الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العياشي سجل معركة تحريم وإباحة القهوة

10 أكتوبر 2006 22:21
د• أحمد الصاوي: العياشي أحد أشهر رحالة المغرب في القرن الحادي عشر للهجرة'17م''، واسمه أبو عبدالله بن محمد بن أبي بكر العياشي، نسبة الى قبيلته عياش إحدى قبائل البربر في المغرب الأقصى• وزار العياشي مصر غير مرة وهو في طريقه للحج ذهابا وجيئة ضمن قافلة الحج المغربية التي كانت تمر بالأراضي المصرية وترك لنا أبوعبدالله العياشي مذكرات سجلها في أثناء رحلاته المتعددة، وهي التي نشرت باسم ''الرحلة العياشية''• واللافت أن هذا الرحالة المغربي الذي عني أشد العناية بتسجيل أدق التفاصيل لما عاينه في رحلات الحج في كل من مصر والأراضي الحجازية لم يهتم بالاشارة الى ملامح الحياة الاجتماعية في البلاد التي مر بها من الجزائرالى طرابلس الغرب، ربما لأن شيئا لم يلفت نظره فيها لأنها كانت مماثلة لوقائع الحياة في بلده وذلك هو ديدن الرحالة الذين يهتمون فقط بما يرونه غريبا لم يألفوه من قبل في أوطانهم، فيحرصون على تسجيله• ومما سجله العياشي في آخر رحلاته الى مصر عام 1072هـ ''1662م'' أنه أحصى مدة سفره من مصراته بليبيا الى بر امبابة على الضفة الغربية للنيل فوجدها خمسين يوما منها خمسة أيام اقامة وبقية الأيام قضاها في السفر، ووصل العياشي مع بعض الحجاج المغاربة، الذين لم يأبهوا لأخبار وباء الطاعون الذي اجتاح مصر، ونزل الجميع خارج امبابة في يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر رمضان• ويدخل ما دونه العياشي عن محطته الأولى بمصر في عداد ما ينتاب مسافر الصحراء من انبهار بخصب وادي النيل ووفرة الغذاء الرخيص في قراه المتصلة العمران دون انقطاع حتى أنه يذكر ان الناس، في قافلته تسارعوا الى شراء الفاكهة واللحم ''لبعد عهدهم بذلك''• ويصف العياشي امبابة في احدى سنوات انخفاض فيضان النيل قائلا:''مدينة على ساحل النيل لها أسواق ووكائل ومساجد على هيئة ما في القاهرة وهي في الجانب الغربي في مقابلة مدينة بولاق بالجانب الشرقي وأقمنا بها يومنا في أرغد عيش شبعا وريا وكيف لا ونحن على ساحل النيل الذي هو أشرف الأنهار الأربعة الخارجة من الجنة وأثر بركته ظاهر للعيان في مائه وترابه وقراه ومدائنه بحيث لا يوجد بلد أوسع مزارع وأكثر خصبا مع اتصال العمارة على مسيرة شهر''• ويقص العياشي في مذكراته ان من عادات الفلاحين في قرى النيل ''غربي الدلتا والوادي'' أن يخرجوا لملاقاة حجاج المغاربة ليتخذوا منهم الأصحاب حتى يودعوا عندهم الإبل ويتركوها ''أمد الإقامة طلوعا ورجوعا''، أي لحين ذهابهم الى مكة وعودتهم منها• انحسار النيل وفي السادس والعشرين من رمضان غادر العياشي ورفاقه امبابة قاصدين بولاق، ميناء القاهرة النيلي، وهاله أن وجد النيل في غاية ما يكون من النقصان وقد انحسر الماء عن بقاع كثيرة في وسطه وكان قد عاين قبل ذلك بأيام ارتفاع منسوب الفيضان حتى أغرق الطرق بين بعض قرى الدلتا• وهذه الظاهرة كثيرا ما يتكرر وصفها في كتب مؤرخي العصور الوسطى حين يقولون ''وطلع مد النيل ثم انحط سريعا''• وعند وصوله الى