الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جريمة بلا دم

جريمة بلا دم
11 أغسطس 2011 22:17
ما أشبه الليلة بالبارحة، منذ ثلاث سنوات بالتمام والكمال تم إيداع “خليل” في هذه الزنزانة بعد اتهامه بالنصب وصدور حكم بإدانته، كانت تلك الليلة الأطول في حياته، لم يغمض له جفن ولم يذق طعم النوم وهو ينظر إلى سنوات السجن ويتساءل هل يمكن أن يأتي يوم يطلق فيه سراحه، أنه يراه بعيداً جداً، وقد لا يجيء، والليلة يتكرر المشهد، ولكن بمشاعر مختلفة تماماً، لم ينم أيضاً والوقت يمر بطيئاً ثقيلاً، لأنه ينتظر الصباح الذي سيشم فيه نسيم الحرية ويتخلص من الأغلال والظلام، وها هو قد جاء ليبدأ حياة جديدة. لم يكن “خليل” الآن في حاجة إلى المال لأنه يملك مبلغاً لا بأس به تم الاحتفاظ به باسمه في الأمانات بالسجن، كما هو معتاد، وأنه زاد عليه بما تكسبه من خلال عمله، لذا لم يكن قلقاً من هذه الناحية على الأقل الآن، وتسلَّم ما يخصه بعد أن تخلص من ملابس السجن الزرقاء وقصر شعره وحف شاربه وحلق لحيته ويبدو مثل عريس في ليلة زفافه، وقد ارتدى الملابس الجديدة التي أوصى بشرائها من حر ماله، ووضع أول قدم خارج الأسوار ليسير عشرات الأمتار، وهو يجوب الأرض والسماء بناظريه، يرى الدنيا بعيون جديدة ومختلفة كأنها هي التي تغيَّرت وليس هو، أشار بسبابته لسائق التاكسي المتوقف في الانتظار فجاءه مهرولاً، جلس في المقعد الخلفي بما يوحي بأنه شخص مهم، فلم يستطع السائق أن يفتح معه حواراً، لكن انتقاد “خليل” لبعض تصرفات قائدي السيارات، وعدم الالتزام بالحارات المرورية والسرعة الزائدة، جعل السائق يتجرأ ويبادله الحوار، ثم يسأله عن عمله فيخبره بأنه مفتش في مصلحة السجون، وحتى لا يبدو السائق جاهلاً لم يستفسر منه أكثر من ذلك، وادعى الفهم وأن لم يكن يعرف أن كانت هذه الوظيفة مدنية أم عسكرية. وصل “خليل” إلى المكان الذي كان يقيم فيه قبل حبسه، حضر الناطور الجديد الذي لا يعرفه، وبطريقته المعهودة أشار إليه بأن يحضر أدواته لتنظيف الشقة الصغيرة التي تقع في الطابق الأول، وفهم الحارس من طريقة تعامل الرجل أنه مهم ويجب أن يحتاط في التعامل معه إلى أن يعرفه جيداً حرصاً على عمله هنا، كانت الأتربة قد غطت كل شيء، ولا تبدو أي معالم لقطع الأثاث والمفروشات، حاول إلقاء معلومات إلى الناطور قبل أن تتكاثر التساؤلات في رأسه وأخبره أنه كان مسافراً إلى الخارج، وسوف تأتي حقائبه بعد أيام وكي يحبك كذبته دس في يده مبلغاً أكثر مما يستحق بكثير، ثم كلفه بشراء بعض الاحتياجات السريعة مثل المياه المعدنية والغازية والفواكه. استلقى “خليل” على سريره، وهو يحدق في سقف الغرفة ويسترجع ما حدث له والقضية التي دخل بسببها السجن، وقد كان يعلم أنه يرتكب جريمة، لكنه يلقي بالتبعة في الأساس على ضحاياه لأنهم أغبياء يقدمون إليه أموالهم بأيديهم وليس هو الذي يمد يده إليها ويبرر ذلك بانه ذكاء منه أيضاً، وفي نفس الوقت فإن جريمته ناعمة لا يراق فيها دم ولا يصاب شخص في جسده. قرصه الجوع وشعر بأنه سوف يتعرض لإغماء أن لم يتناول الطعام، فنهض من نومته وهو يفرك عينيه كأنه نام طويلاً، خرج إلى الشارع فوقف الناطور يقدم له التحية بشكل رسمي فقد أسره بالمبلغ الذي قدمه له قبل قليل، وخرج “خليل” إلى الشارع، وهو يعرف ماذا يريد أن يأكل لأن نفسه منذ أن قيدت حريته تتوق إلى الشواء الذي حرم منه طوال هذه السنين، فاتجه مباشرة إلى المطعم المشهور الذي اعتاد أن يذهب إليه من قبل، لم يعرفه أحد من العاملين لأن كلهم جدد، لكن مع ذلك لقي ترحاباً من النادل الذي هرع إليه يسأله عن مطلبه، وهو يضع ساقا فوق الأخرى، كان مذاق الشواء لذيذاً فقد جاء بعد جوع وحرمان. الآن يريد أن يسير على قدميه في كل الشوارع التي يعرفها، في البداية يشتري نظارة شمسية سوداء يغطي بها عينيه ليس للتخفي وإنما من باب الوجاهة، بعض الأماكن كما هي كما تركها آخر مرة، وأخرى تغيرت تماماً وتبدلت معالمها وقامت فيها بنايات شاهقة وأسواق كبيرة حديثة ومولات تجارية ومعارض سيارات، شعر بالتعب خاصة وأنه مشى كثيراً، ولم ينم الليلة الماضية فاستقل