الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شعريات البادية تخرج من «العلبة الإيطالية»

شعريات البادية تخرج من «العلبة الإيطالية»
13 ديسمبر 2017 21:36
تحتفل الشارقة مساء اليوم (الخميس 14 ديسمبر) باستقبال الدورة الثالثة من مهرجان المسرح الصحراوي، وهو مهرجان يستمد خصوصيته، ليس فقط من اختياره لمكانٍ فريد، وهو صحراء منطقة الكهيف، كفضاء لعروضه، ولكن ثمة أيضاً ثيماته أو موضوعاته المستلهمة هي الأخرى من بيئات صحراوية تنتشر في مشرق الجغرافية العربية ومغربها. بعد مرور ثلاث سنوات على انطلاقته، يبدو من المناسب والمهم، أن نقف على أبرز الأفكار والرؤى التي طرحته أو بلورته تجربة هذا المهرجان الذي بدا، منذ دورته الأولى، مثيراً للأسئلة والنقاشات بين العديد من المسرحيين وفي منابر عدة. فضاء ومزاج بحسب وثائق المهرجان، فلقد جاء تأسيسه استناداً إلى توجيهات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، لا كمناسبة سنوية لالتقاء العروض المسرحية العربية المنتجة حديثاً فحسب، ولكن كمشروع فني وثقافي للتطوير والإضافة إلى ما عرفه المجال المسرحي العربي من محاولات وتجارب للتجديد والتحديث في الأدوات والرؤى وطرائق العمل. وقد ظهر المهرجان جديداً كل الجدة، ومغايراً مغايرة تامة، مقارنة بسواه من تظاهرات المسرح العربي، بين الأمس واليوم، ليس فقط لكونه اقترح مكاناً للعروض غير «العلبة الإيطالية»، أو لمقاطعته «الفضاء المغلق» الذي تمثله الصالة المسرحية، وانفتح على «الهواء الطلق» الذي يمثله المجال العام، لا. فلقد نبعت جدة المهرجان وتحققت مغايرته، من اقتراحه «الصحراء»، على وجه التحديد، بناسها ورمالها وكثبانها وسردياتها وأساطيرها، إلخ.. كفضاء ومزاج.. وكموضوع أيضا لعروضه! وبقدر ما منحه هذا التوجه من طابع خصوصي للمهرجان، إلا أنه لم يخل، بالطبع، من تحديات تقنية، بخاصة بين صنّاع العروض الذين اعتادوا على العمل بتجهيزات فنية وأدائية، للإضاءة والتلوين والصوت والحركة، لا تتوافر إلا في خشبات وصالات العروض المسرحية التقليدية، التي طورتها حركة الصناعة الأوروبية وبلغت ذروتها في السنوات الأخيرة، وهم أيضا اعتادوا على نماذج محددة من الموضوعات والقصص والحبكات المسرحية، مستوحاة في أغلبها من المجتمع المديني وتحولاته وهزّاته، وفي حالات نادرة توجهوا إلى البيئات القروية وقاربوا أحوالها! بيئة متفاعلة على أن الكلام في هذا المهرجان، لا هو عن المدينة ولا هو عن القرية، إنما عن «الصحراء ومجتمعاتها»، أي عن تلك المجتمعات المجهولة، أو، على نحو أدق، التي لا يُعرف عنها إلا القليل ليس فقط بين المسرحيين والنخبة المثقفة، وإنما حتى بين عامة الناس. فلقد غُفلت، وانحسر عنها الاهتمام الإعلامي مع تشكل المدينة الحديثة وقصر دونها الضوء الثقافي إلا في بعض المناسبات ذات الطابع السياحي، وخاصة في عصرنا هذا الذي يتميز بسعيه المحموم إلى التمدن والعصرنة، وهو ما زاد من عزلة تلك البيئات ورسخ غيابها عن مشهد الثقافة العامة المتداولة وفي وسائل التعليم والتثقيف