الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

الهاربون من الموت إلى القهر.. يختزلون أحلامهم بخيمة وشربة ماء

الهاربون من الموت إلى القهر.. يختزلون أحلامهم بخيمة وشربة ماء
29 أغسطس 2014 00:30
على جمر الصراع السياسي الذي يسم المشهد العراقي، وبين حراب الأسنة، وطيور الموت التي تنطلق لتهتك أمان المدن وساكنيها، تمتد رقعة واسعة من المدن العراقية التي خلت على عروشها من أهلها، والذين شردتهم السياسة الخرقاء لحكومة وصفت بأنها «طائفية ثأرية» نثرت العراقيين رمادا وجثثا وشردتهم في أصقاع الأرض العراقية والخارجية طيلة ثماني سنوات عجاف. وشهدت طرق الموت نزوح أكثر من مليوني عراقي، من المدن التي انتفضت ذات يوم حالك من أيام العام المنصرم، بعدما ضاقت بأهل العراق السبل، وسقطت المدن لقمة سائغة بأيدي تنظيم متشدد، يختلف الجميع حتى اللحظة على انتمائه ومموليه، وأهدافه. ولم يكن العراقيون الذين أملوا في فجر جميل، بعد عقود من الحروب، يتوقعون أن تنكأ جراحهم جرافات الموت ، ولم يكونوا يحسبون أنهم سيتركون بيوتهم وأرضهم وهم لا يحملون سوى أرواحهم وبقايا أشلاء الأحبة التي نثرتها آلة الحرب التي شنها رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي ضد الشعب العراقي برمته. كانت الطائفية هي ما وسمت الحرب التي اندلعت بتهميش السنة العراقيين، ثم انتقلت إلى الأكراد، وهذين المكونين شركاء في عملية سياسية لم يجرؤ أحد على وصفها بأنها سليمة. ويوم انتفضت محافظة الأنبار وتبعتها نينوى وصلاح الدين فديالى فبغداد، أطلقت مدفعية الجيش الحكومي صواريخها باتجاه المتظاهرين السلميين، وقمعت تظاهرات بغداد، وطال القمع مدن الشمال والوسط ، ثم انتقل حتى إلى مدن الجنوب تحت حكم أقل ما يقال عنه «إنه فاسد». لقد وصف غاري جرابو الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة إلى سلطنة عمان، في مبحث له بعنوان «المصير المحتوم لنوري المالكي» والذي نشره معهد واشنطن للدراسات، المالكي وحكمه بأنه «اتجه إلى الحكم الطائفي عام 2010 بدافع الثأر، فكثف عملية اجتثاث حزب البعث من البلاد مع العلم بأن الساحة السياسية الوطنية كانت قد طهرت من كل مسؤولي الحزب الكبار تقريبا. كما عمد إلى تكديس الثروات وعين شخصيات موالية له في وظائف بالرغم من افتقارهم للمؤهلات المطلوبة لتولي وظائف في القوات المسلحة العراقية على سبيل المثال، فيما همش أحزاب ومنظمات أخرى»، مضيفا «اعتبر السنة أعداءه. . كان بصدد محو العراق السني من الوجود». هاربون من الموت إلى القهر أسفرت هذه السياسة «الطائفية الثأرية» عن نزوح نحو 750 ألف عراقي من مدن الأنبار التي تحولت فيها عملية قمع التظاهرات السلمية للمطالبة بالحقوق السياسية، إلى حرب شرسة اضطرت العشائر إلى الالتفاف حول بعضها وتشكيل مجلس عشائري للدفاع عن مدن المحافظة. وامتدت النار لمدن المحافظات الست، ومعها توسعت آلة القمع الحكومية، وبرزت في المشهد تشكيلات مسلحة لم يعد العراقيون يفرقون بين انتماءاتها، لأنها جميعها كانت تقتل العراقيين وتدمر مدنهم وتفجر أمانهم، ولم يفرق الموت المنثور في الشوارع بين شيعي أو سني، وبين كردي أم عربي وبين مسلم أو مسيحي أو يزيدي أو من أي طائفة دينية، فالموت أعمى، يمد أذرعه ويلتهم الضحايا، ويغلق باب قبوه منتظرا جولة القتل الأخرى. توزع النازحون بين المدن الأخرى وعلى حوافها، وأصبح