الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما تصبح الدراما الشعرية خلاصا شخصيا

عندما تصبح الدراما الشعرية خلاصا شخصيا
10 نوفمبر 2010 19:42
إذا كان المسرح قد نشأ شعريا فإنه سيعود في أغلب الظن كذلك. تلك نبوءة الشاعر صلاح عبدالصبور (1931 ـ 1981) الذي واصل إنعاش الشعر المسرحي بأربع تجارب بدأها بـ”مأساة الحلاج” (1964) التزاما بالينبوع الإغريقي للمسرح كما يقول، وبحثا عن خلاص شخصي، وإجابة لأسئلة تزدحم في خاطره، وحيرة مدمرة تلم به، وتعبيرا عن إيمان بالكلمة بمواجهة السيف، ومعيدا إلى الذاكرة محاولات أحمد شوقي في الشعر المسرحي العربي وعودته لأحداث التاريخ ووقائعه، ولكن انطلاق عبدالصبور كان من مرجعيات ومؤثرات مختلفة تماما، تتقدمها رؤيته العصرية الذاتية، وتأثره بمسرحيات إليوت الشعرية لا سيما “جريمة في الكاتدرائية” التي تقارَن بها دوما مسرحيات عبدالصبور عامة، و”مأساة الحلاج” خاصة. كتب عبدالصبور “مأساة الحلاج” عام 1964 ضمن سياق خاص من التباسات الحالة الثقافية والسياسية بمصر، وتداخل الشعارات وتقاطعاتها وفصام الفكر السياسي المتهم في مجال الممارسة بالعسف وتضييق الحريات، خلافا لسيل الوعود التي يحملها الخطاب السياسي. وذلك كان مدعاة لأزمة روحية كبيرة للمثقفين ولعبد الصبور شخصيا؛ فعاد لمسرحة أفكاره وتقديمها في صيغ مشهدية تتيح، عبر عنصر الحوار والجدل، مراجعة القناعات وبسط الذرائع والحجج. عربة شكسبير لم ينس عبدالصبور أنه شاعر في المقام الأول، وأن ثمة قطيعة قائمة بين الشعر الحديث والمسرح، بعد صعود المسرح النثري واستيعابه للمشكلات والقضايا الاجتماعية خاصة، ما يليق بلغة النثر وتقنياته، ويضيق بالشعر وإيقاعاته ولغته وصوره. لكنه يؤمن بما في المسرح من تكثيف للحياة وليس تمثيلها كاملة، وهذا التكثيف يتطلب لغة شاعرية تتخفى في لغة النثر الرفيع في المسرح كما يقول اقتراضا من رأي اليوت في الشعر المسرحي، وكذلك عنصر الرمز المتوفر في الشعر، والاستعانة به حتى في المسرح النثري، وهو يتمثل في الشعر أول ما يتمثل ـ يضيف عبد الصبور في شهادة مهمة عن تجربته الشعرية. لذا يصر على أن “الشعر هو صاحب الحق الوحيد في المسرح وأن المسرح النثري انحراف، خاصة حين تهبط أفكاره ولغته”. ولما كانت لعبد الصبور محاولات غير مكتملة في المسرح الشعري يتذكرها معلنا أنه قبل “مأساة الحلاج” كان واقعا تحت أسر عربة شكسبير ونماذجه البشرية وصراعاتهم، فتطابقت شخصياته معهم ما جعله يتوقف عن إكمال تلك المسرحيات حتى برقت فكرة “مأساة الحلاج” كنوع مما يسميه الخلاص الشخصي، ليس من أزمات مباشرة وشخصية ـ كما ذهب بعض قراء المسرحية ونقادها ـ بل يعني بالخلاص الشخصي من التخبط في متاهات الأسئلة المتراكمة في الحياة والواقع، وقضايا العصر الأساسية كما نفهم من قراءة أعماله الدرامية كلها، بل إذ نعاين اهتمامات شعره التالية لديوانه الأول، وما تناوله من موضوعات في ديوانيه “أحلام الفارس القديم” و”أقول لكم” خاصة، وفي قصائد ذات صيت وشهرة كـ”الظل والصليب” و”مذكرات الصوفي بشر الحافي”. يعترف عبد الصبور أنه كان يعاني حيرة مدمرة إزاء كثير من ظواهر العصر، وتزدحم في خاطره الأسئلة فراح يعيد على نفسه سؤال الحلاج نفسه: ماذا أفعل؟ ومن تلك الحيرة والأسئلة انبثقت فكرة المسرحية وتشكل بناؤها لتكون مجسدة لإجابة الحلاج كما قرأها الشاعر: أن تتكلم.. وتموت. الصوفي الثائرا تذهب كثير من التأويلات إلى أن حسين بن منصور الحلاج المولود في حوالي منتصف القرن الثالث كانت مشكلته التي قادت إلى محاكمته وصلبه وحرق جثته إنما تكمن في خلافه وحواراته الذاتية مع أفكاره، لا مع خصومه، فالخرقة التي ألبسه إياها شيخه عمرو المكي، ولازم بعدها من أسماهم أحبابي وأصحابي كالجنيد والتستري والشبلي يراد لها أن تحجب عنه ما يرى من خلل في الحياة، وغياب للعدالة، بينما يرى مريدوه وأصحابه أن شؤون الأرض وما عليها تضعف رؤية النور الإلهي، وتبعد الصوفي عن هدفه. لكن عودة عبد الصبور للتاريخ لم تكن كشوقي الذي يرتهن أعماله بالأحداث والأخبار، فيما راح عبد الصبور يقرأ تلك الأحداث في طموح معلن يسميه إعادة صياغة أحداث التاريخ، عبر أخبار الحلاج وطواسينه وسيرته التي كتبها، كما جسّد الخلاف بين الحلاج وأصحابه ما يجنب العمل النمطية أو النمو الخطي الخالي من التقاطعات والصراع. وكذلك فعل حين استحضر مخالفين من القضاة الذين أوكل لهم شأن التحقق من اتهام الحلاج بالكفر والشرك وتحريض العامة على ولاة أمرهم. جذر إغريقي اعتاد عبدالصبور أن يذيل أو يقدم مسرحياته ببيانات نظرية تدافع في الغالب عن المسرح الشعري وتبين طبيعة عمله فيه، وتشرح أحيانا مؤثرات العمل ومرجعياته وتقنياته الفنية والشعرية. وفي كلامه على “مأساة الحلاج” يفصح عبد الصبور عن منهجه وأسلوبه في بناء المسرحية بالطريقة الكلاسيكية، رغم اطلاعه على التجديدات في المسرح وإشارته لبعض تلك المحاولات الطليعية، لكنه يشدد على أنه يعود هنا إلى ما يسميه “ينبوع غرامه الأول: الإغريق” وتقاليدهم المسرحية؛ وذلك يوازي عودته للشعر في المسرح، بكونه (النبع) الذي فاض عنه وانحدر منه. لقد رأى في الكلاسيكية عناصر أكثر مناسبةً لعذاب الحلاج وملاءَمةً لتراجيديا قتلِه صلبا، بعد محاكمة لم تنقصْه في مجرياتها شجاعة المفكر وجرأة الثائر ولغة الصوفي الشاعر. بنى عبدالصبور المسرحية على فصلين أسماهما جزأين الأول بعنوان (الكلمة) يدور في ساحة عامة ببغداد وبيت الحلاج، والثاني (الموت) تدور أحداثه في السجن والمحكمة، انقسما بدورهما إلى مَشاهد أسماها (مناظر) ثلاثة منها في كل من الفصلين الأول والثاني، واثنين فقط في الفصل الثالث، فكأنه يخرم بهذا الصنيع التناظرَ الإيقاعي في توزيع الحدث، ويلفت انتباه قارئه ومُشاهد المسرحية أيضا إلى تقنيتها ودلالاتها؛ فقد بدأت المسرحية من نهاية الحدث، فظهر الحلاج مصلوبا على شجرة في مطلع المشهد الأول من الفصل الأول في ما يشبه (البرولوج) في المصطلح المسرحي، أو المدخل الذي تنعقد عليه الحبكة الدرامية، ثم استعادة ما حصل للحلاج من اتهام ومطاردة وسجن ومحاكمة وصلب في المناظر اللاحقة. فتعود المسرحية لبدايتها حين يصدر الحكم بالموت على الحلاج؛ فيكون منظر الصلب في البداية هو ختام المسرحية الذي حقق رغبة عبد الصبور بكسر الرتابة وخطيّة الحدث، رغم تناقض ذلك مع تمسكه بكلاسيكية الأسلوب وتقليدية الشكل الذي تمثله