السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مُمَرِّضُ الغياب

مُمَرِّضُ الغياب
25 يناير 2015 14:40
أعرف أنّني استيقظت، وأنّني ما زلت نائمًا. جسدي العتيق يقول لي، وهو في حالة من الانسحاق لفرط ما أحيا، إنّ الوقت لا يزال باكرًا... أحسّ بنفسي متوقّدًا، عن بعد. وأثقل على نفسي، لا أدري لماذا... في خمول مفعم بالوضوح، مثقلاً بالتجرّد من جسدي أستسلم إلى الرّكود بين الصحو والنعاس داخل حلمٍ هو ظلٌّ لحلم. وعيي يطفو متأرجحًا بين عالمين ويرى من دون تمييزٍ عمقَ بحرٍ وعمقَ سماءٍ، يتداخل هذان العمقان ويتمازجان، وأجدني لا أعرف أين أنا، ولا ما أنا أحلم. ريح ظلالٍ تذرو رماد نوايا ميّتة على ما كان يقظًا فيّ. ندى دافئ من الضّجر يسقط من أعالي مجهولة. قلقٌ هامدٌ عميقٌ يحرّك روحي من الدّاخل ويحوّلني في دون وثوق كما تُغيّر الريحُ تضاريسَ قمم الأشجار. في المخدع الدافئ العليل يغدو الصباح الخارجيّ مجرّد نفحة ظلال، كياني بكلّيته فوضى هادئة... ما الجدوى من طلوع نهار؟.. إنّه لمجهد بالنسبة لي أن أعرف أنّه سيطلع كما لو أنّ جهدي الخاصّ هو الذي يدفعه إلى الطلوع. في بطء مشوّش أركن إلى الهدوء. أتجمّد. أحلّق في الفضاء بين الصحو والنوم، ومن حولي يبرز نوع آخر من عالم بعيد لا أعرف ما هو، ولكنّه ليس هذا... حقيقةٌ أخرى لغابة عجيبة تبرز من دون أن تمحو الواقع ولا هذا القبوَ الدافئَ. ويتعايش الواقعان داخل وعيي المقيّد، مثل دخانيْن يتداخلان ويتمازجان. لكَمْ هو واضحٌ بوضوح الآخر وبوضوحه الخاصّ هذا المنظر الطبيعي الكدِر الشفّاف !.. ثم من هي هذه المرأة التي لكثرة ما أمعن النظر إليها تتّخذ معي هيأة تلك الغابة التي من عالم آخر؟ لِم أُفسح لنفسي لحظةً لأسأل هذا السؤال؟.. إنّني لأجهل حتّى إنّني أريد معرفة ذلك… المخدع ذو التضاريس المائهة زجاجٌ كثيف أرى من خلال معرفتي به هذا المشهدَ… وهذا المشهد أعرفه منذ زمن طويل، ومنذ زمن طويل أهيم مع هذه المرأة التي لا أعرفها، عبر واقع آخر، لا واقعها. أشعر في داخلي بقرون من الزمن أمضيتها في التعرّف على هذه الأشجار، وهذه الزهور، وهذه الطرق المتعرّجة وكياني هذا الذي يتسكّع هناك عتيقًا ومدرَكًا بنظري الذي يجلّله الوعي بوجودي داخل هذا المخدع بظلالٍ تُقوْلب الرؤيا… أحيانًا، تهبّ في الغابة حيث أرى نفسي وأحسّ بها عن بعدٍ ريحٌ وانية تكنس كتلة دخان، ويكون ذلك الدخان هو الرؤية الواضحة والغامضة للمخدع الذي فيه حضوري، لأثاثه وستائره الغائمة ولخدَره الليلي. ثمّ تمرّ الريح ويشرع مشهد ذلك العالم الآخر في الحضور كليًّا لوحده. وأحيانًا تغدو الغرفة الضيّقة مجرّد رمادِ ضبابٍ في أفق هذه الأرض المتعدّدة... وهناك لحظات تكون فيها الأرض التي نطؤها هي هذا المخدع المرئيّ... أحلم وأتوه، مضاعَفًا بكوني أنا وهذه المرأة في الآن ذاته... إعياء كبير، كذا هي النارُ السوداء التي تلتهمني … ظمأٌ شديدٌ، تلك هي الحياة الزائفة التي تخنقني … أواه، أيتها السعادة الباهتة!