الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن تأسيس الفكر والعلم

عن تأسيس الفكر والعلم
10 نوفمبر 2010 19:47
يحاول كتاب “رحلة في تاريخ العلم/ كيف تطورت فكرة لا تناهي العالم؟” الصادر عن دار الفارابي في بيروت إبراز أهمية دراسة تاريخ العلم في الإنتاج المعرفي، وأيضاً في الكشف عن مكانته المحورية في التقارب بين الثقافات والحضارات المختلفة التي عملت معاً لإنجاز ما استطاعت أن تصل إليه الحضارة العالمية المعاصرة. يعرض المؤلف د. أيوب أبو ديّة في كتابه هذا، كيف كانت مشاق السفر في القرن الثاني عشر للميلاد، حيث كانت الملاحة في البحر المتوسط باتجاه الغرب تعتمد على ريح شرقية تهب في فصلي الربيع والخريف، وقد كانت الرحلة البحرية، آنذاك، من شواطئ فلسطين إلى إسبانيا تستغرق أكثر من شهر، وكانت أكثر أمناً من الأسفار البرية في تلك الأزمان. ثم إذا خرجت السفينة من مضيق جبل طارق فإذا بالمحيط الأطلسي يطل على ركابها بأفقه اللامحدود؛ غير المكتشف بعد عند شواطئه الغربية؛ أفقه المنفتح إلى ما لا نهاية! في تلك الأزمان كان اكتشاف الكرة الأرضية غير مكتمل بعد، فما بالك بالفضاء المرصع بالنجوم المتناثرة في قبة السماء مترامية الأطراف. وكان الاعتقاد السائد آنذاك، منذ أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد، أن الأرض دائرية الشكل وهي مركز الكون المحدود، وتحيط بالأرض أفلاك سبعة تنتهي بفلك النجوم، وعنده ينتهي الكون المحدود من جهة مركزه الأرض؛ فيما يقبع فلك النجوم الذي يحيط بأطرافه من جهة نهايته المحدودة الأخرى، حيث يتموضع المحرك الذي لا يتحرك الذي تعزى إليه الدفعة الأولى التي حركت الأفلاك تباعاً. وقد ساد نموذج بطليموس المعدّل لنموذج أرسطو بين أوساط علماء الفلك باستثناء بعض التعديلات الطفيفة لغاية القرن السادس عشر، حينما طرح كوبرنيكوس نموذجه الجديد وجعل الشمس في مركز الكون. اقترح جوردانو برونو، الكاهن الإيطالي الذي أعدمته محاكم التفتيش عام 1600 حرقاً في روما، فكرة أن النجوم البعيدة هي شموس، وفكرة تعدد العوالم وفكرة لا نهائية هذا الكون؛ فضلاً عن اعتناقه المذهب الكوبرنيقي الذي ذهب إلى أن الشمس هي مركز هذا العالم وليست الأرض، فهل كانت أفكاره التي أغضبت الكنيسة أفكاراً خلاقة لم يتحدث بها أحد من قبله، أم أنها إعادة تأسيس لأفكار سابقة عليه؟ يفصّل المؤلف كيف سادت هذه الأفكار حول اللامتناهي في بداية الألفية الثانية قبل الميلاد. وعليه، فإن مفهوم لاتناهي الزمن قديم قدم الحضارات الكبرى التي سادت في الألفيات الأولى قبل الميلاد، على أقل تقدير. أما فكرة ولادة الكون من كتلة تتركز فيها المادة، فهي قريبة من الفكرة العلمية المعاصرة التي تتحدث عن ولادة الكون، بل الأكوان. ولكن هناك خطورة غير مقبولة، علمياً أوفلسفياً، تتمثل بإسقاط العلم الحديث على الماضي، لأن الإشكاليات المفهومية مختلفة تماماً بين العصرين، فالعلم الحديث يتحدث عن طاقة فيما قبل ولادة المادة، فضلاً عن أن العلم متطور يرتقي ارتقاء لولبياً في المعرفة ولا