الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابن خلدون .. الملهم الأكبر لعلماء الاجتماع في أوروبا

15 أكتوبر 2006 02:01
الاتحاد – خاص: كان عالماً مثابراً وباحثاً دؤوباً ومجدداً رائداً في علوم كثيرة وفنون شتى، وألقت أعماله العلمية بظلالها على الحضارة الإسلامية والإنسانية جمعاء· لتبقى أفكاره وآراؤه مصدر إلهام للباحثين والدارسين منذ أيامه حتى اليوم· هو ولي الدين أبو زيد عبدالرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن خالد الحضرمي، المعروف بابن خلدون، المولود سنة 732 للهجرة في تونس· تربّى ابن خلدون في وسط أسري علمي، فتعلم القرآن الكريم وأخذه عن والده وهو لا يزال طفلاً، حديث السن، ثم درس علوم المقرأ والتفسير والحديث الشريف والفقه المالكي وعلم الأصول والتوحيد، وفنون اللغة كالنحو والصرف والبلاغة والأدب وعلم المنطق والفلسفة والطبيعة والرياضيات· وكان يتلقى الدروس في كل هذه المواد على أيدي عدد من كبار علماء الأندلس النازحين إلى تونس بعد الأحداث التي ألمت ببلادهم· وتذكر المصادر التاريخية من هؤلاء الأساتذة والشيوخ محمد بن عبد المهيمن الحضرمي (إمام المحدثين والنحاة في المغرب)، ومحمد بن سعد بن برال الأنصاري، ومحمد بن الشواشي الزرزالي، ومحمد بن العربي الحصايري، وأحمد بن القصار، ومحمد بن جابر القيسي، ومحمد بن سليمان الشظي، وعبدالله بن يوسف المالقي، وأحمد الزواوي، ومحمد بن عبدالسلام، ومحمد بن إبراهيم الآبلي الذي علمه الفلسفة والمنطق والطبيعة والرياضيات· الطاعون غير أن أمراً قاهراً جاء ليضع حدّاً لجهود الفتى الدراسية، حيث حل بتلك البلاد وباء الطاعون الذي انتشر سنة 749 للهجرة فقضى على والديه وعلى عدد كبير من أساتذته، ومن نجا منهم هاجر إلى المغرب الأقصى· في ظل هذه الظروف، لم يجد ابن خلدون بدّاً من العمل في الدولة الذي كان أجداده يمتهنونه، وشغل وظيفة كتابية متواضعة في بلاط بني مرين لم يرض عنها، فغادر البلاد قاصداً الديار المغربية· وهناك عينه السلطان ''أبو عنان''، ملك المغرب الأقصى، عضواً في مجلسه العلمي بفاس، ما مكنه من التعلم من جديد على شيوخ هذه المدينة· غير أن هذه النعمة لم تطل كثيراً، فقد تناهى إلى مسمع السلطان أبي عنان أن ابن خلدون يجري اتصالات مع أمير ''بجاية'' المخلوع، أبي عبدالله محمد الحفصي، وأنه يدبر معه مكيدة لاسترداد ملكه، فوضعه أبو عنان في السجن وظل حبيساً طيلة سنتين حتى وفاة السلطان· بعد أبي عنان تولى ''أبو سالم أبو الحسن'' فأفرج عن ابن خلدون وقربه، حيث عينه على كتابة سره والترسيل عنه· من هنا بدأ صاحبنا تطبيق أفكاره لإصلاح الكتابة والتخلي عن نظام السجع الذي كان سائداً في الرسائل· وبعد سنتين ولاه السلطان خطة المظالم، فأجاد فيها وأحسن العدل، وأعجب به الناس وذاع صيته· لكن الوجه الآخر للمسيرة ما لبث أن برز من جديد، حيث انقض عليه الوشاة والحاقدون فأوغروا صدر السلطان الذي عزله من منصبه· غرناطة·· الترف والعودة إلا أن الدوام لله وحده، فبعد فترة قليلة تم خلع السلطان أبي سالم وولي مكانه أخوه ''تاشفين'' الذي ضم إلى بلاطه من جديد ابن خلدون بل وزاده على ما كان فيه مع أخيه من قبله· غير أن كل هذه المناصب لم تلبِّ طموح ابن خلدون فقرر الرحيل إلى ''غرناطة'' في