الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من قاعة إفريقيا إلى القارات الخمس

من قاعة إفريقيا إلى القارات الخمس
10 نوفمبر 2010 19:40
في الندوة التي عقدتها جائزة الشيخ زايد للكتاب على هامش الدورة التاسعة والعشرين لمعرض الشارقة الدولي للكتاب التي اختتمت فعالياتها قبل أيام، وصف الكاتب والقاص الإماراتي محمد المرّ التطور والحراك الكبير الذي يشهده المعرض حالياً، بأنه نابع من “روحية الأمل” التي انطبعت في دواخل القائمين على المعرض منذ بداياته البسيطة والمتقشفة في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، والتي تحولت بعد ذلك من خلال طموح لا يعرف التوقف، إلى قوة دفع كبيرة باتجاه مستقبل القراءة في المكان، وباتجاه قراءة مستقبل هذا المكان أيضاً. “روحية الأمل” التي تحدث عنها المرّ، هي التي تحولت في الدور الأخيرة للمعرض إلى تجسيد وملامسة حاضرة لذلك الحلم البعيد والمكتنز الذي انشغل به وسقاه وسهر عليه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة طوال الأعوام التسعة والعشرين الماضية، حلم أصبح باسقاً الآن وها هي ثماره الناضجة تتوهج في الأعين وتتلقفها الأيادي من كافة الأعمار والجنسيات، في مشهد كان يبدو مستحيلاً إذا عدنا من خلال (فلاش باك) سريع إلى محتويات المعرض الصغير في (قاعة إفريقيا) مطلع الثمانينيات، والذي كان يضم في قاعته الضيقة أربع أو خمس مكتبات تجارية محلية، وكان رواده القليلون أشبه بالمتبضعين الذين لا يملكون خيارات أوسع، رغم تعدد أذواقهم وتنوع انشغالاتهم الفكرية والأدبية. خرائط الذاكرة إنها قوة الدفع الحالمة التي أوصلت عدد زوار المعرض اليوم إلى نصف مليون زائر ـ حسب الإحصاءات الرسمية لليوم الأخير من المعرض ـ وهي قوة الدفع ذاتها التي حولت التجمع الصغير في (قاعة إأفريقيا) إلى عرس صاخب وكرنفال كبير في القاعات الرحبة لمركز أكسبو الشارقة، عرس وكرنفال باتا يحتضنان القاصي والداني، ويرسخان قيمة عاصمة الثقافة العربية كمحفل دائم للكتاب، وكوجهة صامدة يتوافد عليها المثقفون والأدباء والأكاديميون وكل عشاق ومريدي الكلمة. وكعادته التي دأب عليها وتحولت إلى تقليد ثقافي جميل ومتواصل افتتح صاحب السمو حاكم الشارقة المعرض بتوقيع الجزء الأول من كتابه الجديد “حديث الذاكرة” الذي استعاد سموه من خلاله، وبأسلوب توثيقي شائق، تلك الأحداث والمحطات السياسية والاجتماعية المثيرة والحرجة التي مرت عليها الدولة قبل وأثناء وبعد قيام الاتحاد، وهي أحداث متداخلة ومتشابكة تحولت تحت قلم سموه إلى خرائط ذهنية وذاكراتية مليئة بالتفاصيل الشخصية والهواجس العامة المتداخلة مع لحظات وقرارات كبرى ومفصلية وخطيرة، لأنها قرارات كانت على موعد مع تحديد مصير دولة برمتها ومصير شعب بأكمله. كتاب “حديث الذاكرة” جاء بعد كتاب “سرد الذات” في معرض العام الماضي، ليفتح سموه من خلال الكتابين باباً ومنفذاً لقراءة ما هو “قديم” من أجل معالجة ما هو “قادم”، وهذا الاستشراف الداخلي الذي لوّن معظم مؤلفات سموه التاريخية والمسرحية الموصولة بسيرة الذات والمكان، هو استشراف يسعى