والإعلام بمجملها. لكن، من جهة أخرى، لا يبدو دقيقاً النظر إلى هذا المهرجان، الذي تنظمه إدارة المسرح بدائرة الثقافة في الشارقة، كمشروع أو مقترح للهروب من ضجيج المدن وصخبها وازدحامها، فحسب، إلى براحات الفلاة وشسوعها، والشعرية البدائية لسكونها ومرئياتها وخيالاتها، إذ في وسعنا أيضا أن ننظر إليه كمحاولة لخلق بيئة مشتركة، متفاعلة وبناءة، بين الهنا والهناك، بين الأصالة والمعاصرة. إذن، المهرجان، إلى جانب مكونات وأشكال تعبيرية شعبية أخرى، يناظر ثقافياً الحراك المتسارع نحو البلوغ إلى أقصى نقطة في سبيل التمدن والعصرنة، عبر العمران والتكنولوجيا، وغيرها من علامات ودعائم المدنية، كما أنه يمثل مساهمة من الشارقة في المسار المتصل لتجارب المسرح في العالم: نحو البحث عن فضاءات جديدة، أو البحث عن نطاق حديث للحضور والتحقق الفني، فانتقال المسرح إلى مكان مثل منطقة الكهيف الصحراوية، بقدر ما ينطوي على طموح مشروع لإضفاء خصوصيّة محلية على هذا الفن هو أيضاً يتيح فرصة عملية لاختبار مصطلح «المكان المسرحي» بمفهومه الحديث، إضافة إلى كونه يجسد سعي الشارقة إلى تطوير فكرة المهرجان المسرحي والانتقال به من كونه مناسبة مؤقتة لعرض ما سبق إنجازه وتعليبه وتجهيزه من عروض مسرحية، إلى مختبر تقدم فيه العروض وهي في حالتها الإنشائية أو الإنجازية، الآنية والمباشرة.. والحية! ولعل ذلك هو التحدي الأبرز الذي ينهض أمام أي مخرج يحاول أن يتصدى لتقديم عمله في مكان كالصحراء. وكما هو معلوم، فإن التحديات هي جزء من أي مغامرة فنية، من هنا، تحمس العديد من المخرجين المسرحيين العرب للمشاركة في الدورتين الأولى والثانية للمهرجان، كما تقدم العديد منهم لمتابعة التظاهرة ومعرفة حدودها ومحدداتها، في ما مضى وفي هذه الدورة الجديدة. مفهوم جديد وقبل إبراز المزيد من ملامح الخصوصية التي تميز تجربة هذا المهرجان لا بد من الإشارة إلى أن فكرة إطلاقه في حد ذاتها، تؤشر على انعطافة مهمة في سيرة علاقة المؤسسات الثقافية الرسمية العربية بالمهرجانات المسرحية. كيف؟ كان مفهوم المهرجان المسرحي لدى هذه المؤسسات، يتمثل في جمع طائفة من الفرق أو العروض المسرحية، متعددة الأشكال أو الأنماط، بعد ترشيحها أو اختيارها من بعض الدول العربية. من ثم، اختبار قيمتها، عبر لجنة محكمة، في الجوانب التقنية: كالإخراج والتمثيل والإضاءة والأزياء، إلخ.. وعلى هوامش تلك المهرجانات كانت تقام ندوات ومؤتمرات ذات طابع نظري، يجري فيها النقاش حول راهن ومآلات الممارسة المسرحية العربية في ضوء علاقتها بأسئلة ثقافية واجتماعية وسياسية من كل شكل ولون. وهذه المؤتمرات لطالما بدت منعزلة أو معتزلة ولعل ذلك حالها إلى اليوم. ومع أن الساحة المسرحية العربية شهدت خلال حقبة الستينيات والسبعينيات العديد من الحوارات والمحاولات والنقاشات حول الكيفية التي يمكن من خلالها إسباغ طابع محلي على هذا «الذهب الإفرنجي/‏ المسرح»، إلا أن تلك المحاولات مجتمعة انقطعت منذ سنوات وبدا كما لو أنها وصلت إلى طريق مسدود، وينظر إليها بعض