الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لا أحد في الكون وحيد غيري

لا أحد في الكون وحيد غيري
13 ديسمبر 2017 21:42
نُشرت «دكتور غلاس» في السويد عام 1905، فأثارت ضجّة القرّاء واستنكارهم بسبب تحليلاتها الجريئة، والتي اعتُبرت منفتحة جدًّا ومخزية، لمواضيع حسّاسة كثيرة. غير أن مؤلفها، يلمار سودربيري (1869 ـ 1941) باغتته ردّة الفعل تلك لأنه لم يكتب عملًا هجوميًّا، فلم تكن سطوره عنيفة، بل إنّه ألّف رواية أنيقة باتت الآن من كلاسيكيّات الأدب السويدي؛ رواية تتنفّس بعمق، وتتأمّل، وترسم الخريطة النفسيّة لشخصيّاتها بدقّة ومهارة، بينما تقرع أجراساً لا تشذّ عن موسيقى الرواية ككُل؛ أجراس علاقة المرء بالجنس الآخر، والدين، والرغبة، والولادة والموت، والمدينة والريف، والدولة والقانون، والشباب والشيخوخة. نضع أيدينا على يوميّات دكتور غلاس، الطبيب الذي يعالج مرضاه في عيادته المنزليّة. لهذا فنحن لا نقرأها، بل نتلصّص عليها، على أوراق سريّة لا يُفترض بأحد قراءتها، وبخاصّة عندما تخطو في عُزلة الطبيب تلك الشقراء، هيلغا، متبرّمةً من القسّ، زوجها المتولّه بها حدّ الجنون، طالبةً أن تُعفى طبيًّا من واجباتها الزوجيّة تجاهه. تأخذ البغتة غلاس من هذا الطلب الغريب، فيغدو ذهنه مشغولًا بموازنة الأمور بين الصّحيح فعله والواجب فعله، بين الفكرة ونقيضها، وبين الانتظار ولعب دور فعّال؛ فيعود لكتابة يوميّاته التي انقطع عن تدوينها لسنوات طويلة متتبعًا كل ما يحدث حتى النهاية. كتبت مارغريت آتوود في تقديمها الترجمة الإنجليزيّة للكتاب، بأنه كلّما طلعت علينا حركة أدبيّة في العالم، وجدت في رواية «دكتور غلاس» تطبيقًا لمفهومها الجديد، وكأن الرواية لا تشيخ، بل تُكتب كل يوم؛ تنهض الرواية من المدرسة الواقعيّة للأدب والتي أسّسها الفرنسيون في القرن التاسع عشر، لكنها تتجاوز حدودها بحريّة. إن بعض فنيّات سودربيري في الكتاب، مثل مزج الأساليب الكتابية ومقاطع الكولاج الأدبية، نجدها في رواية «عوليس»؛ وهناك من المشاهد السوريالية ما لا يستطيع أحد إغفاله؛ ولو أنّ تاريخ نشرها تأخّر قليلًا لما التفت إليها أحد، ولو أنّه تقدّم بعض الشيء لواكب نهوض تيّار الوعي، ولاعتُبرت من أفضل كتبه قاطبة. هنا ترجمة الفصل الأول من الرواية: لم أشهد صيفاً كهذا من قبل؛ هبوب مستمرّ لحرارة لاهبة منذ منتصف مايو. وطوال الوقت، فوق الشوارع والأسواق، تتعلّق غيمة غبار ثخينة لا تريد أن تتزحزح. لكن مع هبوط الليل تنتفض روح المرء وتنتعش قليلًا. عُدت للتوّ من نزهتي الليليّة. إنها عادةٌ أحرص عليها بعد الاطمئنان على مرضاي، وهم ليسوا بكثر الآن بحُكم الصّيف. تأتي من الشرق ليلًا نسمة هواء باردة طويلة، ترفع موجة الحرارة المتّقدة، وتنفضها بتروٍّ لتصير في الأفق وشاحًا متموّجًا من الحُمرة المبتعدة حتى أقاصي الغرب. لا قرقعة لمقطورات العمّال في هذا الوقت؛ مجرّد أبواق متباعدة من هنا وهناك لعربة أو ترام. خُطاي تأخذني ببطء إلى آخر الشارع. ومن حين إلى آخر، أصادف من أعرفه من الناس لماماً، فنتبادل الأحاديث لبعض الوقت وقوفًا عند ناصية الشارع. لكن لماذا يحدث لي مراراً أن أقابل هذا الرجل من بين البشر أجمعين؟ أعني القسّ المبجّل غرغوريوس! لا أراه إلا وأذكر طُرفة قيلت مرّة عن شوبنهاور: كان الفيلسوف الصّارم البسيط يجلس وحيدًا كعادته ذات مساء، في إحدى زوايا مقهاه المحبّب، عندما فُتح الباب وأطلّ رجل ذو سحنة ممتعضة. وفور رؤيته لتلك الهيئة من الاضطراب والقرف، حدجه شوبنهاور بنظرة حادّة، ثم هبّ قافزًا نحوه وراح بقسوة يدقّ بعصاه رأس الرجل، وما ذلك إلا بسبب مظهره الخارجي وحسب! لكنني لست شوبنهاور. فعندما رأيت ذاك الرّجل مقبلًا في اتجاهي، عبر المسافة الممتدة بيننا من جسر فاسا، توقفت مذعوراً عن مواصلة المشي والتقدّم نحوه، مستديراً نحو سور الجسر، مرخياً ذراعيّ عليه وكأنني - منذ زمن - أتذوّق روعة المشهد أمامي؛ بيوت رماديّة ترتفع على جزيرة هيلغاند. وعلى وجه نهر نورسترم، الذي يروي أشجار الصفصاف القديمة قِدم الأرض ويفتّح أوراقها، تنكمش وتنحلّ انعكاسات زخارف البناء الخشبي العتيق لحمّام عام أُنشئ على الطراز الإسكندنافي. تمنّيت ألا يراني القسّ، أو ألّا يميّز هيئتي الجانبية على الأقل. كنت قد نسيته تماماً في خضم ادّعائي عدم رؤيته، عندما وجدته فجأة يقف إلى جانبي مُرخياً ذراعيه مثلي على السور ورأسه مائل بعض الشيء، تمامًا كما رأيته أوّل مرّة قبل عشرين عامًا في كنيسة يعقوب، عندما اعتدت الجلوس على الكرسي الخشبي المخصص لأسرتنا، إلى جانب المغفور لها والدتي. وفجأة، من لا مكان، يبزغ هذا الواعظ ذو السحنة البغيضة كرأس الفطر السّام، معتلياً المنبر، صادحاً في أسماعنا «أبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ..». الوجه الشاحب الإسفنجي نفسه، والسوالف المعتكرة بالشّقرة نفسها، إلا أنها راحت تبيضّ كما يبدو لي. ولم يطرأ أيّ تبدّل على اللؤم غير الواعي في عينيه خلف عدسات نظّارته. يستحيل الهرب! أنا طبيبه كما أنني طبيب آخرين. وأحياناً يزورني حاملًا آلامه ومواجعه. ـ حسنًا.. حسنًا.. مساء الخير أيها القسّ، كيف حالك؟ ـ لستُ على ما يرام؛ في الحقيقة لستُ بخير إطلاقًا. قلبي تعيس، يقرع دون انتظام، ومن وقتٍ لآخر يتوقّف في الليل، أو هكذا أشعر! ـ سُعدت لسماع ذلك! قلت في نفسي، لأن آخر همّي هو أن تستطيع الموت! أيها المُسنّ الوغد، فلتمت أنّى شئت، أبعدني فقط عن مرآك. وبعد، إن لديك زوجة شابة فاتنة لا شكّ وأنك تعتصر الحياة من روحها اعتصاراً، وعندما ترحل عنها ستجد حتماً زوجاً آخر أفضل منك. لكن ما قلتُه بصوت مسموع هو هذا: حقًّا! حقًّا! أهذا ما تشعر به؟ ربما عليك أن تعود لزيارتي خلال الأيام القريبة القادمة. سوف نبحث الأمر سويًّا. لكن كان لديه غير ذلك للحديث عنه. أمور «مهمّة»: هذه الحرارة غير طبيعية، ما هذا اللفح! وأيضًا: يا للغباء! يُنشئون مباني ضخمة للبرلمان على جزيرة ضئيلة كهذه! وأيضًا: ليس الأمر مقتصراً عليّ وحدي، زوجتي بالمثل ليست على ما يرام. في النهاية سار الرجل في طريقه وذهبتُ إلى سبيلي. دخلت الحارة القديمة، على امتداد شارع «ستورشركوبرينكن»، وبقيت بين أزقّتها؛ مساء حميميّ ينغلق فضاؤه عليّ في الممرّات الضيّقة وبين المنازل؛ على الجدران تحبو ظلال مريبة، ظلال لم نعهد رؤيتها جوارنا. السيّدة غرغوريوس، أجل! لقد كانت زيارتها الأخيرة لي غريبة نوعاً ما. جاءت إلى العيادة