… أنْ يجد المرء نفسه على الدوام حيث تفترق الطرق!..أحلم، وفي غفلةٍ مني أحدٌ ما يحلم معي… بل لعلّني لست شيئًا آخر غير حلمٍ يحلمه هذا الأحد ما الذي لا يوجد… في الخارج، بعيدٌ جدًّا هو الفجر! وبعيدةٌ جدًّا هي الغابة أمام عينين أخرييْن لي! وأنا الذي، بعيدًا عن هذا المشهد، أكاد أنساه، وفي تلك اللحظة بالذّات التي يكون فيها لي أفتقده، أبكيه وأشتهيه وأنا أتجوّل داخله... الأشجار! الزهور! الطرق المنفلتة تحت عرائش الأغصان المورقة!... متذارعيْن، كنّا نسير أحيانًا تحت أشجار الأَرز والأرجوان ولا أحد منّا يفكّر في العيش. جسدنا يبدو لنا عِطرًا غامضًا، وحياتُنا صدًى لخرير نبعٍ مائيّ. نمسك الواحد بيد الآخر ونظراتنا تتساءل ماذا لو أنّنا كنّا شهوانيّيْن وراودتنا الرغبة في أن نحقّق باللذة الجسديّة وهْم الحبّ... في بستاننا كانت هناك أزهارٌ من أجمل ما يكون... ورودٌ بحوافّ مبرومة، زنابق ذات بياض مذهّب، شقائق نعمان كان بإمكانها أن تغدو سريّةً لو أنّ حمرتها لم تخدع سرّ حضورها، بنفسج يكاد يلامس الحوافّ الكثّة للأرضيّات، أزهارُ أذنِ الفأر ضئيلةُ الحجم، كاميليا عقيمة الشّذى... ثمّ هناك، الحدقات المفتوحة من فوق الأعشاب السّامقة لعيون عبّاد الشمس المنعزلة التي تحدّق فينا بإصرار. وإذا نحن، والروح بكلّيتها تلامسها الطراوةُ المرئيّة للطحالب وتخترقها بنظرها فيما نعبر هذه الواحات، نعيش الحدس المباشر لعوالم أخرى... عندها يصعد إلى ذاكرتنا شهيقُ بكاءٍ، ذلك أنّنا، ولا حتّى في هذا الموضع ونحن سعيدان، ما كنّا بسعيديْن... أشجار البلّوط المثقلة بقرونٍ معقودةٍ على الجذوع تجعلنا نتعثّر في المجاسّ الميّتة لعروقها... أشجار الدُّلب تقف حواجز أمامنا... وفي البعيد، من شجرةٍ إلى شجرةٍ محاذية تتدلّى عناقيد العنب السوداء داخل صمتِ العرائشِ. حُلمنا بالحياة كان يستبقنا، مجنّحًا، نقابله بابتسامةٍ محايدةٍ وغريبةٍ، ثمرة مصاغة من روحيْنا اللتيْن لا تتبادلان النظر، ونحن لا نعرف أحدُنا عن الآخر أكثر من الحضور الذي تتّكئ به ذراعٌ على الانتباهِ الممنوح من قبل ذراعٍ أخرى تحسّ بها. لم يكن لحياتنا داخلٌ. كنّا في الخارج وآخَريْن. كنّا نجهل كلّ شيء عن أنفسنا كما لو أنّنا برزنا لأرواحنا من نهاية رحلة عبر الأحلام... نسينا الزمن، وتقلَّص الفضاء الرّحب داخل وعينا. وفيما عدا هذه الأشجار القريبة وتلك العرائش الأبعد منها وتلك القمم الأخيرة على خطّ الأفق، هل كان هنالك من شيء واقعيّ، شيء يمكن أن يستحقّ النظرة المنتبهة التي نوليها للأشياء الموجودة؟ في الساعة المائيّة لعدم كمالنا قطراتُ حلمٍ غيرُ منتظمة تعلن ساعاتٍ لا واقعيّةً …لا شيء يستحقّ العناء يا حبّي البعيد، عدا معرفة كم هو لذيذٌ أن نعرف أن لا شيء جدير بالعناية … الحركة الثابتة للأشجار، هدوء الينابيع المضطرب، الوهج الغامض للإيقاع الحميمي للنّسغ، غروب الأشياء البطيء الذي يبدو طالعًا من داخلها بموجب توافقٍ روحانيٍّ مع الحزن البعيد القادم من صمت السماء المرتفع-القريبِ من الروح مع ذلك، سقوط الأوراق المفتعل وعديم الجدوى، قطرةً قطرةً من غيابٍ، يغدو المشهدُ من داخلنا بموجبه متّجهًا بكلّيته إلى الأذنين، ويغمره الحزن مثل وطنٍ يرد ذكره في سياق الكلام – كلّ هذا يجرحنا بصفة غامضة مثل حزام يُفكّ وثاقه عن الخاصرة. هناك. هناك عشنا زمنًا لا يعرف كيف يمضي، في فضاءٍ لا يمكن لأيّ فكر أن يدّعي القدرة على الإلمام بامتداده. سيْرورةٌ خارج الزمن، وامتدادٌ لا يخضع لقوانين واقع المكان... كم من الساعات يا رفيقة ضجري، كم من ساعاتِ القلق السعيد لم يخيَّل إلينا هناك أنّها مُلكٌ لنا!.. ساعاتٌ من رماد الذهن، أيّامُ حنينٍ مكانيٍّ، قرونٌ باطنيّة لمشهد خارجيّ... ونحن لا نتساءل عن الغاية من كلّ هذا لأنّنا كنّا ننعم بمعرفةِ أنْ لا غاية من وراء كلّ هذا. هناك كنّا ندرك بحدسٍ لم يكن بالتأكيد حدسُنا أنّ هذا العالم المعذّب حيث سنكون اثنيْن منفصليْن، قد يكون واقعًا، إذا ما وُجد، في ما وراء الخطّ الأقصى حيث الجبالُ توهّجاتُ أشكالٍ، لكن لا شيء هناك وراء هذا الحدّ. وبسبب هذا التناقض النّاجم عن معرفتنا بهذا الأمر كانت ساعتنا هناك قاتمةً مثل كهفٍ في بلاد يغمرها التطيّر، وكان الإحساس الذي يعترينا غريبًا مثل الهيأة التي ترسمها مدينة موريسكيّة على سماء غروبٍ خريفيّ. أطراف بحار تلامس على تخوم مسامعنا سواحلَ لن نستطيع رؤيتها أبدًا، ولكم كنّا سعيديْن ونحن نستمع إلى تلك البحار حتّى لأنّنا كنّا نراها في داخلنا، تلك البحار التي تمخرها دون ريب بواخرُ لرحلاتها أغراضٌ أخرى غير غايات المنافع ولا تلك المسيّرة بأغراض الأرض. فجأة، وكمن يدرك أنّه حيّ، لاحظنا أنّ الفضاء مليء بتغريد الطيور، وأنّ جلبة حفيف الأوراق، مثل عطور قديمة في نعومة الطّيلس، كانت أكثر رسوخًا في أعماقنا من وعينا بسماعها. هكذا كانت وشْوشة الطيور، وهمْس الخمائل، والخلفيّة الرتيبة المنسيّة لهدير البحر تضفي كلُّها على حياتنا المهجورة هالةً من عدم معرفتنا بها. رقدْنا هناك أيّامًا عديدة يقظيْن، مبتهجيْن بكوننا لا شيء، بأن لا رغبات لنا ولا آمال، وبنسياننا لون الحبّ وطعم الأحقاد. كنّا نخالنا خالديْن... هناك، عشنا ساعاتٍ مفعمة بضربٍ آخر من الإحساس بها، غايةً في الاكتمال لهذا السبب بالذات، غايةً في الوِراب بالنسبة ليقين الحياة المربّع... ساعاتِ مجدٍ ملوكيّ مُطاحٍ بها، ساعات في كساء من أرجوان مهترئ، ساعات منحدرة إلى هذا العالم من عالم آخر أكثر امتلاءً بزهوِّ من استطاع تذليل أكثر ما يمكن من المخاوف.. كنّا نتألّم لاستمتاعنا بهذا كلّه، نتألّم من جرّائه... ذلك أنّ هذا المنظر بكلّيته، وبالرغم من المنفى الآمن الذي يوفّره لنا، كان يذكّرنا بنكهة انتمائنا إلى عالمنا هذا، مُترعٌ كان ذلك المنظر بأبّهة قلقٍ غامضٍ، حزينٍ وهائلٍ وفاسدٍ مثل انحطاطِ امبراطوريّةٍ مجهولةٍ... طيفَ نورٍ كان الصباح يرتسم فوق ستائر مخدعنا. شفتاي اللتان أعرفهما شاحبتين تمنحان الواحدة للأخرى مذاق عدم رغبة في الحياة. هواءُ غرفتنا المحايدة يرزح فوقنا بثقل ستارة حائطيّة. ووعينا الناعس إزاء غموض كلّ هذه الأشياء يبدو رخوًا مثل ذيل فستان يتجرجر في احتفال طقوسيّ عند المغيب. لا شيء من كلّ أحوال عطشنا له ما يبرّره. وانتباهُنا لغوٌ يزيّنه لنا همودنا المجنّح. لا أدري أيّة ظلال زيتيّة تُدبق الفكرة التي لدينا عن جسدنا. والتعبُ الذي نشعر به مجرّد ظلّ لتعب، من بعيد يأتينا مثل الفكرة التي لدينا بأنّ حياتنا كائنة... ليس لكليْنا من اسم أو وجود معقول. وإذا ما كنّا قادريْن على الصخب بما يجعلنا نتخيّل أننا نضحك، فإنّنا بكلّ تأكيد نضحك من اعتقادنا أنّنا نحيا. برودةُ الأغطية وقد بدأ يغمرها الدفء تداعب قدميْنا (أنا كما أنتِ، بالتأكيد) اللتيْن تتبادلان ملمس عرْيِهما. لِندعْ عنّا وهم الحياة وألاعيبها ياحبيبتي. لِنتفادَ أن نكون نحن... ولنحتفظْ في إصبعنا بالخاتم السحريّ الذي عندما نحرّكه يدعو إلينا جنيّات الصمت وأرواح الظلّ وعفاريت النّسيان... ثمّ ها هي هنا من جديد، في اللحظة التي كنّا سنحلم بالتفكير فيها، ها هي تبرز لنا تلك الغابة المتعدّدة، لكنّها الآن أكثر اضطرابًا لاضطرابنا وأكثر حزنًا بسبب حزنِنا. أمامها، وبمثل ضبابٍ ينقشع، تنزاح فكرتُنا عن العالم الواقعيّ، وأجدني أستعيد تملّكي بنفسي داخل حلمي المتسكّع مخفورًا بهذه الغابة الملغَزة... وتلك الأزهار، كلّ تلك الأزهار التي عايشتها هناك! أزهار يترجم عنها النظر بأسمائها -يعْرفها، وتقتطف الروحُ شذا عطرها، لا منها هي، بل من نغمة أسمائها... أزهارٌ كانت أسماؤها، وهي تتردّد الواحد تلو الآخر، أوركسترا عطوراتٍ صوتيّةٍ... أشجارٌ يضفي شبقُها الأخضر ظلاّ وبرودةً منعشة على النطق بأسمائها. ثمار تتناول أسماؤُها ملءَ الفم من روح لبِّها. ظلالٌ كانت بقايا من أزمنة ماضية سعيدة. فرَجات الغابة، فرَجات ضياء ترتسم ابتساماتٍ أكثر وضوحًا على صفحة المنظر الطبيعي هنا، بينما يبدو متثائبًا في غير هذا المكان... أواه، أيّتها الساعات ذات الألوان المتعدّدة!.. لحظاتٌ-زهورٌ، دقائق متحوّلة أشجارًا، وأنت أيّها الزمن الراكد مكانًا، الزمنُ الميّتُ جرّاء المكان، مغمورًا بالزهور، وبعطر الزهور، وبعطر أسماء الزهور!... جنونُ حلمٍ في هذا الصمت الذي ينتمي إلى أصقاع أخرى!... حياتنا كانت الحياةَ كلّها... وحبُّنا شذا الحبّ كلّه... كنّا نحيا ساعاتٍ مستحيلة مفعمة بكوننا نحن-نحن...