المسرحيين كذكريات في سجل تأصيل الهوية العربية أكثر من كونها ممارسات أو مبادرات لتطوير الممارسة المسرحية في حد ذاتها. والنظريات والتيارات والتوجهات أياً كان توصيفها مثل «المسرح الشعبي» و»مسرح الشارع» و«الاحتفالية»، وسواها، قلما كانت ثمرات أو نتاجات لممارسات مسرحية حية ومنظورة، ففي معظمها طُرحت عبر الصحف والكتب، والقليل منها تم تجسيده عملياً أو كان نتاجاً لتجربة عملية منجزة! منذ خمس سنوات، عمدت الشارقة، إلى إضفاء لمسة تخصها في هذا التقويم المهرجاني العربي، فأضافت سلسلة من المهرجانات المختصة في «نوعيات» محددة من العروض المسرحية، فأطلقت مهرجان «المسرحيات القصيرة» الذي يعنى بضرب من الأعمال المسرحية يستمد جمالياته من كثافته وقصره، وثمة مهرجان «المسرح الثنائي» الذي ينتج دراميته من التقاطب الجدلي بين شخصيتين فوق خشبته، وهناك «المسرح الصحراوي» الذي يستلهم خصوصيته من اشتغاله على الصحراء، فضاءً ومجتمعاً وناساً، إلخ.. والقصد من ذلك أن يكون المهرجان في حد ذاته، أي في شكله وموضوعه، محلاً للنقاش والجدل، وأن يكون منصة للاختبار ولاستكشاف الآفاق الجديدة وتقصي الصلات «الكائنة» و«الممكنة» بين فن المسرح وما راكمته الممارسات الفنية التقليدية في البيئات الصحراوية من أشكال إبداعية وتعبيرات جمالية. جغرافيا ومكان وقد تم تشكيل فضاء المهرجان بحيث يماثل في مناظره قرية صحراوية. تتوسط هذه القرية فسحة رحبة هي بمثابة منصة لتقديم العروض، وتتوزع مواقع الأنشطة المصاحبة كالندوات وجلسات الرواة والعائلات والمسابقات في بيوت ومجالس تقليدية تحيط بالمكان، فيما جرى التركيز على إبراز ثراء الثقافة الشعبية الإماراتية في المطبوعات والمنشورات والهدايا الرمزية، وكذلك في أيقونات وإشارات مواقع التواصل الإلكترونية الخاصة بالمهرجان، عبر ثيمات وملامح وألوان وتعبيرات دارجة. وتصحب كل ليلة احتفاليات تراثية تعكس ملامح من البيئات الشعبية للدول الأخرى المشاركة. والقارئ لتاريخ المباني والفضاءات المسرحيّة، عبر الحقب المختلفة، يستطيع أن يميز، استناداً إلى الوصف أعلاه، اختلاف التصميم المكاني لهذا المهرجان، مقارنة بسواه، كما يستطيع أن ينتبه إلى طابعه العربي وخصوصيته الصحراوية. وملامح الاختلاف لا تقف عند هذا الوجه الظاهري، فثمة عناصر أكثر خصوصية تميز عروض هذا المهرجان. جماليات المكان ففي العروض التي شوهدت في الدورتين الماضيتين لم يكن شأن الفرجة يقتصر على الأسلوب العام وفكرة العمل المسرحي على النحو التقليدي أو الشائع في الممارسات المسرحية المعاصرة، فلقد اقترح المهرجان على صنّاع عروضه اعتماد صيغة بنائية في أعمالهم، قوامها أو عمادها قائم على أشكال التعبير الفني التي طورتها مجتمعاتهم الصحراوية كالربابة والسرد إلى جانب التشخيص، كما اقترح المهرجان أن تتوجه عروضه إلى المعين الحكائي الصحراوي وتستعيد مروياته، بوصفها مرآة لقيم وتقاليد وأعراف وتصورات سكان تلك المناطق الجغرافيّة، وتقدمها في شكل جاذب ومؤثر لجمهور هذا المكان وهذا اليوم. وبالطبع استلزم مثل