لترميم المسافة بين المنسي والحاضر، ويطمح أيضاً لقراءة المستقبل بعين رائية ومتبصرة ومتفائلة، إنها النظرة البانورامية الأشبه بنظرة الطائر الذي يحوم فوق أطلال الماضي من أجل صياغة قوام ثابت ومتين للمستقبل، هذا القوام الذي بنى سموه على أساسه وهيكله “مشروع الشارقة الثقافي” وهو على ما يبدو مشروع شامل يمنح الكتاب قيمته ومكانته وسيرورته، كي تظل الثقافة جزءاً حيوياً وغير منفصل عن ميكانيزمات التنمية المستدامة المعنية بأفكار ومعارف الجيل القادم. إحصاءات ودلالات افتتح المعرضُ الذي تنظمه سنوياً دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة في السادس والعشرين من شهر أكتوبر الماضي، واختتم في السادس من نوفمبر الجاري، والمعرض الذي حمل شعار (في حب الكلمة المقروءة) احتوى على 200 فعالية ثقافية توزعت على عدة نشاطات وبرامج مثل الملتقى الفكري الذي شارك فيه أكثر من 200 شخصية عربية وأجنبية، كما ضمت فعاليات المعرض برنامجاً ثقافياً مكثفاً للأطفال ذا طابع فكري وترفيهي، إضافة إلى برنامج مهني وسلسلة معارض أبرزها: معرض أكثر الكتب مبيعاً، وملتقى خاص لناشري كتب الأطفال، وللاتحاد العربي للنشر الإلكتروني يتخذان من الشارقة مقراً لهما. وشاركت في المعرض 53 دولة عربية وأجنبية من خلال 789 دار نشر قدمت إصداراتها المتنوعة في كافة حقول المعرفة الإنسانية ووصل عدد العناوين إلى 200.000 عنوان، وتضمنت هذه الدور أيضاً 27 دار نشر متخصصة في الكتاب الرقمي. ورافقت المعرض مواكبة إعلامية حافلة من الوسائل المسموعة والمقروءة والمرئية، وتمت استضافة 20 إعلامياً من ممثلي الصحف العربية إضافة إلى الصحف الأجنبية والمجلات والمواقع الإلكترونية الذين شارك بعضهم في فعاليات المقاهي الثقافية وفي الملتقى، من خلال تقديم أمسيات شعرية وقصصية وفكرية. وفي تصريح لـ”الاتحاد الثقافي” أشار حمد العامري مدير معرض الشارقة الدولي للكتاب إلى أن أكثر من نصف مليون شخص زاروا المعرض وشكلوا بدورهم خلال الانثى عشر يوماً حراكاً ثقافياً فاعلاً في حركة نشر وتوزيع الكتاب، وساهموا في تفعيل وإضاءة المشهد الثقافي العام. ومن الظواهر التي باتت لصيقة بمعرض الشارقة للكتاب حفلات توقيع الكتب والتي كان نصيب المؤلفين الجدد منها هو الأوفر، إلا أن الكتاب المعروفين والمخضرمين وعلى قلة نتاجاتهم، ظفرت توقيعات كتبهم بحضور أكبر من جمهور المعرض، وكانت المتابعة الإعلامية لهذه الحفلات بمثابة مدخل مهم لترويج هذه الكتب والتعرف على طبيعتها ومحتوياتها، وعلى أهواء مؤلفيها وانطباعات المقتنين لها. أدب الطفل حفلت الدورة التاسعة والعشرون من المعرض بالعديد من النشاطات الفرعية المتمثلة في المقاهي الثقافية والورش الفنية ومسرح الدمى وجلسات الحكواتي، بالإضافة إلى العروض المسرحية الموجهة للطفل والتي أقيمت في الساحة الخارجية للمعرض، هذه الأنشطة الفرعية منحت الحدث زخماً مختلفاً وجعلته أقرب للفضاء التفاعلي الذي يكسر روتين الزيارة وعمليات البيع والشراء، لإغراء الكتب بعناوينها الجديدة والمثيرة للفضول، وكسر الوجهة الواحدة أو الهدف الواحد جاء