الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحيل آخر القراصنة

رحيل آخر القراصنة
10 نوفمبر 2010 19:45
القرصنة البحرية هي من تجليات الغزو البري، ففي المجتمعات القديمة، وخاصة مجتمعات الصحراء والبدو، كان الجوع وظروف الطبيعة والحياة القاسية تدفع الناس الى قطع الطرق على المارة والقوافل والحجاج الذين يعبرون مسالك البر الموحشة، وحدث ذلك في كثير من بقاع العالم بما فيها الجزيرة العربية والخليج. والأخلاق القديمة لم تكن تنظر إلى ذلك الغزو، أو تلك القرصنة (والمسماة محلياً عندنا بالطمع) بشكل سلبي دوماً. ففي الحقيقة كان كثير من الغزاة وقطاع الطرق أو القراصنة ابطالاً من وجهة نظر الذاكرة الشعبية الإنسانية، خاصة حين يسرقون أو يسطون على ما يملك الأغنياء ويوزعونها على الفقراء، وعند كل قارئ من جميع البشر، ذاكرة حول مثل هذا القرصان (أو الغازي، أو قاطع الطريق) من روبن هود وحتى القراصنة الصوماليين المعاصرين. في الأدبيات القديمة كثيراً ما احتفظت الذاكرة بأشعار تفيض رقة وجمالاً وإنسانية لهذا القرصان أو ذاك. وما القرصان في الحقيقة إلا قاطع طريق، ولكنه، في هذه المفردة بالتحديد، قاطع طريق بحري. وهذا ما يؤكد دوماً أن البحر لا يحتفظ بذاكرة، فالذاكرة بما فيها قائمة الأسماء تنتمي للبر واليابسة. بينما البحر متغير ومتموج دوماً، والأمواج لعلها لا تعرف من أين جاءت، ولا إلى أين تذهب، فالأمواج اقرب ما تكون إلى الأطفال، إلى ضحكات الأطفال. أشرعة كالخناجر وعندما اجتاحت الكولونياليات الأوروبية العالم مارست مخاتلة ثقافية تجاه هذا السلوك البشري الذي عاشت وتمرست عليه شعوب كثيرة بما فيها الشعوب الأوروبية نفسها، والتي قدمت أفضل الأمثلة على هذا الصعيد، من الفاينكغ في اسكندنافيه، وحتى أباطرة القرصنة الذين رفعوا أشرعة سفنهم كالخناجر والسكاكين حول الجزر البريطانية، أو شبه الجزيرة الآيبيرية (اسبانيا والبرتغال الآن). ولعل مؤسسي الكولونيالية الحديثة من الاوروبيين، كالقائد البرتغالي المجرم الفونسو البوكيرك كانوا خليطاً من هذا النزوع الاجتماعي السائد في المجتمعات القديمة، مضافاً إليه اليقين الديني، ونوعاً غامضاً من الاستكشاف الدموي يُنسب دوماً للاسكندر المقدوني أو الاسكندر الأكبر. وحين تطورت المؤسسة الكونيالية لاحقاً، وأحست بأنها فتحت العالم المجهول، كما العالم المعروف والقديم شرّعت قوانين باسم الإنسانية تمنع الغزو البري والقرصنة على الشعوب المُستعمرة بينما تبيح لشركاتها وأساطيل شركاتها، كل الأخلاقيات الشاذة التي تمتع بها مغامروها، ليس الغزو البري فحسب، ولا القرصنة البحرية، وانما الاتجار بالبشر، وهي تجارة من تفاعيل و تضاعيف هذا السلوك الاجتماعي البشري المتخلف. فالإمبراطورية البريطانية نعتت المنطقة التي تُسمَّى الآن بدولة الإمارات بـ”ساحل القراصنة”، ومارس جنود تلك الإمبراطورية ممارسات إجرامية في حق شعوب هذه المنطقة من وراء هذا النعت، وكل ذلك باسم حقوق الإنسان، بينما