بولاق اكترى العياشي والحجاج المغاربة ثلاثة من الإبل لحمل متاعهم ولكثرة ما تحملته من متاع فقد اعتبرها العياشي ''من الإبل العجيبة'' وإن حمل في ذلك على الحمالين ''الشواغرية'' لقسوتهم عليها ''وقد سخر الله تعالى الإبل لهم ونزع الرحمة من قلوبهم يحملون عليها القناطير المقنطرة من الأمتعة وأحمال الذهب والتبر حتى لا يظهر من الجمل الا رأسه''• وفي القاهرة لاحظ العياشي أن الوباء فاش فيها كما أبلغت قافلة الحج المغربية ولكنه ''ضعيف حيث كان يصلي في الجامع الأزهر كل يوم على عشرة من الموتى فقط!''• ولم يستطع الرحالة المغربي أن يحقق أمنيته بالاقامة قرب الجامع الأزهر لانشغال الدور بالحجاج من الشمال الافريقي، وكانوا أحرص الناس على الاحتفاء بشهر رمضان في الأزهر حيث كان يوجد رواق خاص بالمغاربة• وطرح العياشي أمتعته هو وأصحابه بوكالة قايتباي بباب الأزهر الغربي ''ولعله يقصد وكالة الغوري'' وجعلنا نتطلب دارا للسكن فما وجدنا الا آخر النهار بمحل يقال له البردبكية، وجدنا هناك دارا واسعة فيها عدة مساكن الا انها بعيدة عن الأزهر بنحو أربعمئة خطوة قريبة من مشهد الحسين رضي الله عنه• ومن الطريف أن العياشي ورفاقه الذين جهدوا أنفسهم طيلة النهار في البحث عن هذه الدار ثم حملوا اليها أمتعتهم بل ودفعوا أجرة سكنها مقدما وكانت ثلاثة وسبعين نصفا من الفضة، بعدما فعلوا ذلك كله لم يقضوا ليلتهم فيها وانما باتوا في تلك الليلة بالجامع الأزهر لأنها ليلة السابع والعشرين من رمضان، وان كان العياشي قد لاحظ ان ''كل الليالي بذلك المسجد كليلة القدر لأنه معمور بالذكر والتلاوة والتعليم آناء الليل وأطراف النهار ولا تنقطع منه العبادة ليلا ولا نهارا ولا صيفا ولا شتاء، فهو عديم النظير في مساجد الدنيا بأجمعها حاشا المساجد الثالثة لما لها من أعظم المزايا'' ويعني بذلك المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى• ولما كان رمضان هو شهر القرآن وفيه يقبل الناس على قراءته وتجويده، فقد ذهب العياشي ''لزيارة شيخ القراء بالقاهرة ورئيس أهل التجويد بلا مراجعة الشيخ سلطان'' وقد سلم الشيخ عليه ودعا له، وكان ذلك هو غاية ما أراده العياشي وقصاد الحج المغاربة من تلك الزيارة• ومن الملاحظات الطريفة التي أوردها الرحالة المغربي وهو يصف سلطان شيخ القراء إن في خلقه شدة حتى أنه لا يترك أحدا يقبل يده وإذا ما ألح أحد في طلب الدعاء له ''انتهره ويمضي ويتركه ولا يتحمل للطلبة الذين يقرأون عليه أدنى غلطة تقع منهم بل يبالغ في التقريع والتوبيخ بل ربما زاد الى الشتم•• والناس يتحملون ذلك منه مع تقشفه وورعه وصبره على ملازمة وظائف العبادة''• ويسجل العياشي في ندم وأسى أنه لم يحضر الى الأزهر في يوم التاسع والعشرين من رمضان لأسباب ثلاثة، أولها هو بعد منزله عن المسجد، وتلك واحدة من الغرائب اذا استثقل الرجل الأربعمائة خطوة وهو الذي سار في الصحراء خمسة وأربعين يوما دفعة واحدة من مصراته الى مصر• أما السبب الثاني فكان ما لحقه من الكسل بسبب الصوم، والسبب الثالث ذلك اللغط الذي ثار في القاهرة حول تعيين أول أيام عيد الفطر• فقد أشيع ما ذكره بعض