وبشكل مقصود من قبل اللجنة المنظمة للمعرض من أجل تحويل خيمة الكتب إلى مسرح سمعي وبصري، وإلى ساحة للجدل والنقاش والذي كان للأطفال فيه نصيب وافر من المشاركة والحوار وتخطى الحاجز النخبوي الذي يفصل الكبار ويضعهم في منطقة معزولة وعالية، ففي جلسة نقاشية بأحد المقاهي الثقافية في المعرض قدم القاص والشاعر العراقي قاسم سعودي قراءة حول (جماليات الإبداع والتلقي لدى الطفل)، وكان الحضور الطاغي للأطفال في الجلسة لافتاً وملحوظاً بالنسبة لزوار المعرض، حضور ساهم هو الآخر في منح الجلسة طابعا خاصا وحميميا، نظرا لتوجه أهداف ومرامي النقاش نحو هذه الشريحة المهمة والمهملة أيضا. وفي ندوة أخرى حملت عنوان (سبل تشجيع الأطفال على القراءة) تبادل المتحاورون الطرق والوسائل التي يمكن من خلالها تحويل عادة القراءة إلى نمط يومي ومتواصل في حياة الطفل، وركزت الندوة على ضرورة الاستفادة من وسائط الميديا الحديثة، لأن القراءة أصبحت نشاطاً اجتماعياً مهماً، وأن هدف دور النشر يجب أن يراعي بجانب الكسب المادي تقديم طرائق مبتكرة وقصص ذات أهداف ومضامين توسع من ثقافة ومخيلة هذه الفئة العمرية. وأشارت معظم الندوات التي انشغلت بأدب الطفل إلى ضعف الثقافة الذاتية لدى منتجي هذا النوع من الأدب، وألمحت إلى أن إشارات هذا الضعف تبدو واضحة في اختيار الموضوعة القصصية المحفزة لخيال الطفل ولوعيه الجمالي الطموح، وكذلك في النظرة الجاهزة أو الذهنية المغلقة التي تنظر للطفل كسبورة بيضاء قابلة للمحو ومهيأة للثيمات المكررة. وحول محور (المواهب القصصية أو الطفل المبدع) أشارت إحدى الندوات إلى أن الطرائق المتاحة لتنمية الكتابة القصصية لدى الطفل يمكن أن تتنفس وتتوهج داخل الورش العملية التي تتضمن تطبيقات سردية (الرؤى والكتابة) ولونية (الرسم والتشكيل) بحيث تمثل هذه العملية منطلقا أوليا لتحفيز خيال الطفل وتنمية علاقته بالأشياء والموضوعات الملموسة والخيالية المحيطة به والمتولدة في داخله. وعن أهم مفردات تنشيط العملية الإبداعية لدى الطفل، أشارت إحدى الندوات إلى أنها تتمثل في ضرورة الاهتمام بلغة الطفل التعبيرية وتطويرها، والإيمان بقدراته الذهنية وتكويناته المكتسبة من فضاء التفاعل الحرّ، والاطلاع على أهم التجارب الإبداعية في قصة الطفل، والتي تساهم في تنمية وإثراء ملكته الجمالية وتذوقه الأدبي وحسه الإنساني المسكون بالجديد والمثير والمدهش. وحول الحضور النقدي في قصة الطفل، أكدت الملاحظات التي أوردها المنتدون أنها ملامح غائبة ومشوشة بسبب قلة الملتقيات النقدية الخاصة بأدب الطفل، وللخروج من الباب الضيق والموارب هذا، اقترح المحاضرون توجيه بوصلة الجهود التي يبذلها المهتمون بأدب الطفل نحو ضرورات تفاعلية أكثر حراكا وأعمق وعيا، وذلك من خلال خلق مساحة أوسع لحلقات النقاش العملية التي يشارك فيها الأطفال أنفسهم، فوجود أطفال يكتبون، وأطفال يناقشون، وأطفال ينقدون، يحقق حسب المحاضرين: “ثلاثية جمالية ستعمل بلا شك على خلق المناخ الإبداعي الكفيل بتطوير أدائهم القصصي والإنساني والمجتمعي”. كما أشاروا إلى أن الإرادة الواعية والحيوية