الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رؤية

رؤية
17 أكتوبر 2006 02:00
كيف نقدم رسول الله للعالم ؟ الإنسان بفطرته كائن أخلاقي، يعلي الفضيلة ويهفو إليها، ويسعى بكل ما أوتي من قوة إلى أن تكون أفعاله وأقواله موصوفة بها، بل إنه يزهو ويرتقى في مدارج الوجود الإنساني إذا رأى فيه الناس ذلك· وهو في الوقت نفسه ينفر من الرذيلة حتى وإن وقع فيها، ويثور ويغضب إذا وصف بها أو ألصقت به· لذلك يسعى دائماً إلى أن يعرف بالأفعال الفاضلة بل يعرفها للناس ويعلن عنها، ولكنه يخفي الرذيلة ويكتمها عن من يحب أو يكره· فالإنسان تكتمل إنسانيته بأخلاقياته الفاضلة وتزول عنه هذه الصفة الإنسانية بزوال الفضل عن أفعاله· فالأخلاق الفاضلة راسخة في جوهر الإنسان البعيد، بحكم الأمانة التي حمله الله إياها· وبفضل الروح الإلهية التي حلت فيه بالنفخة الأولى، فمهما اختلفت أعراقه وأجناسه ولغاته وأديانه ومذاهبه، ومهما اختلفت سلوكياته وتنوعت منازله فإنه في جميع الأحوال يعلي الفضيلة ويرى أنها كذلك، ويعطي من نفسه تبجيلاً وتكريماً لصاحب الأخلاق الفاضلة ويتخذه بطلاً ونموذجاً وقدوة حتى وإن لم يطبق تلك الأخلاق في حياته الخاصة· فلم تعرف البشرية أن أجمع الناس في أي مكان أو زمان أو في أي دين على عكس ذلك· البحث عن النموذج الواقعي والبشرية منذ وجودها وهي تسعى إلى الكمال الأخلاقي، ويحترق فلاسفتها ومفكروها ليضيئوا للناس طريق الفضيلة والسمو الأخلاقي ويسعون بكل ما أوتوا من علم ومقدرة لصياغة نموذج مثالي للأخلاق والقيم الإنسانية الراقية· ولكن في كل العصور كان ذلك النموذج المثالي، نظرياً مجرداً لم يشهد تطبيقاً كاملاً ،لم يتجسد في صورة إنسان حي يسعى بين الناس، يرون فيه اكتمالاً للخلق والفضيلة، ويزداد كماله كلما كان متعالياً على سلبيات عصره، متسامياً عن الواقع رغم العيش والتفاعل معه واحتضانه بصورة كاملة، ويرون فيه ما يصبون إليه ولا يستطيعون تحقيقه في حياتهم الخاصة، يرون فيه مثالاً محققاً، وغيبا متحققا، ونظرية مطبقة، ونموذجاً واقعياً بينهم، اكتملت أخلاقه وانسجمت خصاله بصورة تجعله محط إعجاب وتقدير، يهيم فيه محبوه، ويسعون للاقتداء به وتمثله في حياتهم على قدر طاقتهم، ويحاربه أعداؤه ويسعون للقضاء عليه ولكنهم لا ينكرون أخلاقه،أي أنهم يقبلون جوهره ولكن قد يرفضون اتباع دعوته أو الخضوع لسياسته أو الانقياد له لأسباب تتعلق بهم ولا به· اتسمت رحلة البشرية منذ بدء الخليقة بالسعي نحو إيجاد هذا المثال وظهرت فلسفات ودعوات دينية،لكن ظل هناك فارق يكبر أو يصغر بين الواقع والمثال، بين النظرية وتطبيقها· إلى أن جاء محمد-صلى الله عليه وسلم-، فسقطت كل تلك الثنائيات وعرفت البشرية نموذجاً أخلاقياً محققاً، ونظرية مجردة ولكنها واقعية تعيش بين الناس، يرون فيها كل تلك القيم حية تسعى وليست مجرد نظريات· ومع هذا الاكتمال الإنساني كان الرسول الخاتم وكانت نهاية رسل السماء إلى الأرض· لقد بلغت البشرية رشدها، وتحققت مثالياتها، لذلك نشأت أمة من العدم، وتحول البدو