الناس نقلا عن المنجمين بالقاهرة في ذلك اليوم ''بأن الهلال يرى ليلة الثلاثين فيكون الشهر تسعا وعشرين''، وانتشر ذلك في الناس واعتقدوه حتى قيل ان الباشا العثماني طلب من قاضي العسكر الحنبلي أن يحكم بذلك فأبى جزاه الله خيرا وقال لا حكم حتى يرى الهلال'' وبالفعل صعد قاضي الشافعية مع الشهود العدول في ليلة الثلاثين الى أعلى المئذنة ويعني بها مئذنة المنصور قلاوون بالنحاسين، وبقي الجميع فوقها من قبيل الغروب الى انتشار الظلام فلم يروا شيئا فأوقدوا المصابيح في المئذنة كما هي عادتهم في ليالي الشهر كلها فعلم الناس ان الغد من رمضان وكذب الله أقوال المنجمين''• وبعد أن أتم العياشي صيام رمضان بالقاهرة نجده يجري على عادة المصريين العتيقة في الخروج لزيارة المقابر، فيخرج عشاء الى القرافة الصغرى، ولكنه لم يستكمل مراده من الزيارة فعاد للقاهرة لشدة الحر و''لشدة الزحام بالمقابر لأن عادة نساء مصر أن يخرجن ليلة العيد ويومه الى المقابر ويبقين هناك برهة من الزمان''• ورغم أن العياشي ذهب الى القرافة بغرض الزيارة والتبرك بمقابر الأولياء والمعتقدين الا انه لم يجد أي غضاضة في أن يصف عادة المصريات بأنها ''عادة مذمومة في سائر الأيام فما بالنا بيوم العيد انه يوم أكل وشرب ومرح وسرور، وزيارة القبور تذكر بالآخرة وتثير في القلب حزنا''• ولم يفت العياشي أن يصف لنا ما يجري في القاهرة في أول أيام العيد، وخاصة تبكير الناس بالذهاب الى صلاة العيد وقد حضرها العياشي في الجامع الأزهر حيث خطب الخطيب ''خطبة حسنة جلها في أحكام زكاة الفطر'' وبعد فراغ الناس من الصلاة والخطبة أخذوا يتزاورون ووقف المشايخ لزيارة الناس، وقابل العياشي في اليوم الأول من أيام عيد الفطر العديد من المغاربة الذين كانوا يتلقون العلم بالأزهر• وعندما ذهب الرحالة المغربي بصحبة رفاقة لزيارة الشيخ ابراهيم الميموني قدم لهم ''كعكا حسنا'' وتلك عادة مصرية تعود الى العصر الفاطمي على أقل تقدير، ومازالت مرعية الى يومنا هذا وظن العياشي أن في ذلك مخالفة لعادة القوم من أهل مصر الذين ''يتكارمون بينهم بشراب البن الذي يسمونه القهوة'' ولعله في ذلك لم يفرق بين تقاليد يوم العيد والعادات اليومية المألوفة• وانتهز الرحالة المغربي فرصة الحديث عن القهوة ليبين أنها في بلاده ''ليست بطعام ولا دواء ولا شهوة'' وأنها ايضا موضع جدل عنيف في المجتمع المصري ، وانقسم العلماء في شأنها بين التحريم والإباحة، وعزز كل فريق حججه بالنظم والنثر وان كان ''أكثر العلماء مائلين فيها الى الإباحة وترسخ قولهم بفعل أكثر الصوفية مع تورعهم في المطاعم والمشارب زاعمين انها تعين على السهر في العبادة ويستعين بها الطلبة كثيرا في المطالعة الليلية، ولاشك أنها تزيل ما يحصل في الرأس من تدويخ بسبب السهر أو خلو المعدة صباحا، فإذا شربها الانسان وجد في اعضائه نشاطا''• ومع معارضته الظاهرة لشرب القهوة فقد أشار العياشي الى وجود مقاه عامة يعد فيها شراب البن الذي ذاع وانتشر في القاهرة لفوائده التي ذكرها فضلا عن ميل الناس لتقليد الأمراء في شربها•
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©