هذا العمل الكثير من البحث من طرف صنّاع العروض وهو حملهم إلى تنشيط ذاكرتهم وإلى القراءة وطرح الأسئلة والتفكير في الحالات والحلول والأدوات والتحديات، على نحو زاد من حرارة التجربة وحيويتها وسحرها، على الصعيدين الجمالي والفكري، كما عبّر أغلبهم في الحوارات والمقابلات الصحفية التي أجريت معهم في صحف بلادهم أو في الصحف المحلية هنا. وقد تكاملت الموضوعات والحكايات التي استوحتها العروض وتناغمت مع الصور التعبيرية والاقتراحات الأدائية التي حفلت بها مشهديات العروض حين قدمت للجمهور، تلك الصور التي أظهرتها التعبيرات الجسمانية والصوتية المجسدة لطاقة الإنسان الصحراوي وملامحه الفسيولوجية والسايكولوجية والاجتماعية، وثمة أيضا الأزياء بألوانها وتصميماتها المتنوعة والقوية، إضافة إلى الإكسسوارات والأغراض التزينيّة والبيتية التي كانت تحدد وتبرز، بحضورها، البرّاق واللامع، خصوصيات البيئات التي قَدمت منها العروض المشاركة. أكثر، من كل ذلك، لاحظنا في الدورتين السابقتين أن المكان (البدائي؟) تحول إلى لوحة فنية متعددة الألوان والأشكال، تتلاقى وتتداخل في محيطها مفردات الأصالة، المتمثلة في بيوت الخيام ومكوناتها من آبار ومراتع وسوح، ووسائل العصر من مجسمات الضوء والصوت والكاميرات المسيرة آلياً وغير ذلك من ملحقات الثورة الإلكترونية، هكذا تعددت جماليات المهرجان وتنوعت إمكاناته، فشملت ما هو بصري ومرئي وما هو تقني وميكانيكي، إضافة إلى ما هو فكري وثقافي، فأي ثراء يمكن لنشاط مماثل أن يحققه أكثر من ذلك؟ مسامرات وندوات تشارك في الدورة الثالثة من مهرجان المسرح الصحراوي، عروض من الإمارات وموريتانيا والمغرب وسلطنة عمان. وبحسب أحمد بورحيمة، مدير إدارة المسرح ومدير المهرجان، فإن الحدث «يرتكز على المرجعية الثقافية العربية، واستعادة ما تكتنزه من أنماط حكائية وأدائية ثرية، ويسلط الضوء على ما تضمنته من قيم وتقاليد وأعراف النبل والأصالة، وذلك عبر الاشتغال المسرحي البنّاء والرشيد، ومن خلال الوسائل والأدوات المبتكرة، التي تعمق من وقع جمالياتها ودلالاتها وتحبّبها لجمهور اليوم، وتضمن لها مكانها ومكانتها في فرجات عصرنا». وينظم المهرجان في يومه الأول اللقاء التعريفي، الذي يجمع الفرق المشاركة ووسائل الإعلام. وفي كل ليلة من لياليه يحتفي المهرجان بالثقافة الصحراوية للبلدان المشاركة، وتحفل أجندة الأنشطة المصاحبة بالعديد من البرامج ذات الطابع النظري، ومن أبرزها المسامرة الفكرية التي ستأتي تحت عنوان: «مضامين المسرح الصحراوي وأساليبه: بين الكائن والممكن»، بمشاركة نخبة من المسرحيين العرب، كما ستنظم ندوات تطبيقية تعقب تقديم العروض مساء كل يوم، فضلاً عن معارض فلكلورية يومية، تعكس جانباً من ملامح الثقافة الصحراوية لدى البلدان المشاركة. ويدشن المهرجان أول كتاب حول فكرته، تحت عنوان: «المسرح والصحراء»، يتضمن مداخلات ورؤى حول تجربة المهرجان ومستقبله، إضافة إلى قراءات في بعض عروضه وفعالياته السابقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©