الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يوسف الصايغ عاش في العراق ومات في سوريا وكتابه في مصر

يوسف الصايغ عاش في العراق ومات في سوريا وكتابه في مصر
26 فبراير 2009 00:00
توفي الشاعر والروائي الفنان العراقي يوسف الصايغ في دمشق عام ،2005 وصدرت سيرته الذاتية في القاهرة مؤخرا عن ''دار الشروق''، وحملت عنوان ''الاعتراف الأخير لمالك بن الريب''· قدم لها صديق الصايغ الروائي إبراهيم أصلان والسيرة كتبت بأسلوب أدبي رفيع وهي ليست تقليدية، تبدأ بالميلاد مرورا بمراحل الحياة حتى الكهولة، فقد قدم لنا الصايغ لوحة ومشاهد أدبية، للحياة في العراق وعنوان سيرته الذاتية كان عنوانا لقصيدة شعرية كتبها عام ·1972 ولد الصايغ في مدينة الموصل عام ،1933 ودخل السجن عام 1963 في واحدة من موجات الاعتقالات التي كانت منتشرة في العراق منذ قيام ثورة ،1958 وكان يوسف ماركسيا وأفرج عنه في ،1968 بعد أن استولى حزب البعث على السلطة وتبدلت مواقفه، وساند صدام حسين، خاصة حين وقعت الحرب العراقية - الإيرانية، واختلف في ذلك مع رفاقه القدامى، فقد كان للحزب الشيوعي رأي وموقف آخر، وقال يومها ''إنني مع العراق وضد إيران وضد أميركا وضد كل من يقف ضد بلدي·· أنا ضد الحزب الشيوعي لأن موقفه خاطئ، أنا أنحني لشهداء الحزب وتاريخه ولكن الخطأ خطأ ويجب أن أقول الحق، وما قاموا به عمل خاطئ، ان لم يكن جريمة''· وفي ظروف الحرب التي كان العراق يخوضها كان يمكن لهذا الموقف أن يكون مقبولا ومفهوما، ولا أحد يلومه عليه حتى من الرفاق الماركسيين لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، كما يقول إبراهيم أصلان بل ''امتدح صدام شعرا، وهي كقصائد، من أسوأ ما كتب في هذا الباب·· وترتب على تراجعه أن عين مديرا لدائرة السينما وتيسرت له الأحوال''·· وأثر ذلك على علاقة أصدقائه به، فقد تجنبوه، وتبين أصلان ذلك في زيارته الأخيرة للعراق ''لاحظت انقطاع سيرته عن مجالسنا، وأنا لم يكن يعنيني كثيرا أنه كان هنا، ثم صار هناك، فلقد كان يعنيني الإنسان والمبدع الكبير الذي أحببته، كما كنت أظن أنه لا يجب أن نصدق الشعراء إلا عندما يقولون شعرا، فضلا عن أن مسألة الهنا والهناك، كانت شأنا عراقيا شائعا، ومربكا أو هكذا قدرت''· يبدو أن ذلك حال مثقفين وكتاب آخرين في عالمنا العربي وليس في العراق وحده كما يرى ابراهيم اصلان ربما كان الأمر اكثر حدة في العراق، هذه الحالة انعكست على سيرة يوسف الصايغ، فلم يكتب أيامه بالتفاصيل·· لا يذكر تاريخ ميلاده نهائيا، ولا المدينة التي نشأ بها إلا عابرا في منتصف الكتاب· نشأة موصلية نشأ يوسف في أسرة مسيحية موصلية ـ عراقية ـ وبهذا المعنى يقدم لنا ملمحا من حياة المسيحيين العراقيين، في الربع الثاني من القرن العشرين حيث كانت حياتهم الاجتماعية والإنسانية مزدهرة وكان المجتمع العراقي كله متماسكا، أما اليوم فتواجههم بعض المشكلات، أسرة تنتمي الى الطبقة الوسطى، وحين ذهب الى الكُتاب وهو طفل، وكان تابعا للكنيسة، فوجئ أن به ''الفلقة'' يحتفظ بها رجل الدين الوقور·· الفيلسوف· كان الرجل يجيد عدة لغات أوروبية، وسافر الى أوروبا كثيرا، وتعلم هناك ، كان يعيش في قلب العصر، ومع ذلك احتفظ بآلة التعذيب تلك التي تعود في رأيه إلى أواخر أيام العصر العباسي· ويرصد مشهد اجتماع ثلاثة عليه ذات يوم، أحدهم كان في الثلاثين من العمر لوضعه وهو طفل في تلك ''الفلقة'' وقيام رجل الدين بضربه بينما هم يضحكون، وظلوا يضحكون حتى بعد أن أطلق خارج الفلقة، وذات مرة وهو في المدرسة تعرض للعقاب، الضرب المبرح من المعلم، كان أحد التلاميذ قد شتم المعلم، والعجيب أن المعلم طلب منه أن يخبره بمن شتم من زملائه، فرفض وضغط المعلم عليه، في البداية انكر أنه سمع السب، ثم قال إنه سمع، لكن لم يتبين بالضبط صوت القائل·· واعتبرها المعلم تحديا له، ولم يكن الأمر كذلك·· ''ليس من خلقي أن أشي بسواي'' وانهال عليه ضربا·· وذهبت أسرته الى المدرسة في غضب، وكان القس عمانوئيل مدرس الدين يذكره ''قل لهم أنك سقطت من السلم''· وكان دهشا من تحريض القس له على الكذب، في اليوم التالي، كان يخدم في الكنيسة وقرأ القس كلام السيد المسيح'' من سألك فاعطه ومن طلب منك رداءك فلا تمنعه·· ومن سخرك أن تمضي معه ميلا فامض معه اثنين·· ومن ضربك على خدك الأيمن فحول له الآخر''·· ويقول هو معلقا ''وإذا سمعت قول يسوع·· حزنت ثم خفت خوفا شديدا وذهبت إلى عمتي أسألها·· فقالت لي إن المسيح يقصد بقوله ''فحول له الآخر'' ان تضربه أنت ايضا على خده الآخر؟ وقالت له ''من ضربك على خدك الأيمن·· فاضربه على خده الآخر هل فهمت؟ قالت ذلك بقوة وحسم·· وعبثا راحت أمي تحتج على تفسيرها·· فلقد كان لعمتي الكبيرة·· مسيحها الخاص· مع المدرسين وبعد ذلك جاءه مدرس الحساب ''صموئيل'' وكان كريها ومخيفا له، وصفعه بقوة على وجهه لأنه لم يتمكن من حفظ جدول الضرب ''دوى صوت الصفعة في أذني، وأحدث صفيرا·· وامتلأت عيني بدوائر حمراء راحت تغرق في خوفي ودموعي·· وضج رأسي بأصوات كهنة يلوحون وبنواقيس تقرع للدفن حتى أيقنت أنني سأموت·· ولم أمت''· كان يوسف يكتب بطريقة التداعي، فمشاهد العنف والاعتداء التي تعرض لها في طفولته تأخذه الى ما تعرض له في السجن من تعذيب وضرب·· لا فرق بين ''صموئيل'' مدرس الحساب·· و''مصطفى'' آمر المعتقل· هو يمزج بينهما في وصف ومشهد واحد·· وقد أفادته خبرته ككاتب مسرح في الانتقال بين المشاهد وعبور الازمان والمراحل، والمعنى أن في مجتمعاتنا تقوم التربية والحياة على الضرب والعنف من الكُتاب الى المدرسة الى الحياة العامة، وتختلف نوعية ومستويات الضرب ومن يضرب باختلاف مراحل العمر، حتى الكتاب المقدس يتم تطويع نصوصه فلكلوريا لتسمح بعملية الضرب وتمنحها مشروعية· في المدرسة ومع تقدمه في التعليم يظهر الوعي السياسي أو ما يسميه هو ''حضرة صاحب الجلالة·· وصاحب السمو··'' كان في المدرسة حين أخذهم مدرس الرياضة الى سطح المدرسة للعب، وكانوا سعداء باللعب وفجأة دق جرس المدرسة بطريقة غريبة، وقال لهم المعلم ''انزلوا بسرعة·· ورأينا المدير واقفا وسط الساحة وقد فقد هيبته·· وكان المعلمون مرتبكين، وعند الباب وجدنا عددا من الشباب الغرباء، يبكون ويضربون رءوسهم· صرف المدير تلاميذه إلى بيوتهم، ولم يفهم شيئا حتى وصل الى البيت وجدت عمتي الكبيرة دامعة العينين: وسمعت أمي تندب حظ ذاك الولد الذي صار يتيما بعد أن قتلوا اباه·· وقالت له عمته إن الانجليز قتلوا الملك غازي·· وفي المدرسة كانت صورة الملك غازي معلقة والى جوارها صورة ابنه وكتبوا تحتها ''حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل الثاني المفدى''· ويقول يوسف ''وما كنت اعرف معنى المفدى·· وما كنت أستطيع أن أفهم كيف يمكن لولد أصغر مني أن يكون ملكا·· وهو يلعب ويبكي·· والملوك لا يبكون ولا يلعبون''·· ويتوقف مطولا عند تحية العلم في المدرسة والأناشيد التي كانوا يقولونها·· عش هكذا أيها العلم فإننا بك ـ بعد اللهـ - نعتصم· وبعد الملك فيصل يأتي الأمير عبدالاله الوصي على عرش العراق، وكانوا في معسكر خاص بطلبة الكليات وحكى له زميل أن الأمير عبدالاله زار المعسكر بسيارة مكشوفة وسأله احدهم أن كانت تلك السيارة تعمل بالبنزين أو بالكوكاكولا·· وفي اليوم التالي وبخهم آمر المعسكر لانهم تحدثوا بدون لياقة مع ''سيدنا الوصي'' وعاقبهم بالوقوف ساعة تحت شمس تموز الحارة·· ويبدو أن ''سيدنا الوصي'' نفسه لم يكن غاضبا بعد ثلاثة أيام·· حين كنا أنا وبعض الطلبة·· نستريح قرب العين وفي مصيف سرسنك، مر الوصي، وسلم ثم جلس وإيانا يحيط به مرافقوه وراح يسأل كلا منا عن كليته وعن هواياته· ويقول يوسف ''بعد سنوات عاد صديق من بغداد يحمل صورة الوصي، وهو معلق بحبل عند باب المعظم''· فإذا كان هذا حدث للوصي، فلا غرابة أن يقع له هو ما وقع·· لم يذكر بالاسم شيئا عما جرى في العراق سياسيا أيام عبدالكريم قاسم وما بعد ذلك، لكن الإشارات اللماحة تكفي·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©