التراجيديا اليونانية. يغلب على الجزء الأول بعد عثور الفقراء على جثة الحلاج مصلوبا وقائع مناظرة الحلاج لخلصائه ممثلين بالشبلي الذي يعارض اهتمام الحلاج بشؤون الناس قائلا: “يا حلاج../ لسنا من أصحاب الدنيا، حتى تلهينا الدنيا” ملفتا إلى المهمة النورانية للمتصوفة، بينما يرد الحلاج في حوارات مطولة بالقول: “كيف أُميت النور بعيني/ أأنا أرمد؟” فيرد الشبلي بالقول: إنه يخشى أن يهبط للناس فيموت النور بقلبه، أما الحلاج فحجته أن النور لا ينقص إذا فاض على الفقراء؛ فيتعمق خط المسرحية الدرامي بهذا الصراع بين صوفي حلولي كالحلاج، لا يرضيه رؤية (الفقر يعربد في الطرقات) ويرفض الخرقة إذا كانت تحجب عنه رؤية الشر والظلم، وشيخه الذي يريد السمو بنورانية الصوفي فوق الدنيا والبشر، فيما تنعقد درامية الفصل الثاني على جدل الحلاج مع قضاته، وخلافهم مع بعضهم واستقالة ابن سريج من المحكمة، ثم قرار الموت بحق الحلاج. الحداثة والدراما كان عبد الصبور من أوائل شعراء مصر الذين تلقفوا دعوات التجديد الشعري بطريقة الشعر الحر كما اقترحه الرواد العراقيون في الأربعينيات وله تجارب في هذا النوع الحديث ستساعده في إنجاز طموحه لمؤاخاة آليات المسرح والفكر الصوفي والفن الشعري، رغم أن التداعيات جذبته لمنطقة الشعر أكثر من درامية المسرح، ودليل ذلك هو المونولوجات الطويلة التي تصلح أن تكون قصائد مستقطعة من مكانها في المسرحية، وهي علة أصابت بعض مسرحيات شوقي الشعرية فتحولت الحوارات إلى قصائد يسهل اقتطاعها من النص، كما أشار الشاعر في حديثه عن المسرحية إلى الحرية الموسيقية التي مارسها وهو يكتب النص؛ فتنقل بين تفعيلات أربعة بحور شعرية هي الرجز والوافر والمتقارب والمتدارك، معترفاً بأن الكتابة للمسرح تهب موسيقى الشعر نوعا من الطواعية أفادته في جلاء فكر الصوفية فضلا عن متطلبات المسرح والتجديد الشعري. ما كان الحلاج لدى الشاعر رمزا فحسب بل شاعر كانت سقطته كما يقول هي البوح بما بينه وربه، فكان عذابه نموذجا لعذاب المفكر في عصرنا المحتدم بالتناقضات والعسف والظلم. من «مأساة الحلاج» الحلاج: أنا رجل من غمار الموالي، فقير الأرومة والمنبتِ فلا حسَبي ينتمي للسماء ولا رفعتني لها ثروتي ولدت كآلاف من يولدون، بآلاف أيام هذا الوجودْ لأن فقيرا ـ بذات مساء ـ سعى نحو حضن فقيرةْ وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية.. تسكعت في طرقات الحياة، دخلت سراديبها الموحشات وذوبت عقلي، وزيت المصابيح، شمس النهار على صفحات الكتب فلم يسعد العلم قلبيَ، بل زادني حيرة واجفة.. كما يلتقي الشوق شوق الصحارى العِطاش بشوق السحاب الشقي كذلك كان لقائي بشيخي وجمَّعنا الحب، كنت أحب السؤال، كان يحب النوال.. ويخلع عني ثيابي، ويلبسني خرقة العارفين.. تعشقت حتى عشقت، تخيلت حتى رأيت رأيت حبيبي، وأتحفني بكمال الجمال، جمال الكمال فأتحفته بكمال المحبة وأفنيت نفسي فيه أبو عمر: صمتاً، هذا كفرٌ بيَن! ابن سريج: بل هذا حال من أحوال الصوفية ? ?إعترف عبدالصبور إنه كان يعاني حيرة مدمرة وتزدحم في خاطره الأسئلة فراح يعيد سؤال الحلاج: ماذا أفعل؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©