الرعاة الذين لم تلامس الحضارة أو الثقافة أو العلوم عقولهم ونفوسهم، تحولوا في لحظات تاريخية قصيرة جداً إلى بناة حضارة إنسانية أخلاقية تعلى قيمة الإنسان والفضيلة وتدعو للأخلاق والسلوك القويم، تسعى لتحقيق سعادة الإنسان في حياة طيبة كإنسان بغض النظر عن دينه وعرقه وجنسه· سر التحول الكبير ومن يدرس الكيفية التي تم بها التحول الكبير في حياة الجيل الأول من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه يجد بما لا يدع مجالاً للشك أن القدوة والأسوة الحسنة في شخصية محمد-صلى الله عليه وسلم- هي مفتاح ذلك التحول وجوهره، هي السر الكبير وراء إنشاء هذه الأمة وتمددها الحضاري والإنساني، لأنه لم يأت برسالة مجردة، أو بدعوة مثالية بل سبقت أخلاقه، دعوته، وسبقت إنسانيته نبوته، وسبقت فضيلته رسالته، فكان نموذجاً إنسانياً قبل أن يكون نبياً رسولاً· فرأى فيه معاصروه الأخلاق قبل أن يكلمهم عنها، وشاهدوا الفضائل قبل أن يأمرهم بها، فلم يكن في حاجة إلى مزيد من وعظ وتوجيه لأنه نموذج مثالي تحققت فيه قيم دعوته قبل أن تنزل عليه· فكان وحياً يمشي بين الناس أو قرآناً حياً نابضاً متحركاً متفاعلاً مع من جاء هذا القرآن لهدايتهم· لذلك لم يكن أبناء عصره في حاجة إلى أن يكتبوا سيرته أو يرووا أقواله ومواقفه وأحاديثه لأنهم تعلموا منه للاقتداء والتمثل والتطبيق العملي· أما الأجيال التي جاءت بعده ولم تره؛ فقد انشغلت بالبحث والتحري عن كل من رآه أو سمع عنه، تتبعت سيرته وأخباره ومواقفه أو أقواله أو أفعاله لعلها تستطيع أن تعيد بناء النموذج، أو لعلها تتمكن من رسم صورة تقترب من حقيقته أو لعلها تتلمس خطاه ونموذجه وتسعى لأن تكون مثله أو تقتدي به على قدر استطاعتها، فكان عصر تدوين سيرة محمد صلى الله عليه وسلم· إشكالية الإحاطة بشخصيته وهنا قد لا نكون في حاجة إلى التأكيد على أن رسم صورة لإنسان مثل محمد، أو بناء نموذج له، أو محاولة الإحاطة بشخصيته وقيمه وأخلاقه وسلوكياته وفضائله أمر عسير يقترب من حدود المستحيل أو يلامسها لأن اللغة بقوالبها وأبنيتها وتراكيبها يصعب عليها أن تنقل هذا الكمال الإنساني· فمهما كتبت عن الحياء أو العفة أو الكرم أو الوفاء أو الحب أو الفضيلة فإنه يستحيل أن تنقل كل معانيها كما أنه لا توجد لفظة تستطيع أن تنقل ضحكة طفل أو فرحة أم، تلك القيم الإنسانية يصعب على قوالب اللغة نقلها بصورة كاملة أمينة دقيقة، لذلك كان كل كاتب أو مفكر أو باحث يركز على جانب جزئي محدود من جوانب شخصية محمد-صلى الله عليه وسلم-، وبتراكم الإنتاج العلمي وتعدده على مر العصور ظهرت حقول علمية محورها حياة محمد صلى-الله عليه وسلم- وأقواله وأفعاله وسلوكياته وقيمه وأخلاقه وفضائله ، فكانت هناك علوم أو فروع لعلوم منها: 1-علوم السنة: علوم السنة أو علوم الحديث: وهو ذلك المجال العلمي الذي يوثق بصورة تاريخية دقيقة أقوال النبي محمد-صلى الله عليه وسلم- من حيث إثبات مدى ورودها فعلاً عنه، والتأكد من أنه قالها أو فعلها، ولكن على الرغم من أهميته كعلم توثيقي إلا