أثناء ساعات الاستشارات المفتوحة. لاحظتُ وجودها منذ دخولها، كان ارتباكها جليًّا. وعلى الرغم من حضورها في وقت مبكّر، فإنها انتظرت حتى فرغت العيادة من المرضى، داعيةً أولئك الذين جاؤوا بعدها لأن يأخذوا دورها. وفي النهاية دخلت عليّ، وحُمرة الخجل تعلو محيّاها، وفي وجهها جفول. ثم راحت تتخبط في حديث أرادت منه القول إنها تعاني من التهاب في الحلق. حسنًا، الوضع في تحسّن الآن. ـ سأعود إليك في الغد أيها الطبيب، فأنا الآن في عجالة من أمري. لم تعد حتى الآن. طالعاً من الأزقة، سرت إلى نهاية رصيف ميناء «شيبسبرون». يعلو القمر سماء جزيرة «شيبسهولمان»، يطفو على صُفرة ليمونيّة محاطة بالأزرق الشفقيّ. لكن مزاجي الهادئ المسالم قد ودّعني. لقاء ذاك القسّ أفسد نزهتي. كأن العالم بحاجة إلى أمثال هذا الرجل! مَن منّا لم يوضع يومًا في مواجهة تلك المشكلة المحيّرة التي يناقشها شيطانان أو ثلاثة عندما يجلسون حول طاولة مقهى: لو كان بإمكانك عبر الضغط على هذا الزر الذي في الجدار أن تقتل ثريًّا صينيًّا ثم ترث أملاكه جمعاء، هل تُقدم على ذلك؟ لم أشغل بالي بهذه المشكلة بحثًا عن إجابة، ربما لأنني لم أتعرّف على البؤس القاسي المتمثّل في أن أكون فقيراً بشكل حقيقي وواقعي. لكن إن كان الكبس على الزر سوف يتسبب في قتل ذاك القسّ، فأظن أنه من واجبي القيام بذلك. بينما أمضي صوب المنزل، مخترقًا شحوب الشفق الغريب، صارت الحرارة أكثر قسوة منها في عزّ الظهيرة؛ وغيوم الغبار تلك، داكنة الحُمرة، الطافية طبقات طبقات خلف مداخن مصنع «كونسولمن»، باتت تميل إلى السواد وكأنها تُنذر بالشرور والكوارث. وبخُطى طويلة ومتأنيّة، عبرت جوار كنيسة كلارا، نازلًا الشارع، في يدي قبّعتي، والعرق يجري بغزارة من جبيني. على الرغم من أن الهواء لم يكن باردًا في أيّ بقعة، حتى في الظلال تحت أشجار الكنيسة العملاقة، فإن همس العشّاق، اثنين اثنين، لم ينقطع عن الكراسي الخشبية تحت كل غصن؛ بأعيُنٍ سكرانة يجلس بعضهم في أحضان بعض، ويتبادلون القُبل. *** أجلس الآن عند نافذتي المفتوحة، وأكتب. لمن؟ لا لصديق ولا خليلة. بالكاد أكتب لنفسي. لا أقرأ اليوم ما كتبته البارحة؛ ولن أقرأ كلماتي هذه في الغد. أكتب لأشغل يدي وحسب، لتجري أفكاري مسترسلة فأستبينها. أكتب لأغدر بساعة أرَق واحدة على الأقل. لماذا يهجرني النوم هكذا؟ لم أرتكب أيّ جُرم. *** ما أدسّه في هذه الصفحات ليس اعترافاً لمن أعترف؟ ولست أُخبر عن حقيقتي كاملة. أبوح بما يُرضيني فقط، وما هو صحيح.. ففي النهاية، لا أستطيع حلّ اللعنة المعقودة على روحي ـ إن كانت حقًّا ملعونة ـ باختلاق الأكاذيب. *** في الخارج، يتدلّى الليل الكحليّ فوق فناء الكنيسة وأشجارها الباسقة، ويرين على الحيّ صمت مطبق يجعل تلك الأنفاس والهمسات بين الظلال في الأسفل مسموعةً من عشّي العالي هنا. ضحكةٌ واحدة منذ قليل ثقبت الظلمة نحوي. أشعر في هذه اللحظات أن لا أحد في الكون وحيد غيري، أنا.. أنا تيكو غابرييل غلاس، الطبيب الذي في بعض الأوقات يُنجد الآخرين، لكنه لم يكن قادراً قط على مساعدة نفسه، والذي خلال الثلاثين عاماً المنصرمة من حياته لم يقترب من امرأة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©