سيارة أجرة وعاد إلى مسكنه واستلقى على الفراش وهو يتنفس بعمق، راح يغط في نوم عميق، لا يدري كم ساعة مرت عندما استيقظ ليجد الظلام يحيط بالمكان عاد إليه الفزع من كثرة ما عانى منه، فهرع يضيء كل المصابيح ويفتح جميع النوافذ. ثلاثة أسابيع فقط كانت كافية لتلتهم كل ما يملك من أموال وهو يعيش فيما يشبه الترف، ولا يعرف له وظيفة ولا حرفة ولا أهلاً ولا أقارب، لقد فقد أبويه منذ سنوات، وحصل على مؤهل متوسط وضاعت أحلامه كلها، وها هو قد تخطى الأربعين ولم يحصل على عمل ولا زوجة، بينما أقرانه مستقرون في بيوتهم وسط أبنائهم وعائلاتهم، وها هو يعود إلى نقطة الصفر، أو تحتها بكثير، يبحث عنها ليبدأ منها بعدما عاهد نفسه على أن يتوب ويستقيم وكفى ما عانى، لكن الحاجة ملحة لكي يعيش، أشعل سيجارة وهو ينظر إلى العلبة التي كادت تنفد، ومد يده إلى الصحيفة التي وجدها أمام الباب راح يتصفحها بلا اهتمام، لأن معظمها إعلانات ولا تهتم بالأخبار كثيراً، جال بعينيه في صور السلع والتفاصيل، مساكن للبيع والإيجار وأراض للزراعة والمباني، أثاث ومفروشات وأجهزة تكييف، ورحلات بالداخل والخارج، وعروض يقولون إنها مغرية. أما هذا الباب فقد تخصص في عرض المقتنيات الثمينة والتحف وأجهزة المحمول والكمبيوتر، سال لعابه وهو يبرر لنفسه أن تصرفه ليس انحرافاً وإنما وليد الحاجة، ومجرد حيلة للحصول على ما يريد، بالفعل يتمتع بذكاء كبير لكنه يوجهه في الطريق الخطأ، لم يستطع أن يقاوم رغبته والفكرة التي الحت على رأسه وهو يراوغ نفسه بأن هذه المرة قد تكون الأخيرة في عملياته إلى أن يهتدي إلى عمل مستقيم، وفشل في مقاومة طبيعته، ولم يتردد في الاتصال بالرقم المدون في آخر الإعلان واستفسر عن هذا الموبايل الحديث الذي يعرضه صاحبه للبيع، وحدد له موعداً للقاء في الكوفي شوب بأحد الفنادق الكبرى، وبعدما فحص الجهاز أخرج دفتر الشيكات من جيبه وحرر له شيكاً دون أن يساوم في الثمن، وشعر الرجل بالحرج أن هو رفض الشيك لأن الرجل يبدو ذا هيبة وجدية ولا يمكن أن تحوم حوله الشبهات، ولكن هذا الاعتقاد تبين أنه خاطىء بعدما أخبره البنك أن الشيك ليس فقط بلا رصيد وإنما أيضاً صاحبه ليس له حساب أصلاً في البنك، فتأكد أنه وقع ضحية نصب. واستمرأ “خليل” هذه اللعبة الخطرة، وهو يسقط ضحاياه واحداً تلو الآخر، فقط يغير الأماكن التي يلتقي بهم فيها، ولم يعد قادراً على الإقلاع عنها فقد تملكته حتى أصبح أسيراً لها ومدمناً، وأين له بالعمل الذي يدر عليه كل هذه الأموال بلا مجهوداً، فلا يمر يوم من غير أن يضيف إلى قائمة ضحاياه شخصاً جديداً، وفي نفس الوقت يعيش في البذخ والإسراف لأن الأموال تأتي سهلة فتروح أسهل. في المقابل تكررت البلاغات أمام رجال الشرطة عن هذه الطريقة الجديدة في النصب والاحتيال، والتي تحتاج إلى مثلها وأكبر منها في التعامل معها ولا بد من الذكاء أيضاً للايقاع بمرتكبها فلا يمكن أن يكون المجرم أكثر ذكاء من أجهزة البوليس، فنصبوا له فخاً لم يتوقعه بنفس طريقته وأسلوبه، إذ تم دس إعلانات كثيرة ومتنوعة ومغرية في ذات الصحيفة التي يستغلها، وانتظروا الاتصالات التي جاءت مثل السيل ربما لمعظم الأشياء الثمينة التي وردت فيها. وإن كانت طريقته بسيطة فإن المصيدة كانت أبسط، وتخفى أحد الضباط في زي شاب يريد أن يبيع جهاز كمبيوتر محمولاً، بعدما اتصل به حسب واحد من الإعلانات والتقى به في مكان على أطراف المدينة، وكرر نفس تصرفه وحرر له شيكاً بالمبلغ المطلوب، وبإشارة متفق عليها من إصبع الضابط التف عدد من رجال الشرطة حول “خليل” الذي فهم على الفور أنه أكل الطعم وسقط في المصيدة، دون أن يسأل أو يستفسر أو يناقش مد معصميه ليكبل بالقيود، لكن لم يبق مما استولى عليه شيء فقد أنفق كل ما وقع بين يديه عن آخره.بعد شهر واحد فقط من الحرية عاد “خليل” إلى نفس السجن بعد أن قضت المحكمة بحبسه ثلاث سنوات، ولكن لم يعد إلى نفس الزنزانة لكنها لا تختلف عنها في أي شيء، هذه المرة كان يبتسم من غبائه، ولم يصب بالقلق كما حدث من قبل، وإنما نام كما لم ينم من قبل.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©