يجوز إسقاطه على افكار تقليدية قديمة. ربما تكون أفكار اللامتناهي أقدم من ذلك، ولكن سيكتفي المؤلف بالانطلاق من فلاسفة أيونيا، كما تنطلق الفلسفة عادة، إذ يبدو أن الدراسات الأقدم في حضارات ما بين النهرين والهند والصين ومصر وسورية لم تحظ بالدراسة الكافية بعد، أو ربما لم تتعولم كما تستحق، وسبب ذلك هو العودة إلى جذورهم، بالرغم من أن فلاسفة أيونيا، والإغريق بعامة، ينتمون إلى حضارة البحر الأبيض المتوسط، وهي أقرب إلينا، بل هي سورية وعربية مثلنا. كذلك فإن علماء الإسكندرية مثل أرخميدس في القرن الثالث قبل الميلاد وبطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد والعالمة الرياضية هيبيشيا في القرن الخامس بعد الميلاد ويوحنا النحوي في القرن السادس بعد الميلاد؛ كلهم علماء مصريون أقرب إلينا من الغرب، وقد قاموا لأول مرة في التاريخ بالتأسيس الحقيقي للعلم الحديث. يذكر المؤلف كيف كانت هيبيشيا رياضية يونانية إسكندرانية شهيرة، تعلم الفلسفة والفلك أيضاً في مطلع القرن الخامس الميلادي، وقد قتلتها جموع من المسيحيين شر قتلة إذ اتهموها بإثارة الفتنة الدينية؛ لأنها تمسكت بالوثنية ولم تدخل في المسيحية التي أصبحت دين روما الرسمي. فشهداء العلم قدماء قدم الحضارة البشرية. وفيما اكتفى الإغريق بالاشتغال بالرياضيات والهندسة بطريقة تأملية؛ جمعت الإسكندرية التراث الإغريقي بالإضافة إلى التراث المصري القديم؛ الذي اشتغل بالعلوم التجريبية والفلك وتكنولوجيا الرأي المتطورة والرياضيات العملية، فساهم ذلك كله في ولادة العلم الحديث. يذكر أيضاً أن السطوة العلمية والتكنولوجية التي تمتلكها دور البحث العلمي في الغرب كبيرة وعظيمة التأثير، فالكفاح الطويل بشأن معارضة ردهم التراثين السوري والمصري لجذورهما الحضارية مستمر، وربما لن يحقق إنجاز مهم طالما أن حالنا قارة كما هي عليه اليوم. كان للرياضيات والهندسة دور مركزي في إثارة الفكر الفلسفي كما سوف نرى في طرح المسائل الرياضية عند الفيثاغوريين وغيرهم؛ كذلك كانت إنجازات بعض الحضارات القديمة التي ناقشت نظام الأرقام الموضعية، كما عند البابليين، حيث سمحت هذه الفكرة بأن يتم التعبير رياضياً عن الأعداد الكبيرة جداً، ففتحت آفاق البحث عن أعداد لا متناهية. وما إن اكتشف الهنود الصفر حتى شرعوا في تقسيم كمية معلومة على الصفر، فتوصلوا إلى قيمة لا متناهية. إذن، كانت هناك اكتشافات مهمة في الحضارات القديمة ساهمت في بناء قاعدة للبحث عن اللامتناهي في الحضارات اللاحقة، بالرغم من أن المعالجة الرياضية والفلسفية التي وصلتنا اليوم حول اشكالية اللامتناهي تنطلق من الإغريق تحديداً. لذلك، انطلق المؤلف في الفصل الأول من الحديث عن الحضارة الهيلينستية الإغريقية والرومانية، ثم انتقل في الفصل الثاني للحديث عن إنجازات العرب والمسلمين، تلاه فصل ثالث أهم غطّى بعض إنجازات عصر النهضة الأوروبية، وأخيراً، ناقش في الفصل الرابع ما توصل إليه أعلام الثورة العلمية الكبرى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©