الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكاليفالا..أسطورة الجَمال الفنلندي

الكاليفالا..أسطورة الجَمال الفنلندي
12 أغسطس 2015 21:03
إنها الكاليفالا، ملحمة الشعب الفنلندي، وصائغة مجده، وتاج تراثه، وقد دشّن نقلها إلى العربية للمرة الأولى، الشاعر والروائي سحبان أحمد مروه، وهو فنلندي من أصل لبناني، اعتبره المستعرب الفنلندي «يوسّي آرو» واحداً من أذكى أذكياء العرب، الذين وفدوا إلى فنلندا منذ عقود طويلة، وتضلّعوا من لغتها بزمن قياسي لا يتجاوز الـ6 أشهر، وباتوا يكتبون بالفنلندية على نحو يبزّ أساليب أدبائها وشعرائها وكتّابها الكبار. ومصطلح الكاليفالا يعني اسم الجد الأسطوري للجنس البشري الفنلندي. الملحمة والعربية صدرت الطبعة الأولى من ملحمة الكاليفالا باللغة العربية عن دار دانا اللبنانية في العام 1991 ونفد الكتاب في أشهر معدودات، وحالياً تجري الاستعدادات لإصدار الطبعة الثانية من الملحمة، مع مطلع شهر نوفمبر المقبل. وكان سحبان مروه قد أنجز ترجمته بالعربية للكاليفالا قبل صدورها في كتاب، منذ عقد ونيف، أي في العام 1980، ولم تصدر وقتها الترجمة «بسبب ظروف خرجت عن الإرادة والطاقة والوسع» كما يقول. وهي بعد «جهد المقلّ الذي لم يدّخر جهداً في الحرص على صحة النقل وسلامة الأداء، على قدر ما أتاح له الله من عقل وملكات». أما أهمية هذه الترجمة العربية للكاليفالا فتتأتى، ليس من مؤهلات المترجم الأدبية والإبداعية، وتضلعه من اللغتين: المنقول عنها والمنقول إليها فقط، وإنما من شهادة من راجع الترجمة نفسها، وهما المستعربان الفنلنديان الكبيران: «يوسّي آرو»، أستاذ اللغة العربية ورئيس دائرة الاستشراق في جامعة هلسنكي. و«كاي أورنبري»، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في «معهد الدراسات العربية والإسلامية» في جامعة هلسنكي. كلاهما شهد لجهد المترجم مروه بالتفوق والتوغّل في أحشاء الملحمة، والقبض الشامل عليها، وتقديمها بلغة عربية ذات إبداع دلالي يتكافأ واللغة المكتوبة فيها الملحمة، وربما أكثر. يقول «يوسي آرو»: «إن اللغة العربية بمفرداتها ودلالاتها»المدارية«الخصبة والعميقة، تصلح لتكون لغة ملاحم بامتياز، وهو الأمر الذي أدرك كنهه المترجم سحبان مروه، واشتغل عليه كشاعر في المقام الأول، ثم كمترجم/ مؤلف، فأبدع في صنيعه على نحو مذهل، حتى أنني كفنلندي، بات ينتابني شعور، أحياناً، بأنني أستمتع بقراءة النص العربي للملحمة، أكثر من استمتاعي بقراءته بالفنلندية نفسها كلغة أم، ذلك أن لغة الضاد مرنة أكثر، وأغزر بالمفردات، وأوسع بالاشتقاقات، وحمل المعاني. كما أنها أقوى بكثير كلغة مساعدة على الانفجار الدلالي للإنشاد الملحمي، ورميه في فضاء القارئ المشغوف بالشعر الإنشادي، أو لغة الملاحم في المقام الأول». 