كان قراصنة تلك الإمبراطورية وأكثرهم من العاملين في إدارتها، يقطعون الأرض من شرقها إلى غربها، من أمريكا وإلى الصين، وهم يسرقون البشر من الغابات، ويعتدون على سفن المساكين الذين يعملون في البحر. وما التكوينات الأوروبية الأولى في أمريكا الشمالية أو الجنوبية، أو استراليا وما تسمى الآن بنيوزلندا إلا عبارة عن موانئ استولى عليها القراصنة، وحولوها إلى مجتمع خاص بهم. وعند هذه النقطة من الجدير أن نذكر بأن القراصنة وبعد جيل أو أكثر، وبعد أن استقروا، عادوا إلى “القرصنة” البرية، أي إلى الرحم الذي تولد منه أية قرصنة. بل أكثر من ذلك، فإنه بالقرب من استراليا أسس قراصنة صريحون دولة مستقلة بهم سرعان ما تلاشت. وأكتب قراصنة صريحون مقارنة بقراصنة الكولونيالية المتخفون تحت أثوبة حقوق الإنسان، وغير ذلك من أقنعة البطش “الإنساني”. ومن كثر ما قُرَّعت الشعوب المستعمرة (بضم الميم) فإنها واصلت إنكار القرصنة كتهمة، متجاهلة إن هذا السلوك من التقاليد التي استبدت بالمجتمعات القديمة، وبقدر ما ينتمي هذا التقليد للعنف، بقدر ما ينتمي كذلك للاقتصاد والاجتماع والانثربولوجيا. بمعنى أن قراءته من هذه الوجهة تعتبر تحرراً من الرزوح تحت وطأة الخطاب الكونيالي المستبد. وليس أدل على ذلك من تعامل المجتمعات الغربية مع قراصنتها وتاريخهم، فالآداب والفنون (وخاصة السينما) قدمت العديد من الأعمال التي تتناول القرصنة، ومن هذه الأعمال ما هو فني وجيد جمالياً، ويقرأ الحياة وجدلياتها من داخل هذا التقليد، أو هذه الظاهرة. بينما أغلب الأعمال، وخاصة السينمائية، قدمت القرصان بشكل نمطي فهو أعور غالباً أو إحدى عينيه مفقوءة ويضع عليها غطاء أسود، أو أن إحدى يديه أو رجليه مقطوعة، ودائما يحتفظ بلحية كثة، وفي حالة انه لم يعد شابَّاً، فإن تلك اللحية لم تكن مصبوغة، خاصة إذا ما كان القرصان باقيا على رأس عمله. قرصان خليجي وفي الحقيقة فإن سير بعض القراصنة سير درامية وروائية حقاً. ومن أقرب الأمثلة إلى ذاكرتي سيرة القرصان الخليجي رحمة بن جابر الجلاهمة، والذي أنا معجب أيما إعجاب بالتلاعب الدقيق الذي أداه عند علاقاته المشابكة بقوى سياسية متناقضة ومتضادة ومتباعدة، استطاع ان يجمع خيوط ألعابها في يديه ويحركها كيفما يشاء حتى ضاقت عليه دوائر امواج الحياة فأحرق سفينته وفيها جماعته وابنه، في مشهد لو يروى، يمكن اعتباره ذروة درامية فاتنة لسيرة من هذا النوع. هذا غير هجماته المستمرة والتي عجز الكتبة البريطانيين عن وصفها، فلقد أحدث خروقات لا أول لها ولا آخر في النسيج المتصور لدور بريطانيا العظمى في المنطقة، ولكنك بالمقابل حين تقرأ قصائد الشاعر الإماراتي ابن محين الشامسي، والذي كان على ما يبدو صديقاً للجلاهمة، فانه بلا شك ستتعرف على بُعد إنساني واضح عند رحمة بن جابر، يطريه الشامسي ويمتدحه. والقرصنة الرسمية، قرصنة الدول، ما زالت مستمرة، وكذلك ما زالت مستمرة القرصنة الشعبية. وفي نواح عديدة من بحار العالم، بين آلاف الجزر