الخميس 9 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الهروب

الهروب
14 أكتوبر 2006 23:53
سعاد جواد: ما الذي دفعني إلى اتخاذ ذلك القرار الخطير؟ هل هو الإحباط الذي واجهته في مشواري للبحث عن العمل؟ أم هو بسبب رحيل الغالية؟ والله لا أدري· يبدو أنه داء غريب أصابني فكرّهني في نفسي وكرّهني في حياتي كلها· شعور بالمرارة وعدم الرغبة في الاستمرار، وعدم تقبل الواقع الذي أعيشه··· مما أدى بي إلى الهروب· مازلت في مقتبل العمر، أنهيت دراستي الجامعية وكنت مستعدا لتكريس كل جهدي وطاقتي لخدمة وطني الذي أعطاني الكثير· أول إحباط صادفني هو صعوبة الحصول على عمل، فكلما قدمت أوراقي إلى جهة معينة، ابتسم لي الموظف المختص وقال لي: سنتصل بك قريبا إنشاء الله··· وبالطبع فإن ذلك الاتصال لم يحدث أبدا· تملكني اليأس وشعرت بأن كل طموحاتي قد دفنت تحت صخرة الواقع المر، وأنني لازلت معتمدا على أهلي ماديا· ولكم أن تتصوروا صعوبة الموقف عندما يقف شاب في مثل عمري امام والدته الارملة التي تدير شؤون الاسرة براتب الشؤون البسيط لتسد احتياجاتنا أنا واخوتي وأخواتي، ثلاث بنات وولدان أنا أكبرهم·· أقف أمامها مادا يدي طالبا المال!! الجميع كانوا ينتظرون تخرجي لأعمل وأساعدهم على تحقيق ما يحلمون به· وما أحلامهم إلا بعض الاشياء البسيطة التي يمتلكها زملاؤهم· هاتف جديد··· أثاث مناسب··· سيارة محترمة··· ساعة··· أحلام شبابية عجزت أمي عن تحقيقها لهم فباتوا ينتظرون أخاهم الجامعي كي يحققها لهم براتبه الكبير الذي سيحصل عليه بعد أن قضى سنين طويلة في الكفاح من أجل التفوق والحصول على الشهادة، فإذا بهم يجدونه منافسا لهم على ذلك الراتب الضئيل الذي تتقاضاه الأسرة· أدنى من الطموح بعد جهد جهيد حصلت على وظيفة في شركة خاصة، براتب ضئيل وساعات طويلة مرهقة من العمل· قبلت بتلك الوظيفة لأنها أفضل بكثير من الاستسلام لليأس والاحباط· بعد أن باشرت عملي وجدت أن ظروف العمل وزملاء العمل وأجواء العمل كلها توحي بأنني الغريب الذي لا أحد يطمئن له· جاهدت نفسي حتى تصبر وتتأقلم وتتقبل هذا الوضع البائس· هذه النفس التي لم تهدأ ولم تعرف القدرة على التكيف· فقلت لها وأنا أحاورها: ما أسوأ ما يمكن أن يحدث؟ فلم تجبني· فهونت عليها لتقبل بالأمر الواقع وتتعايش معه، فنجحت في ذلك واستطعت أن أستمر في عملي عامين كاملين· في تلك الأجواء الكئيبة برز قمر نوّر ظلمة حياتي كلها، فقد تم تعيين شابة تخرجت حديثا ولم تحصل على عمل في القطاع الحكومي فآثرت العمل في هذه الشركة الخاصة على الجلوس في المنزل ونسيان كل ما درسته وتعلمته· إنها من عائلة ميسورة الحال ولم تفكر كثيرا في الراتب البسيط الذي ستتقاضاه في هذه الشركة واعتبرت عملها فقط للحصول على الخبرة المطلوبة للعمل في أماكن أفضل· لقد