ـ وهو أخطل صغير جاء قبل نظيره اللبناني في العصر الحديث ـ فيقول: حفت بسروٍ كالقيان تلبست خضر الثياب على قوامٍ معتدلْ فكأنها الريح تخطر بينها تنوي التعانق ثم يمنعها الخجلْ وكأنه يمضي في تحريك مناظر الطبيعة لتصنع مشهدا جزئيا في مسرحية الغزل المعروضة أمام عيون النظارة، فأشجار السرو الباسقة الهيفاء تبدو في صورة صفوف من القيان المعتدلة القوام، وقد ارتدين الثياب الخضر، فإذا سرت الريح بينها همت بالتعانق ثم يمنعها الخجل فتعود إلى مواقعها، ومع أن هذا التعانق يبدو مثليًّا بعين القيان أنفسهن فإن الخجل قد أضفى مسحة طريفة وشاحبة على المشهد الحركي· ويمضي شاعر آخر ليذهب بالصورة إلى مداها الأبعد قائلا: والسرو تحسبه العيون غوانيا قد شمرت عن ساقها أثوابها فكأن إحداهن من نفح الصَّـبا خودٌ تلاعب مَوهنًا أترابها هنا تصبح المثلية بريئة مثل لعب الصبايا مع أترابهن فى دعابات شيقة؛ لكن يظل ''السرو'' هو التمثيل الطبيعي للغواني وقد شمرن عن ثيابهن وجلون مفاتنهن وسرى بينهن ''نفح الصبا'' بحرارته فبعث فيهن الحياة والشهوة، وبث الحركة في أوصال هذا المشهد الغزلي للطبيعة المحاكية للإنسان والمتلبسة جماليا بمشاعره وأشواقه·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©