حلم الصغار والكبار «خيمة ولقمة وشربة ماء»، وأمانا مؤقتا تفرشه منظمات اللجوء بخيمها البيضاء المزرقة. ولم تفلح تحذيرات الأمم المتحدة من المخاطر التي تواجه النازحين، والمهجرين، بعد نفاذ أموال المساعدات للأنباريين، ومن استمرار الصراع في هذه المحافظة الغربية التي تحتل ثلث العراق، كما لم تفلح المناشدات الأممية من أجل تأمين طرق المساعدات التي كانت تقطعها القطعات العسكرية من جهة والميليشيات المختلفة من جهة أخرى، بعدما أكدت بعثة الأمم المتحدة في مايو أن عدد النازحين من العنف والمعارك في الأنبار بلغ نصف مليون حتى ذلك الشهر. وأطلعت نائب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة والمنسق المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في العراق جاكلين كارول بادكوك، ممثلي الدول المانحة على تلك الحقيقة المرة، مؤكدة أن «عدد النازحين منذ اندلاع القتال في الأنبار أواخر 2013 حتى مايو 2014 بلغ نصف مليون نازح». لكن الصراع تطور هناك إلى حرب ، فدخلت الطائرات والبراميل المتفجرة منذ يونيو والتي أسفرت عن نزوح نحو 250 ألفا آخرين من الأنبار. وبين كر وفر، بين الجيش المطعم بميليشيات طائفية، والعشائر، وتنظيمات متشددة وصفت بأنها «القاعدة» أولا، ثم تحول الوصف إلى وصم السنة كلهم بـ«القاعدة» و«البعثيين» وثم «داعش»، كانت الحرب تتجه إلى مكان آخر، مسفرة عن مجازر كثيرة في الفلوجة والحويجة جنوب كركوك، وبهرز، ثم معسكر أشرف الذي يقطنه «مجاهدو خلق» الإيرانيون المعارضون بديالى، وإمرلي وطوزخورماتو وتكريت وسامراء في صلاح الدين، ناهيك عن أقضية ومدن الموصل بنينوى، والمناطق السنية ببغداد التي كان أهلها يهجرون بتهديدات القتل، ويقتلون على الهوية. وفي فورة التصعيد الحربي ضد أهل العراق، كان إقليم كردستان العراق حاضنا للمهجرين والنازحين، ولو بحدود معينة، فالإقليم كان يعيش هو الآخر أزمة حقيقية مع بغداد والحكومة الاتحادية. ولم يدر أحد قرب انتهاء ولاية المالكي كيف تحول الصراع السياسي إلى قتال عسكري، استقطب ميليشيات مختلفة من كل حدب وصوب ومن كل لون وطيف، أمعنت جميعها في ذبح العراقيين والاستيلاء على ثرواتهم. حتى تكررت عملية انسحاب القوات الحكومية من الرمادي لتدخل بعد عشر دقائق فقط ميليشيات «القاعدة»، ثم في نينوى ليدخل بعد عشر دقائق أيضا مسلحو «داعش» وليزيدوا المشهد العراقي اشتعالا، فأحرقوا المساجد، وفجروا مراقد الأنبياء وفي الموصل مراقد لثمانية أنبياء، وهجروا المسيحيين وسلبوا مقتنياتهم واستحلوا بيوتهم، ثم التفتوا لليزيديين وأمعنوا فيهم قتلا وسبيا وتهجيرا. وأمعنت القوة العسكرية الحكومية في تفجير وقصف المدن في إمرلي وطوزخورماتو حيث يقطن التركمان، وفي الفلوجة والرمادي بالأنبار، وأطراف نينوى، والحويجة في كركوك والتي شهدت مجزرة ثانية، حتى لم يعد العراقيون يفرقون بين الوجوه التي يلفها رماد الموت. وأعلنت الأمم المتحدة أن النازحين من مدن نينوى وديالى وصلاح الدين حيث تسكن هذا المثلث فسيفساء عرقية ودينية، بلغوا نحو مليون ونصف المليون من «التركمان والمسيحيين واليزيديين والسنة والشبك»، تلقفوا الدروب الوعرة وتسلقوا الجبال وساروا حفاة تحت حر الصيف اللاهب، لينكفئوا في خيام على أطراف إقليم كردستان، تحت السماء العارية. وأصبح عدد النازحين ، نحو مليونين ونصف المليون عراقي، لينضموا إلى مليوني