ساقها الله إليّ، فمنذ أن تم توظيفها أوكلت إلي مهمة تدريبها، ويا لها من مهمة رائعة· لقد دخلت قلبي منذ اللحظة التي رأيتها فيها، ويبدو أنها كانت تشعر بنفس شعوري· لم تمض إلا أسابيع قليلة حتى كشفت لها ما يعتلج بصدري نحوها، فكشفت لي روعة المشاعر التي تنتابها كلما قابلتني· صارحتها بأنني أريدها زوجة لي، ولكن هنالك جبلا من المصاعب يقف بيني وبين تحقيق تلك الرغبة فقالت لي: بالحب والإرادة سنذلل كل المصاعب بإذن الله· على البركة بعد أشهر قليلة مهدت لي الأمور مع أهلها فتقدمت لخطبتها فوافق أهلها وأبدوا تفهما رائعا لوضعي· تم عقد القران بحفل بسيط في منزلهم وكان مهرها بسيطا مقدور عليه، وقد قدمت لها شبكة بسيطة تناسب امكانياتي· حتى العرس تم في حدود ضيقة وبتكاليف مناسبة، بعد أن يسرت خطيبتي كل الأمور ولم تطالبني بشيء يفوق طاقتي، ورضيت أن نسكن في بيت أهلي المتواضع البسيط· تم العرس وزفت إلي كأجمل عروس في الدنيا فغمرتني السعادة بشكل لا يمكن وصفه أبدا· إنها امرأة مثالية في كل شيء، وجودها يبعث على الفرح والسعادة، دائمة الابتسام، شاكرة لربها في جميع الأحوال، أحبها أهلي كما أحببتها أنا، أصبحت لهم الابنة والاخت فتعلقوا بها وصاروا ينافسوني في التواجد معها وتجاذب الأحاديث الحلوة· أدخلت هذه الإنسانة على بيتنا السعادة والفرح الذي غادرنا بعد رحيل الوالد رحمه الله وحزن الوالدة العميق عليه والذي انعكس على اسرتنا سنين طويلة· لم اشعر يوما بان راتبي قليل··· كانت تردد باستمرار جملتها الشهيرة··· البركة هي التي تجعله كافيا··· فاحمد الله على نعمة البركة· للأسف فإن تلك السعادة لم تدم طويلا، فبعد عام واحد من زواجنا أخذت زوجتي تشتكي من آلام في جسدها· في البداية لم ترض أن تذهب إلى الطبيب وبقيت صابرة· كانت خائفة من الذهاب إلى المستشفى وكأنها تعلم بما يخبئه القدر· ازدادت الآلام ولم يعد بالإمكان أن تصبر أكثر فرضيت أن تذهب معي لإجراء الفحوصات والتحاليل··· وليتها لم تفعل· فللأسف أثبتت التحاليل انها مصابة بالمرض الخبيث، ولم تمهلها الأيام كثيرا فرحلت وتركتني محطما ويائسا· أيام صعبة وقاسية عاشتها اسرتنا من جديد، ذكرتنا بمعاناة والدنا ورحيله الصعب عنا، فأصبح وضع الجميع في حالة يرثى لها· في تلك الفترة تم الاستغناء عني في العمل نتيجة عدم التزامي وعدم تركيزي أثناء مرض زوجتي، فكانت هذه هي الضربة الثانية التي جاءتني فزادت الطين بلة· وشعرت بأنني إنسان سيئ الحظ من جميع النواحي وضاقت بي الأرض بما رحبت وتملكتني الكآبة بشكل كبير· قرار مجنون انزويت في غرفتي شهرين متتالين دون خروج أو التقاء بالناس، حقدت على العالم كله وتمنيت مفارقته· فكرت في الانتحار ولكنني تراجعت لأنني إنسان مؤمن وأعرف بأن قتل النفس كفر· فهل أرضى لنفسي مثل هذا المصير؟ ثم إن حبيبتي ستكون في الجنة وهي بانتظاري فهل افارقها في الآخرة كما فارقتها في الدنيا؟ أبعدت فكرة الانتحار عن ذهني··· ولكني بقيت حائرا··· ماذا أفعل بنفسي؟ لقد كرهت كل شيء من حولي ولم يعد من الممكن أن أتكيف من جديد مع كل من حولي··· فماذا أفعل؟ بعد تفكير طويل وبقرار مجنون اخترت أن أهرب· ان أترك الوطن وأبعد عن كل ما يذكرني بتعاستي واحباطي· إنها الوسيلة الوحيدة التي ستنسيني ما أنا فيه· كان لدي بعض المال الذي تركته لي زوجتي رحمها الله··· فقررت الاعتماد عليه لأرحل بعيدا عن دائرة الحزن واليأس والإحباط التي تكاد تخنقني· أخبرت أهلي بقراري فكان لهم بمثابة صدمة جديدة أوجعتهم· أين ستذهب؟ وإلى متى ستبقى؟ هل أنت مجنون؟ وضعك لا يساعد على السفر؟ لا تسافر لوحدك؟ ألقيت بكل شيء وراء ظهري، ولم أكترث لأحد منهم· كنت مصمما على السفر مهما كانت النتائج· أريد أن أنسى نفسي··· أنسى همومي وأوجاعي··· أنسى كل ما يذكرني بواقعي الصعب المؤلم· شددت رحالي إلى إحدى بلدان شرق آسيا الرخيصة وقررت البقاء هناك أطول مدة· حتى أسمي الحقيقي فكرت بتغييره· سأكون شخصاً آخر غير ذلك المخلوق التعيس الذي يحاصره الفشل من كل مكان· مدينة أخرى وصلت إلى المطار وركبت سيارة أجرة· سألني السائق عن المكان الذي أريده فقلت له: اختر لي فندقا بسعر مناسب وعلى ذوقك· ابتسم السائق ورفع الكلفة بيني وبينه وصار يتحدث معي وكأنه صديق قديم· قلت في نفسي: بداية طيبة··· شعب ودود لا خوف منه· أخذني إلى فندق كبير وسط المدينة وقال لي: هذا الفندق يقصده الخليجيون··· فكل ما يريدونه متوفر حواليهم··· المطاعم العربية··· السهرات، التدليك والتسوق··· كل الأشياء متوفرة هنا دون تعب· أخبرته بأنني لا أريد هذا الفندق بالذات وانني أريد مكانا لا يتواجد فيه الخليجيون بشكل خاص· نظر إلي السائق بحيرة ولم يستطع استيعاب وضعي· بقي ساكتا طوال الوقت حتى أوصلني إلى فندق آخر وهو حائر في أمري· دخلت إلى الاستقبال فسألتني الموظفة عن الاسم· أردت أن أذكر اسما مستعارا ولكنني ترددت، لأنني أعرف بأنها ستطلب جواز سفري فلا يمكن أن أغير الاسم وأهرب منه· عموما فليبق الاسم··· الاسم فقط لن يتغير، أما حياتي كلها فلا بد أن تتغير طوال مدة السفر· بدأت يومي الأول في جولة حول المكان وأنا أفكر· ماذا سأفعل هنا؟ وكيف سأمضي الوقت؟ أحسست بالجوع· أردت أن آكل شيئا··· ولكن ماذا آكل؟· الأطعمه تبدو غريبة، رائحتها غير مستساغة· أخشى أن أتناول طعاما غريبا فيكون فيه لحم خنزير أو لحم كلاب أو قطط، أو ربما يكون بداخله مجموعة صراصير أو ديدان، هذه الشعوب تأكل أشياء تبعث على التقزز· ركبت سيارة أجرة وطلبت من السائق أن يأخذني إلى أحد المطاعم العربية· أخذني السائق إلى نفس المنطقة التي أحضرني إليها سائق الأمس· نزلت من السيارة ودخلت أحد المطاعم العربية الموجودة هناك· جلست أتناول طعامي بنهم، وأنا أستمع لأحاديث بعض الجالسين العرب· كانوا يتحدثون بحماس عن أحداث لبنان وما يجري فيها من تخريب وتدمير إسرائيلي· أخذت شهيقا تبعته حسرة موجعة··· هل يستطيع الإنسان أن يهرب من نفسه؟ من تاريخه؟ من مجريات الامور التي عاشها طوال عمره؟ ليتني أملك الصبر والثبات··· لكنت تحملت على كل شيء ولتقبلت حياتي وابتلعت أحزاني وواصلت العيش بلا تذمر أو هروب· عدت إلى غرفتي في الفندق، جلست بلا هدف أتطلع من شباكها إلى الشوارع المكتظة بالبشر· كل واحد من هؤلاء له هدف يسعى إليه، ولديه مشاكل ومصاعب تحيط به، الله وحده يعلم ما هي حكاياتهم، وكيف يواجهون مشاكلهم· خرجت من جديد أتمشى هنا وهناك· انه وضع متعب· ماذا سأفعل طوال الوقت؟ يجب أن أتعرف إلى شخص يساعدني على تمضية الوقت· بحثت بين الوجوه··· عدد كبير من الفتيات، كل واحدة منهن تنتظر إشارة للتعارف وإقامة العلاقة، ولكنني لا أريد أن أخون الغالية ولا أريد ارتكاب الحرام فنفسي تأباه··· فماذا أفعل؟ ها أنذا وبعد آلاف الأميال التي تفصل بيني وبين وطني لا أحس بفارق بين حالي هنا وهناك· هذه هي الحقيقة· يبدو أنني قد أخذت حزني معي عبر هذه المسافات الشاسعة· أخذت الشيء الوحيد الذي هو مصدر كل ما اعانيه· إنها نفسي· هي سبب كل البلاء· نفس لا تعرف الصبر، ولا تقبل بحكم الله وقدره·· هذه النفس التي إن أطعتها فستخرجني عن طاعة الله· في هذه اللحظة بالذات خرجت من داخلي كل حالات الاضطراب والوجع وعدت للتفكير المتزن في حياتي· فكرت في أمي وإخوتي ولوعتهم على فراقي ومدى القلق الذي تركته لهم عندما رحلت دون أن أكترث لهم· ماذا يعني ألا أجد عملا بسهولة؟· كان علي أن أعيد المحاولة وألا أيأس، وأن أظل مثابرا حتى أجد فرصتي التي أريدها· وماذا يعني أن تموت زوجتي؟ فالموت حق علينا، وأنا على يقين بأنني سألتقيها في دنيا أخرى أفضل من هذه الدنيا الفانية والتي لن تطول كثيراً· ادركت أنني أخطأت عندما قررت الهروب، فعدت أدراجي إلى وطني الغالي، وأنا أتذكر قول الشاعر: بلادي وإن جارت علي عزيزة وقومي وإن ضنوا علي كرام· تنفست السعادة في استقبال أمي وإخوتي الحار لي مع أنني لم أغب عنهم سوى أيام قلائل· بدأت بتفاؤل عملية البحث عن عمل· واجهت صعوبات كثيرة ولكنني وفقت أخيرا لعمل جيد يناسب تخصصي· زال الهم عن قلبي وغادرني الإحباط ولله الحمد· على الرغم من حبي العميق لزوجتي الراحلة فأنا أعلم بأن الحياة لن تتوقف وأن قلبي سينبض بالحب من جديد، خصوصا وأنني بدأت ألمس اهتمام إحدى زميلات العمل بي وإصرارها على كسر الحواجز النفسية التي تقف بيني وبين الارتباط بها· ترى كم كنت سأخسر لو أنني أطلت فترة الهروب؟
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©