الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أوقات ضيقة.. ومزدحمة

أوقات ضيقة.. ومزدحمة
10 نوفمبر 2010 19:43
“استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة هائلة الحجم”. بعد صباحات عدّة استيقظت الحشرة هائلة الحجم هذه، فوجدت نفسها وقد أصبحت ساعة يد معطّلة. ساعة اليد المعطّلة استيقظت هي الأخرى بعد صباحين أو ثلاثة، فوجدت نفسها حبّة كرز. ثمّ كان أن تحوّلت حبّة الكرز إلى غيمة، ثمّ إلى قُلامة ظفر، ومنها إلى طبق من الخزف.. ثمّ توالت الصباحات، ومعها سلسلة التحوّلات إلى أن توقفت عند لحظة التحول إلى صندوق فارغ.. كانت جريمة مروّعة تلك التي ارتكبت بحقّ جريجور سامسا الشابّ الطيّب المثقّف المغرم بنيتشة ودوستويفسكي. نعم، لم تكن الجريمة مدبّرة أو مقصودة تماماً. لقد كانت مجرّد تجربة بالتأكيد. وكافكا كان عازماً منذ البداية على أن يعيد الأمور إلى نصابها. لكنّ الخيوط أفلتت من يديه، وحدث ما حدث. جريجور سامسا الطيّب المثقّف هو الآن مجرّد صندوق فارغ. وما من أحد ـ في ظلّ هذا التنوّع الهائل الذي يشهده عالم الصناديق ـ بوسعه أن يؤكّد أيّ صندوق انتهى إليه سامسا المسكين. كلّ الاحتمالات واردة. صندوقٌ فارغٌ في مكان ما. إنّ العثور عليه أصبح مستحيلاً تماماً. لنقل إنّه الآن في حكم الميّت. لنقطع الأمل في الوصول إليه، وليكنْ همّنا أن نتّخذ ما أمكن من الإجراءات كي لا تتكرّر المأساة. لا ينبغي أن نفسح المجال أمام أحد كي يعيد التجربة مهما يكن نوع الاحتياطات التي يزعم أنّه سيتّخذها للسيطرة على الموقف، والحيلولة دون وقوع الكارثة. إنّه لأمرٌ مقزّز أن نفتح أعيننا ذات صباح لنجد ستّة مليارات إنسان وقد تحوّلوا إلى حشرات ضخمة، ثمّ إلى ساعات يد معطّلة، وصولاً إلى الصناديق الفارغة. ما الذي يمكن أن يعنيه وجود هذا العدد الهائل من الصناديق فوق كوكب صغير ضعيف كهذا الكوكب؟. لا شيء بالطبع. من الناحية العمليّة قد لا يكون ثمّة فائدةٌ ملموسةٌ في تقديم كافكا إلى المحاكمة بتهمة الإهمال أو التقصير المفضي إلى مأساة أودت بحياة سامسا، أو جعلت منه في أهون تقدير مجرّد صندوق فارغ لا يُعْرَفُ مكانُه. إجراءٌ من هذا القبيل لن يعيد إلى سامسا طبيعته البشريّة. لكنّنا مع ذلك سنطالب به. إنّه منطق العدالة الذي لا بدّ منه في النهاية. السيّد كافكا: إنّ تحويل شابّ بريء إلى حشرة ليس لعبة. صحيح أنّك لم تكن تنوي أكثر من ذلك. ومن غير المستبعد أنّك كنت تعتزم أن تعكس العمليّة فيما بعد لتجعل الحشرة تستيقظ صباح اليوم التالي لتجد نفسها وقد تحوّلت ثانية إلى غريغور سامسا طيّب. لكن انظر إلى ما حدث. سامسا لم يعد إلى ما كان عليه. بل لم يتوقّف الأمر عند حدود تحوّله إلى حشرة هائلة الحجم. إنّه الآن صندوقٌ فارغ. فارغ. أتعلم معنى أن يصبح شخصٌ مكافحٌ محبٌّ لعائلته مثل سامسا صندوقاً فارغاً؟.. ألم تفكّر في مصير أبويه وأخته؟.. حسناً. لا ضرورة للمبالغة في تقدير حجم الجريمة المرتكبة. لكنّ عقاباً لا بدّ أن ينزل بالرجل. ولنتذكّر أنّ سامسا عانى كثيراً. لنفكّر برهة واحدة في مقدار الألم الذي عاشه وهو يجد نفسه ساعة معطّلة. ثمّ حبّةَ كرز. ربّما كانت قُلامة الظفر أهون مرحلة مرّ بها. تليها مرحلة الغيمة. ولكن، ليت الأمر توقّف عند إحدى هاتين المرحلتين. فالحظّ العاثر للشابّ أوصله إلى أقسى ما يمكن تصوّره. لا نريد