عراقي هجروا عامي 2006-2007، ونحو 7 ملايين لاجئ عراقي حول العالم. عالم يركض باتجاه واحد كان العالم صامتا أمام وحشية قوات المالكي التي لم تبق ولم تذر، حتى ربط الأخير قبيل نهاية ولايته بأسبوعين بين العشائر السنية التي تسعى للإطاحة به وبين «داعش» ومسلحيها، ووسم السنة والأكراد وكل من عارضه حتى من طائفته بأنهم «دواعش وإرهابيون»، لتقوم قائمة العالم. واستقطب تهجير المسيحيين واليزيديين أنظار العالم وحقوق الإنسان، وأعلنت الأمم المتحدة أن 30 ألفا من اليزيديين محاصرون في جبل سنجار وسوف يموتون خلال 24 ساعة، مما دفع العالم إلى الركض لإسعافهم، لكن واشنطن أكدت أن عدد المحاصرين كانوا نحو 3 آلاف وأن وضعهم أفضل، بينما لم يتحدث أحد عن السنة والتركمان في الأنبار وكركوك وديالى وصلاح الدين والذين كانوا يعانون قصفا يوميا بالبراميل المتفجرة وتهجيرا طائفيا وقتلا. وفي لحظة انفتحت أبواب السماء لـ«ملاحقة الإرهاب» الذي كان عنوانه الأكبر «داعش»، وتواترت المساعدات الإنسانية والعسكرية، بين متوجس من استخدام المالكي ذلك حجة في تصفية خصومه، وبين الخوف من الانتقاد بالتقاعس عن نجدة العراقيين. لم تكن تلك لحظة خالية من أي استراتيجية، أو عمق سياسي، فلقد أدرك الأميركيون أن المالكي تسبب في خراب البلد، ولكن بعدما خرب البلد، وسعى الكونجرس الأميركي إلى الضغط على الإدارة الأميركية لاتخاذ موقف بعدم تمكين المالكي من ولاية ثالثة، فكانت صرخة النازحين ناقوسا يدق بالخطر القادم للعراق ومنه، ومسمارا في نعش العملية السياسية التي استمرت ثماني سنوات. وسمحت تلك التحولات في المشهد العراقي لمحكمة العدل الدولية بأن تفتح أبوابها لدعاوى ثلاث ضد المالكي «تتعلق بجرائم إبادة ضد الإنسانية»، إضافة إلى الدعاوى التي رفعت ضده أمام القضاء العراقي. وطفت على المشهد صورة المالكي «الذي مزق وحدة البلد وهمش الجميع وتصرف بصورة فردية، وهو أول من خرق الدستور وتشبث به من أجل البقاء لولاية ثالثة». كما نشر البيت الأبيض على موقعه الإلكتروني طلباً مقدما الى إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، دعا فيه عراقيون إلى محاكمة المالكي بوصفه مجرم حرب، ما اعتبره المراقبون تحولا في التحرك الأميركي باتجاه العراق. ولكن السؤال الذي يبقى وجعا في الذاكرة العراقية: هل كان يجب أن يموت العراقيون ويتشردوا ويتعرضوا للسبي وتحترق مدنهم، لكي ينتبه العالم أن هتلر جديدا ونيرون آخر يبني مجده على جماجمهم؟ وبين السعي إلى عودة التحالف الغربي للعراق بقضه وقضيضه، وبين مساعي تحالف المالكي إلى لملمة المشهد السياسي وتهدئة الأوضاع، يعيش النازحون العراقيون واقعا مؤلما، يشهدون فيه كل يوم مأساة إنسانية، فقد مات الأطفال جوعا وعطشا في طرق الهروب من العنف القاتلة، وانتهكت أعراض النساء، وذبح الشباب والرجال، وشهد العراق الحديث لأول مرة منذ نشأته عام 1921، سوقا لبيع النساء كجوار سبايا. لم تبق في ذاكرة المهجرين والنازحين من تاريخهم وحياتهم سوى أنهار الدماء، وركام المساجد والكنائس وبيوت العبادة المهدمة والمحروقة، ورؤوس أحبائهم التي تناثرت ككرات من النار بين أقدام اللاعبين السياسيين والعسكريين، فيما صارت عيونهم تتطلع إلى السماء حيث تلقي الطائرات الأميركية والغربية أكياس الصدقات لشعب كان أغنى شعوب الأرض.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©