الأندلس، وكان ذلك في حدود سنة 764 للهجرة· وفي هذه المدينة لقي الرجل الترحاب والتقدير من سلطانها ''محمد بن يوسف بن الأحمر''، ووزيره ''لسان الدين بن الخطيب'' الذي كان قد تعرف عليه في فاس، فعهد إليه السلطان بسفارة يقوم بها عند ملك قشتالة، بِطْرُه بن الهنشة بن أذقونش، لمحاولة إبرام اتفاقية صلح بينهما، وهي المهمة التي ساعده الحظ فيها، فحقق نجاحاً باهراً حصل بسببه على أرض كبيرة منحه إياها السلطان الذي أغدق عليه الأموال حتى صار في عيشة مترفة· إلا أن الدسائس لاحقته في غرناطة وعكرت صفو الود بينه وبين الوزير ابن الخطيب، فسعى هذا الأخير، حسب الروايات، إلى إغراء السلطان به، فشعر ابن خلدون أن رحلة العزّ في المدينة قد انتهت، فعاد إلى المغرب· وتقول بعض المصادر إن أمير ''بجاية''، أبي عبدالله محمد الحفصي''، تمكن خلال تلك الفترة من استعادة عرشه، فاستقدم ابن خلدون من الأندلس وولاه الحجابة عرفاناً له بالجميل القديم· وظل في هذا المنصب حتى بعد استيلاء أمير قسطنطينة على ''بجاية''· لكن ابن خلدون سعى للتآمر على سلطانه الجديد فانكشف أمره، وفرّ إلى الأندلس تاركاً أسرته في فاس، ثم رحل من جديد قاصداً أرض الجزائر وقد عزم على اعتزال شؤون السياسية والتفرغ للتأليف والتعلم· أقام الرجل عند بعض أصدقائه في ناحية ''وهران'' واستقدم أهله من فاس ومكث إلى جوارهم في هذا المكان الهادئ مدة أربع سنوات استطاع خلالها تصنيف كتابه المعروف ''كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر''· وكان ابن خلدون قد بلغ الخامسة والأربعين من العمر وهو يضع اللمسات الأخيرة على هذا الكتاب الذي تناولت مقدمته الشهيرة شؤون الاجتماع الإنساني وقوانينه· إلى مصر··· عاد ابن خلدون إلى مسقط رأسه في تونس، فانكب على تنقيح كتابه المذكور آنفاً، لكنه ما لبث أن عاود الترحال وكانت وجهته هذه المرة الديار المصرية· وتقول المصادر التاريخية إنه وصل إلى الإسكندرية في شوال من سنة 784 للهجرة، فاستقر بها شهراً ثم ذهب إلى القاهرة حيث انبهر بما شاهده من حضارة وعمران· ويقول هو نفسه عن القاهرة: ''فرأيت حضرة الدنيا وبستان العالم ومحشر الأمم وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الخوانك والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، وقد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة، ومدفع مياه السماء، يسقيهم النهل والعلل سيحه، ويحيي إليهم الثمرات والخيرات ثجة، ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزجر بالنعم···''· التدريس في الأزهر - استهوت المدينة ابن خلدون، خاصة لما لقي فيها من حفاوة وإكرام، فقصده الطلبة يرجون علمه وجعل من الأزهر مكاناً لإلقاء الدرس ولقاء العلماء· كما عهد سلطان مصر، الظاهر برقوق، إلى ابن خلدون بتدريس الفقه المالكي في مدرسة القمصية، وعينه قاضياً للقضاة المالكية وخلع عليه لقب ''ولي الدين· وقد سعى ابن خلدون سعياً مشكوراً إلى إصلاح القضاء، متوخياً الصرامة والعدل والمساواة، ما جلب له قسطاً من العداء والحسد· وكان الرجل في هذه الفترة منكسر الجناح بسبب الأسى الذي خلفه بالنسبة له موت زوجته وأولاده غرقاً أثناء قدومهم من تونس·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©