السبت 30 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مهديّة الفاطمي*

مهديّة الفاطمي*
12 أغسطس 2015 20:25
برج الراس؛ السقيفة السوداء؛ مقبرة تتوسّد البحر وتمنح نزلاءها اصطيافا أبديًا؛ أموات آخرون اتّخذوا لهم مضاجع خاصة بعيدا عن عموم الفانين: كلّ عائلة في حوشها المغلق... تُراهم يخافون رطوبة البحر؟ أم عدوى الأموات الكُثر؟ فاطميّون مرّوا من هنا، شيّدوا لهم قلعة على البحر؛ سمّوها المهدية، ثم استخْلفوا البربر فولّوا عنهم في أول منعرج، وانسلوا عائدين إلى سنّتهم المألوفة. مهديّ كان منتظرا في أرض بعيدة، حل عندنا ضيفا - ثقيل الظل على ما يبدو-!، ثم انصرف. ترك جامعا بلا صومعة، وبقايا جدار متداع، وأسماء نعلّبها اليوم ونحاول بيعها على الشاطئ لسيّاح مولعين بالغرابة والأكزوتيك. *** السقيفة السوداء، لهذا الاسم سرّ غريب! له وقع أسطورة منقَّعة في الرهبة والغموض... سقيفة، ممر داخل جدران سميكة من حجر ثقيل ومهيب؛ هل كان ذلك طريق المقبرة؟ ترى.. لِمَ سموها بالسقيفة السوداء؟ - سوداء رايةُ الشيعة. أسود هو الحداد الأبدي لأولئك الذين ما يزال نُواحهم على مقتل الحسين يهز الأرجاء. أسودَ لون الكعبة، أسود لون الحبر، وأسود هو الشَّعر الذي يوقّع الغنَج، سوداء راية الفوضويين، أسود لون المهابة الرسمية، من الطقم إلى الليموزين، سوداء هي القهوة التي أحبّ، سوداء ليالي الشتاء والقطط التي نتطيّر منها؛ وهناك سواد القلب، وسويداء القلب؛ وهناك سواد القبر،-أما الموت، فما زلنا غير مجمعين على لونه؛ البعض يراه سوادا فاحما، وآخرون ينتظرونه بياضا ناصعا ليس مثله بياض. لكن، لماذا سموها «السقيفة السوداء»؟ *** المقبرة لسان ممتدّ داخل البحر؛ حيّز من الأرض مقتطع للأموات؛ كأنما المدينة تدفع به دفعا إلى الماء. هل كان سكان هذه المدينة يقذفون بفضلاتهم وأشيائهم المستعملة إلى البحر؟ هل كان جارهم البحر موضعا يتخلصون فيه من كل ما لم تعد لهم حاجة به؟ أم ترى البحر حوض برَكة، فضاء للطهارة، لغسل أرواح الموتى، شاطئ لاصطياف أبدي؟... أم هم يقدّمون موتاهم قرابين لإله غامض يغذيهم بنسغه ويتهددهم على الدوام بأشنع الكوارث والخطوب؟ *** وأنا أتفحص ألبوم الصور التي التقطتها عدسة صديقي الشاعر محمد علي اليوسفي في المهدية وفي مدينة ساتْ الفرنسية، وجدت لقطة رائعة للمقبرة البحرية التي خلدها الشاعر بول فاليري في قصيدة له تحمل نفس الاسم. ولمحمد علي اليوسفي أيضا قصيدة بعنوان «المقبرة البحرية»، لكن عن مقبرة المهدية. اللقطة جميلة، غير أن المقبرة الفرنسية بدت لي قاتمة كئيبة مثل حشد من الأشباح المطلة على البحر. مشهد مغاير تماما لذلك الذي تمنحه مقبرة المهدية المنبسطة فوق الربوة الصغيرة الممتدة مثل لسان داخل البحر في هيأة تبدو معها مثل بساط أبيض، حقل زهور، جمع نساء تونسيات ملتحفات بلحاف «السفْساري» الحريري الأبيض في نزهة «بيكنيك» على البحر، وأحيانا تبدو كما لو أنها زبد قذفت به الأمواج فوق الربوة. لا شيء من تلك البهجة البيضاء في المقبرة البحرية الفرنسية الداكنة: صورة للموت حقا؛ متجهمةً، ثقيلة وموحشة. بينما مقبرة المهدية (مثل مقبرة مدينة العرائش المغربية حيث يرقد جان جينيه، أو مقبرة سيدي موسى في مدينة الرباط) تشع ببياضها على زرقة البحر من أمامها معلنة بهجة الأرض ردا على تلك التي تشع بها زرقة البحر، كما لو أنها المدينة الجاثمة على الساحل تلوح بمناديل بيضاء باتجاه البحر عارضة عليه معاهدة وفاق وسلام. *** المهديّة: أهي التي اهتدى إليها المهدي؟ أم هي التي جاء يروم هدايتها؟ أم هي هديته الطازجة لروح الحسين، شفاءً لصبوة فاطمة؟ اهتدى، أو هدى، أو أهدى فكانت المَهديةُ، بسقيفة سوداء، وجامع بلا مئذنة، ومقبرةٍ لسانًا في البحر، وأصوات بحارة وصيادين تلعلع في صباح الميناء، وحانة «القرصان» تفتح ذراعيها للعائدين منقّعين في رطوبة البحر، ظافرين حينا، ومنتكسين في بعض الأحيان... بيوت واطئة، أبواب زرقاء، قباب وسقائف مواربة، جدران تكابد الرطوبة بما أوتيت من عناد البياض وسخاء الكلس الحيّ. نوافد ورواشن تحدق في الأفق الأزرق، تسترق لها ما تستطيع من صفاء نسغه؛ يخيّل إليك أحيانا أنها لا تومئ إلا للنوارس وللدلفين المتراقص على أبوابها. لها نزق لا يحفل بهرج الصيادين ولغط القراصنة وعساكر الغزاة... تفتح ذراعيها للموج والنوارس وتعابث الجميع بلسانها الممدود للماء ولكل من ركب غرور الماء فاتحًا أو غازيا أو سالبا أو ذاهبا إلى غزو. تسمّي السمك حوتا هي أيضا، تفاخر بثمارها النادرة: قاروص، وبوري، ودنديق، وقرنيط حبري وجراد بحر، وتعرض سردينها قلائد لموائد الفقراء... لها شيء من رائحة زاغرش البرتغالية ولشبونة، لها بياض الصويرة بسرْوٍ يحاكي الأرَز وأمواج أقل توترا، ولها شيء من مكر الموانئ المفتوحة على البحر، المنغلقة على نفسها مزيدا من الحرص على الحذر... لها أيضا من سحر الغانيات، ومن عطور الغاويات، ولها، ولها...ولها... مهدية الفاطمي بسقيفة سوداء وجامع بلا صومعة وبرج على الماء ----------------- * من نص بعنوان «ما بين رحلتين»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©