الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تحولات الضمائر

تحولات الضمائر
21 يناير 2015 21:30
حاول أن يعيد قراءة ما كتبه، فاتخذ وضعاً ملائماً. مَطَّ رقبته، ثم رسم في فمه فتحة بحجم الحرف الأول. وبحث في حلقه عن لسانه.. (في المستقبل حين يجد مرآة في الطريق سيكتشف أن اللغات لا تنطق باللسان). اتكأ على شيء بجانبه، متذكراً كل محاولاته السابقة في التأليف، ثم تسلح بقوة ثقافته ووضع أصابعه داخل الحنجرة، ربما كان لاصقاً بسقف الحلق أو في مؤخرة اللهاة (يا إلهي.. هل كان هو ما مضغته طويلاً ليلة الأرق.. وبصقته آخر الليل!؟ كيف لم أدرك ذلك؟). حاول أن يسأل نفسه عن طعم ذلك الشيء لكنه لم يقو على السؤال. لقد كان مرّ المذاق. برقت في ذهنه كلمة المتلمس لطرفة يوم كان طفلاً ينتبه إلى أخطاء خاله ويجرأ على نقد عثراته الأدبية، فقال له: (ويل هذا من هذا)، مشيراً إلى لسان طرفة ورأسه. أي لسان أسود يمكن أن يؤدي بصاحبه إلى التهلكة، كلما اجترأ على النقد والاعتراض. «أكتب طوال سنوات عشرين، صرت مشهوراً مثل أنواع الصابون، تنشر صوري الجرائد كالمجرم المطلوب حياً أو ميتاً. تقام المهرجانات على شرف كتابي الجديد، والآن. لا أقوى على القراءة. لساني.. هل وجد أحدكم لساني بين قدميه؟ كنت مستغرقاً في التفكير حين مضغته وحين لفظته. انسجمت مع مشاريعهم طوال الوقت. لكن هذه المرة ترتكب خطأ بسيطاً.. نسيت أن لساني في مكانٍ ما». غَيَّرَ وضع جلسته على المقعد – ربما كان الوضع غير مناسب- لم يتكئ على ذلك الشيء. سحب رقبته، كالسلحفاة، إلى كتفيه حتى كاد رأسه أن يختفي بين عظمتي الكتفين. فتح فمه قليلاً بحيث يتسنى لراس (لرأس) الكلمة أن تطل فقط. تذكر أن مغنياً لا يمتلك الموهبة كان يفعل ذلك دوماً، وتنجح أغانيه المبتذلة... «غير أن كلماتي، مؤلفاتي ليست كذلك». استدعى أسطورته اللغوية، وقال: «سأتكلم الآن». نَطّ شيء يشبه اللسان، وجلس على حافة الشفة السفلى ناطحاً الصف العلوي من الاسنان بعظمته الحجرية، ثم صرخ بدعارة لغة غير مفهومة: «لا، أنا من سيتكلم الآن». أخذت الدهشة كل ملامح الوجه واستنفرت. أنا الذي يتكلم أم لساني؟ كيف يجرؤ على ذلك؟ أنا أكتب وأنا أتكلم. ماذا يريد هذا اللسان أن يقول؟ ليس بوسعنا أن نتكلم معاً في آن واحد. عليه أن يسكت. أردت فقط أن أقرأ ما كتبته منذ عشرين عاماً. إطلاقاً، أنت لا تحسن الكلام، كنت تقلد حركة الفم عند من حولك. دعني أتكلم هذه المرة. لقد ارهقتني وأنت تنطقني ما لا أريد. (ها هو يهدد أيضاً). لِمَ لا أمضغك سهواً وأبصقك. لِمَ لا تتحقق هذه الهفوة اللذيذة. لماذا؟/ كنت تستلقي على قفاك وتقول الاشياء المعروفة. كان الأطفال يضحكون عليك، لأنهم يعرفون جيداً أن ما تقوله ليس مستقبلهم، لكنه ماضيك. والآن هذه الأوراق المكدسة أمامك سوف أمحوها بلهب السؤال. (لابد أنني أهذي). هذا الوضع لم يكن مناسباً إطلاقاً. ثم أن هذا المقعد يؤلم خاصرتي. لابد أن نجاراً صنعه من دون خبرة.. هؤلاء لا يجيدون. مسح عرقاً كان يتفصد من رئتيه. رسم من حول قاعة، وانتدب فيها جمهوراً واسعاً (هكذا يتكون لديَّ حافزٌ للكلام، للقراءة الشجاعة. من دون الجمهور لا يقوى الكلام على الإيقاع) ثم رفع ذراعه بقوة إلى الأعلى ليشرع في القراءة. ليس ثمة لسانٌ هناك. دُهشَ حين رأى على الورق شيئاً غريباً لم يكتبه. (لكن هذه الأوراق لم أكتبها، ولم أعرف لغة مثل هذه. كلمات مربوطة بحبل من الوهوهة، وسجود لا ينتهي بين السطر والآخر. هل هذه صلاة، هل هذا محرابٌ. هذه المنارة المتهدمة. هذه العلاقة بين الحبر والحرف. لم اصنعها أبداً. كيف؟) تكوّر على سجادة عتيقة وكوّم الأوراق، قرأ الكبريت وبدأ النار. «أتكلم بدلاً منك. دعني مرة واحدة أقول ما لم تقله قبلاً، أعلّمك ماذا تقول، وكيف» فتح نافذة على السقف وسأل الوقت عن اللغة. دخلت الهراوات ومسيلات الدموع وصراخ لا يترجم. فتح حواراً مع لسانه، فاتفقا أن مؤامرة على الأطفال يدبرها الكلام المكتوب قبل الولادة. احتضن لسانه وقبَّله بشوق، وسأله عن سفره الطويل بين اللهاة وقاع الحلق. حدثه طويلاً وأخذه معه في رحلة. قال له إن كل الأوضاع التي يتخذها لكي يقرأ، لا تناسب القراءة. قد تصلح للجلوس لكن ليست للقراءة. انسحبت الدهشة، تعرف على ملامحه بشكل أفضل، وتأكد أن عشرين عاماً من تاريخه استنزفت في الكلام الذي لم يكتبه. حاول أن./ قلت لك أنه دوري في القراءة/ الكتابة، في الكلام الآخر. وضع السؤال على شفتيه. عانقه اللسان، وقال: أنا.../ لم يكمل جملته الأولى. الآخرون دخلوا في كلمته الأولى، وبدأوا يصوغون الضمير بشكل أجمل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©