ذلك أنّنا كنّا ندرك بكلّيةِ لحمِ لحمِنا أنّنا لسنا واقعًا... كنّا نكراتٍ، مفرَغين من أنفسنا، أيَّ شيء آخرَ... كنّا ذلك المشهد الطبيعيّ مطموسًا وعيًا بذاته... وكما كان هو مزدوجا –حقيقة ووهمًا- كذلك كنّا بدورنا مزدوجيْن بصفة غامضة، من دون أن يكون لأحدنا أن يعرف إن لم يكن الآخرُ هو ذاته، وإن كان هذا الآخر اللامحتملُ ممكنَ الوجود... عند خروجنا فجأة إلى الثبات الراكد للبحيرات كنّا نشعر بالرغبة في البكاء... كان المشهد يتراءى لنا بعينيْن مغرورقتيْن بالماء، عينان ثابتتان مليئتان سأَمًا لا متناهٍ من الوجود... ممتلئتان، أجلْ، قلقًا من الوجود ومن ضرورة أن تكون شيئًا ما، حقيقةً أم وهمًا –وذلك القلق يجد موطنًا له وصوتًا في صمت منفى البحيرات... أمّا نحن الماضيين دومًا، دون علم منّا بذلك ولا إرادة، فقد كنّا كما لو أنّنا مع ذلك نتوقّف عند ضفاف تلك البحيرات، لفرط ما كان هناك من أشياء لنا تبقى هناك وتظلّ متمثّلة ومنحلّة فيها. ويا لذلك الرعب الطريّ السعيد أن لا يكون هناك أحد! ولا حتّى نحن المتمشِّييْن هناك، ما كنّا هناك... لأنّنا لم نكن أحدًا، بل لم نكن أيّ شيء... لم يكن لدينا ما يكفي الموتَ من حياةٍ ليقتلها. كنّا نحيليْن جدًّا وضئيليْن حتّى إنّ ريح الزمن تركتنا، فائضيْن عن اللزوم، وكانت الساعات تمرّ فوق رؤوسنا مثل نسمة تداعب قمم النخيل. لم يكن لدينا لا زمن خاصّ ولا مشاريعَ. غايةُ الغايات من الأشياء والكائنات غدت بكليّتها بالنسبة لنا خارج أبواب جنّة الغياب هذه. الرّوح الحرشاء للجذوع، والروح الناضجة للأزهار، والروح المتمطّطة للأوراق، والروح المنحنية للثمار تجمّدت كلّها لمجرّد إحساسها بإحساسنا بها... هكذا متنا حياتَنا، مجتهديْن كلّا من جهته اجتهادًا في موتها، حتّى إنّه لم يكن بوسعنا أن نلاحظ أنّنا واحدٌ وحيدٌ، وأنّ كلاًّ منّا (على حدة) مجرّد طيْفٍ في مخيّلة الآخر، وأنّ كلاًّ منّا، داخل نفسه، مجرّد صدى لكيانه الخاصّ وحده.. ذبابة تطنّ، ضئيلة وغير واثقة... ضجيج أصوات غامضة تشعّ داخل يقظتي، واضحة ومتفرّقة تملأ عليّ بإعلان طلوع النهار وعيي بغرفتنا. بغرفتنا؟ لأيّ اثنيْن هذه الـ «نا» إن كنتُ وحدي؟ لا أدري. تداخلت الأشياء كلّها، ولم يعد هناك سوى واقع-ضباب، منفلت يغيب داخله لا يقيني، بينما إدراكي لنفسي يأخذه النوم مهدهَدًا بمفاعيل الأفيون... مثل شلال هابط من القمّة الباهتة للّحظة طلع النهار. انطفأت شعلةُ حطب أحلامنا يا حبيبتي في موقد حياتنا... لننفضْ أيدينا من وهم الأمل، لأنّه يخون، ومن الحبّ، لأنّه يُرهق، ومن الحياة، لأنّها تُعيي ولا ترضي أبدًا، وحتّى من الموت، لأنّه يجلب أكثر ممّا نبتغي وأقلّ ممّا نتمنّى. لننفضْ أيدينا من ضجرنا، أيّتها المحجَّبة، لأنّه يهرم من تلقاء نفسه ولا يجرؤ على أن يكون كلّ القلق الذي هو... لندع البكاء، لندع الحقد، لندع الرغبة... ولنسدل لحافًا دقيقًا من الكتّان، أيّتها الصّامتة، على الوجه الخشن والميّت لنقصنا... .....................................................* (من «كتاب اللاطمأنينة» الذي بصدد الإعداد)، يرد هذا النصّ من ضمن مجموعة النصوص والمقالات المتنوّعة التي يحتويها كتاب «سرد أحداث حياة عابرة».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©