أن نكون قساة مثل كافكا، فنحكم عليه بالتحوّل إلى صندوق فارغ. صحيح أنّ أحداً لن يلقي باللائمة علينا، من منطلق أنّ العين بالعين والسنّ بالسنّ والبادئ أظلم. لكنّ قليلاً من الرحمة لن يضرّ. ثمّ إنّ على هذه الأرض ما يكفي من الصناديق الفارغة. لا حاجة لنا بالمزيد. هل من اقتراح إذاً لإنزال العقوبة المناسبة بالرجل؟.. لنعدْ قليلاً إلى التجربة التي أجراها على جريجور سامسا. لننتبهْ إلى أنّ التحوّل سبقته ليلةٌ مليئةٌ بالأحلام المزعجة. قد يغالي البعض فيتّهم كافكا بالساديّة، إذ لم يكتف بتحويله إلى حشرة هائلة الحجم، بل جعله يتعذّب مع مجموعة من الأحلام المزعجة. لقد كان بوسع كافكا أن يكون رحيماً مع الرجل فيحوّله إلى ما يشاء، ولكن دون عذابات لا مبرّر لها. إنّ اتهاماً من هذا النوع ينبغي أن يؤخذ على محمل الجدّ، الأمر الذي من شأنه أن يجعل من موقف السيّد كافكا أكثر صعوبة للأسف. غير أنّ ثمّة من سيستغلّ هذه النقطة بالذات في محاولة لتبرئته، أو لتخفيف الحكم عليه. سيصرّ هؤلاء على التوقّف عند قضيّة الأحلام المزعجة هذه. ـ سيّد كافكا.. هل لك أن تخبرنا عن أحلام جريجور سامسا التي رآها خلال ليلته تلك؟ ـ الأحلام. نعم. الحقيقة أنّني لا أستطيع أن أذكر منها سوى القليل جدّاً. ـ حدّثنا عن واحد منها.. يكفينا حلمٌ واحدٌ فقط.. ـ حسناً.. الحقيقة أنّ معظم تلك الأحلام لم يكن مكتملاً تماماً. لنقل إنّها كانت نُتَفَ أحلام. شرارات كانت تلتمع، ثم تنطفئ سريعاً. واحدٌ منها فقط كان متماسكاً إلى حدّ ما. ـ عظيم.. يهمّنا أن نتعرّف إلى هذا الحلم.. المتماسك إلى حدّ ما.. أغمض كافكا عينيه. كان متعباً. لكنّ المأزق الذي وجد نفسه فيه دفعه إلى أن يتحامل على نفسه، ويبذل أقصى ما يستطيع من الجهد لاسترجاع حلم قديم راود خيال شخص هو الآن مجرّد صندوق فارغ في مكان ما. ـ نعم. أستطيع القول إنّه كان نائماً. جريجور سامسا. شابّ في الثلاثين من عمره. ثمّ رأى نفسه، في الحلم طبعاً، يستيقظ. وفي الحلم أيضاً تأمّل نفسه بعد أن استيقظ، فاكتشف أنّه تحوّل إلى حشرة هائلة الحجم. ـ إذاً فجريجور سامسا سبقك إلى فكرة الحشرة. أو لعلّه هو الذي ألهمك هذه الفكرة. وبصوت واهن يكاد لا يُسْمَع أجاب كافكا: ـ نوعاً ما.. كافكا مذنب. ولن يخطر في ذهن أحد أن يطالب بإعفائه من المسؤوليّة. لكنّ شيئاً ينبغي أن يظلّ حاضراً في الذهن على الدوام، وهو أنّ سامسا ضحيّة نفسه في النهاية. الحشرة التي تحوّل إليها كانت تسكنه من الداخل. إنّها حلمه المزعج الذي ظلّ يلاحقه إلى أن تمكّن منه أخيراً. ـ ولكن ماذا عن الصندوق الفارغ؟.. كان كافكا قد وصل إلى حدّ من الإعياء لم يعد يقوى معه على الكلام. اكتفى بإشارة من يده إلى الأرض. فُهِمَت الإشارةُ على أنّها تعبيرٌ عن حاجته إلى الجلوس. لكنّه عندما عرف أنّ الفكرة لم تصلهم جيّداً استجمع قواه وتمتم: ـ إنّه.. تابوت.. وسقط.. *** صبيحة اليوم التالي كان العالم بأسره يتناقل خبر موت الكاتب الكبير فرانز كافكا. نقلت شاشات التلفزة مراسم تشييعه، وظهرت عربة مدفع وهي تقلّ تابوته، وقد أحاطت به أكاليل الزهر. *** وغير بعيد عن المكان كان ثمّة رجل بدين أشقر يمسك بسمّاعة الهاتف، ويتكلّم: ـ ستّة مليارات صندوق؟!!.. هذا كثير.. أنا بحاجة إلى وقت أطول لألبّي لك طلبك.. * قاص سوري
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©