أن تصنيفاته وضعت بصورة فقهية قانونية· فعلى الرغم من أن السنة النبوية هي المصدر الثاني للفقه والتشريع بعد القرآن أي أنها هي الحكم على الفقه وهي مصدر شرعيته وحجيته ووجوده إلا أن علماء السنة أخضعوها لمنهج الفقه ونظريته فتم تصنيف أقوال النبي وأفعاله وتقريراته على أبواب الفقه نفسها مما جعله -صلى الله عليه وسلم- يبدو لمن لا يعرفه فقيهاً أو رجل قانون إنما جاء لوضع قواعد قانونية فحسب· وهنا يجب أن نؤكد أن النبي محمد-صلى الله عليه وسلم- قام بهذا الدور فعلاً فكان مطبقا للوحي القرآني ومبيناً له وواضعاً إياه في صورة عملية تطبيقية تبين للناس ما يجب فعله وما لا يجب فعله، فقد كان هذا الدور جزءاً من دوره كنبي ورسول ولكنه لا يغطي كل أبعاد شخصيته ولا يشمل كل أدواره· فتبويب السنة على أبواب الفقه نفسها جعل المتعامل مع السنة من الأجيال اللاحقة يفهمها بعقلية فقهية ويتعامل معها من منظور افعل ولا تفعل· على الرغم من أن داخل تلك الأبواب الفقهية أحاديث وتقريرات وأفعال للرسول محمد-صلى الله عليه وسلم- ينصرف بعض معناها لذلك البعد الفقهي الذي نظمت في إطاره، وينصرف البعض الآخر لمعاني ودلالات أكثر رحابة واتساعاً· ·2علم السيرة: وقد تم التأليف في هذا العلم بمنهجية المؤرخين في ذلك الزمان و الذين كانوا يهتمون بالاستثنائي من الأمور والغريب منها، لذلك وضعت سيرة الرسول محمد-صلى الله عليه وسلم- وكأنها غزوات وحروب وتجهيز جيوش على الرغم من أننا لو قمنا بعملية حسابية بسيطة لوجدنا أن جميع الغزوات وتجهيزاتها لا تغطي سنة واحدة من حياة الرسول-صلى الله عليه وسلم- فأين باقي حياته؟ وما هو برنامجه اليومي؟ كيف كان يقضي ساعات يومه من الفجر حتى الظهر ومن الظهر حتى العصر ومن العصر حتى المغرب ومن المغرب حتى العشاء؟ وكيف كان ينفق على زوجاته وأسرته؟ وماذا كان يفعل ليكسب قوت يومه وهو الذي لا يأخذ الصدقة؟ وكيف كانت علاقاته الاجتماعية مع الآخرين؟ كيف ومتى كان يزور أصحابه وجيرانه وأقاربه؟····إلخ· ·3علم التصوف: وفيه تركيز على الجانب الوجداني الروحاني من حياة الرسول-صلى الله عليه وسلم- حيث يتم تناول عبادته وحبه لربه وشكره إياه ويتم التأكيد على ما ينشغل به المتصوفة من تزكية للنفس وسمو بها في مدارج الإحسان· وتغيب عنه الأبعاد العملية الحياتية اليومية للرسول الإنسان -صلى الله عليه وسلم-· هذه هي المجالات العلمية الأساسية التي تناولت شخصية الرسول الإنسان -صلى الله عليه وسلم- والملاحظ عليها جميعاً أنها جزئية في تناولها، تركز على جوانب محددة في حياته -صلى الله عليه وسلم- وتترك جوانب أخرى·فقد تم وضعها جميعاً بمنهج غير شمولي يتناول جزئيات من الحقيقة أو جوانب منها ويترك للمتلقي أن يكمل الصورة بجهوده الخاصة واجتهاداته الشخصية وهو ما لم يحدث في كثير من الأحيان وعند غالبية الناس بحيث أنه يمكن القول إن شخصية الرسول لم تزل بكراً تحتاج إلى إعادة اكتشاف جديد ومتجدد في عصرنا هذا وفي كل العصور القادمة·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©