الثقافية المتناغمة والتجويد وتطوير الحسّ النقدي، تمثل أهم العناصر المحركة لعجلة الإبداع في المؤسسات الثقافية المختصة بهذا الشأن، والساعية إلى النهوض بأدب الطفل والأخذ به نحو أفق أرحب وأكثر إشراقاً. الناشرون الجدد.. غموض وارتباك أمام المخضرمين من المعروف أن فعل “التدوين” كان هو المعبر الأساس نحو “التنوير”، لأنه نقل الإنسانية من الهمجية والبربرية والفوضى إلى التنظيم والتوثيق وترويض المخيلة وتكريس الإبداع، وفي كل دورة جديدة من معرض الشارقة الدولي للكتاب تكون هموم وأحلام أصحاب دور النشر ـ أو حرّاس التدوين ـ هي المهيمنة والمسيطرة على أجواء المعرض، ففي الدورة الأخيرة جاءت بعض الندوات واللقاءات بين الناشرين وبين اللجنة المنظمة وبين القراء أيضا، أشبه بمكاشفات وانتباهات حول مستقبل الطباعة الورقية وحول الأزمات الاقتصادية المحيطة التي يمكنها أن تعيق التواصل المرن بين القارئ والناشر من جهة، وبين استمرارية وصمود النشر الورقي من جهة أخرى، وانصبت معظم النقاشات حول التفاوت الكبير بين دور النشر المعروفة والعريقة وبين الدور الجديدة والصغيرة والتي وجدت نفسها منسية ومعزولة نوعا ما وسط الاستقطاب والهالة الإعلامية والثقافية التي تتمتع بها الدور الكبيرة. وكانت معاناة الناشرين واضحة عندما تحدثوا عن المغامرة التجارية التي ترافق طباعتهم للكتب التخصصية ولمؤلفات الأدباء الشبان، فهم من جهة يريدون أن يؤسسوا لمنهج أو خط ثقافي معين له أن يصيغ هوية مستقلة لدار النشر، ولكنهم في الوقت ذاته لا يغفلون هامش الربح المطلوب في هكذا صناعة تخصصية ونادرة وحرجة تسويقيا وتجاريا، وكانت معظم مطالب الناشرين منصبة على ضرورة دعم الدولة والمؤسسات الحكومية للخطط الثقافية الطموحة التي تسعى بعض دور النشر الجديدة إلى تحقيقها، فدار نشر جديدة مثل دار: (كتّاب) التي أسسها أحد الناشرين الإماراتيين الشبان تعاني كثيرا من سيطرة دور النشر الكبيرة، فهذه الدار ورغم طموحها المختلف والمعني بنشر القصة والرواية الإماراتية والخليجية تجد نفسها غريبة ومهملة وسط حالة الحذر والتردد التي تنتاب الكاتب المحلي والخليجي عند تواصله مع هذه الدار، وفي تصريح لجمال الشحي مؤسس دار (كتاب) يقول: “على الرغم من عمليات الترويج والتسهيلات الكبيرة التي تقدمها الدار للمؤلف وللقارئ على السواء إلا أن حداثة التجربة تضعنا في موقف غامض ومربك عند محاولتنا جذب المؤلفين إلينا”، وتمثلت الهموم الأخرى التي أثيرت خلال هذه النقاشات في ضعف التواصل بين دور النشر العربية وبين الدور الأجنبية داخل المعرض، لأنه في حال تحقق هذا التواصل ستكون هناك مساحة لتبادل الخبرات في مجال التسويق والترويج وآليات عرض الكتب، وكذلك في مجالات الترجمة المتبادلة التي تثري الحوار بين الثقافات المختلفة، وتخلق جسورا جديدة وغير مكتشفة بين الإسهامات العربية والإسلامية القديمة والمعاصرة وبين التراث الأدبي العالمي الخصب والمتعدد، والذي ما زال مكانه شاغرا في أرشيف الثقافة العربية، وفي مكتبات القراء العرب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©