المتناثرة في أرخبيلات شرق آسيا المدهشة، أو في الخصر الفاتن الذي يربط بين الأمريكتين الجنوبية والشمالية. وبإمكان القارئ أن يعتبر السفن المزودة بأحدث أنواع الأجهزة والتي كانت تأتي حتى سواحل الصومال كي تجرف الأسماك الكبيرة والصغيرة وتغادر وهي محملة بهذه اللحوم الثمينة دون أن تهتم حتى بالتلوث الذي تحدثه في تلك المياه. يمكن أن يعتبرها القارئ نوع من القرصنة الرسمية والمنظمة، تماما كما أُعتبر أولئك الصوماليين الذين بدؤوا في مهاجمة السفن أيا كان نوعها والاستيلاء عليها قرصنة ضجَّ منها العالم. وبالتأكيد فانَّ من يسمون بـ”القراصنة” الصوماليين ظاهرة فريدة. ليس في الانتصارات الفريدة والمتوالية التي حققتها، بينما تتفرج أساطيل كبريات القوى العسكرية في العالم على الوضع ولا تستطيع أن تفعل شيئاً... ليس في ذلك فحسب، وإنما كذلك في الإعجاب الذي نالته داخل مجتمع قبائلي ومحافظ، وان يكن ممزقاً، كالمجتمع الصومالي. فالفتاة التي تستعد للزواج، يسيل لعاب أحلامها على القرصان، والأب الذي يفكر بتزويج ابنته يفضل أن يزوجها من قرصان جيد. وحين يحدث اتفاق بين الطرفين فإن عرس القرصان يكون مضرب أمثال المجتمع، فغير المهر الثمين، والولائم السمينة، والحفلات الباذخة، فإن الفتاة حين تدخل على القرصان في ليلة العمر تلك، تدخل، وكأنها داخلة على سلطان. كذلك، فإن ظاهرة ما يسمون بـ “القراصنة” الصوماليين تعبر، تعبيراً مكثفا، عن سيرورة وانبعاث مستمر لتقليد “القراصنة”، كتقليد إنساني راسخ، وفي هذه الظاهرة، يتجلى ذلك الانبعاث بأغلب المظاهر التي تحلَّت ـ إذا صح القول ـ بها القرصنة طوال التاريخ. من هنا، فإن عنوان هذا المقال: “رحيل آخر القراصنة”، هل يمكن حقاً قوله أو كتابته. بمعنى آخر، إذا افترضنا انه مات قرصان كبير، هل يعني ذلك نهاية القرصنة؟ أو أليست الحياة التي أنجبت هذا القرصان، وأماتته، أليست قادرة في الحين نفسه على إنجاب قرصان/ قراصنة جدد، أعتى وأشد وسيرتهم أكثر وقعاً في أسماع الوجود؟. ثم أليست القرصنة (مع أخوانها وأخواتها من غزو ولصوصية وطمع ونهب) قادرة، كتقليد راسخ في روح التاريخ الإنساني، على الانبعاث كل مرّة والتجدد، أو مثلاً هناك سؤال كثيراً ما يخطر في ذهني... فالجينة كما عدنا نعرف ليست بيولوجيا صرفة فحسب، وإنما تاريخ أيضاً وترسبات ثقافة، وبالتالي فهل يمكن القول من هذا المنطلق إن في جينات أبناء القراصنة وأحفادهم ترسبات من تاريخ آبائهم وأجدادهم، ترسبات تظل خافتة لفترة، ومن ثم تتدفق حين تحين السانحة وتظهر مشاعر “القرصنة” وأفعالها على رمال الصحراء كما على مياه البحر. إذ لا شي يموت بسهولة، وإذا أرادت البشرية أن تقطع مع ظاهرة قذرة كهذه، أو تعتبرها قذرة، فإنها بدءاً ينبغي أن تقطع معها في المعرفة والتفكير والنقد والعمل والتشريع الذي يترسخ نحو مجتمعات أكثر عدالة، يترسخ ويزداد عمقاً، معرفة وعملا، حتى يحوَّل من أفكار الجينات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©