65 ألف بيت شعر من مقدمة المترجم، نعرف أن نصوص الملحمة في الأصل، شفاهية عامة، تداولها الناس كابراً عن كابر، منذ زمان بعيد، مغرق في البعد، وحتى منتصف القرن التاسع عشر، حيث تصدّى لجمعها شاعر ولغوي وطبيب فنلندي يدعى الياس لونروت، ثم توفّر على ما جمعه، فاستنسب ما واءم فكرته، وأطرح الكثير، وأضاف من نظمه هو الكثير، بناء على المتداول أمامه، وما تجود به ذاكرة الجموع الشعبية الفنلندية في القرى والأرياف، حتى استوت القطع جميعها في سياق واحد، ومن ثمّ في مجلد واحد، في نسيج عجيب، لا أثر فيه للصنعة، ولا للجهد الترميمي المتأخر. لكن المجلّد، أو الكتاب، لم يصدر في حالته الحاضرة، منذ الطبعة الأولى التي أصدرها لونروت سنة 1835. فهذه الطبعة الأولى، كانت تحتوي على 32 نشيداً، تشبه ترتيباً ومضموناً الطبعة الثانية والنهائية من الملحمة الصادرة سنة 1849، بعد رحلات جمع وتسجيل في مناطق فنلندا الشرقية وفي منطقة كاريالا، بشكل خاص، التابعة للاتحاد السوفييتي السابق، أو الاتحاد الروسي اليوم. جمع لونروت في رحلاته المتعاقبة، خمسة وستين ألف بيت من الشعر الكاليفالي، أي الشعر الذي ينتمي وزناً، وأحياناً، من حيث عناصره ومزاياه، إلى عالم الكاليفالا. لكن، وكما بات معروفاً، فإن لونروت لم يستسلم للنص، ولا أعيته وفرة ما جمع، بل يقال إن قرابة الثلث من أبيات هذه الملحمة قد خضع لقلمه، وما جرى به من تعديل وتحوير، ناهيك بما نظمه هو، ويبلغ السدس من مجموع أبيات الكاليفالا، نزولاً على حكم إحكام البناء واللحمة، لكن، ومهما يكن وجه الأمر، فإن الرجل كان مستطيعاً، قادراً ومتمكناً في مهمته، حتى ليعسر على الباحث، ردّ الدخيل وتمييز الأصيل عنه. ولونروت قد شحن الملحمة بقدر من الرُقى والتعاويذ، هائل، حتى أن القارئ لن يقرأ نشيداً في هذا الكتاب، لا رُقية فيه. انطلق لونروت إلى مهمته الرائدة في العقد الثاني من القرن ما قبل الماضي، في زمان اضطرمت فيه المشاعر القومية، وازداد فيه الشعور بالهوية الخاصة، وذلك عقب ضمّ فنلندا إلى روسيا (1808 – 1809). ومن هنا، فإن صدور الكاليفالا، كان علامة ومنعطفاً في تاريخ الثقافة الفنلندية، ليس لأن الملحمة أتت برهاناً ساطعاً على مقدرة اللغة الفنلندية على الإبداع (بعد توحّد لهجاتها بفضل الملحمة وجامعها) وحسب، بل جاءت، أيضاً، كرد ثقافي رفيع على عمر مديد من الازدراء والتعالي، مارستها نظرة الشعوب والثقافات المجاورة الأخرى لفنلندا، التي لطالما نُعت شعبها بالبربرية، وبالسقوط في التاريخ، حتى دخلت المسيحية البلاد – وقد دخلت متأخرة – فوقفت موقفاً معادياً ورافضاً لكل التراث الأدبي والشفوي الفنلندي، باعتباره «وثنياً»، على المسيحي واجب إبادته، أو طمسه، والترنّم بالابتهالات الدينية الوافدة. لكن الكنيسة لم تفلح في سعيها، بل ظلّ الشعر الشعبي حيّاً سليماً، وإن لم يسلم من دخول عناصر دينية جديدة فيه، كما نلحظ في النشيد الأخير من الملحمة. فماريانا في ذلك النشيد، ليست إلا السيدة العذراء، وابنها ليس إلا السيد الميسح، ولكن الحبل العجائبي يأتي من ثمرة شجرة توت، اقتطفتها الصبية العذراء من الوعر، و«امتلأ الرحم صعوبة». شعر غنّته العامّة لمتعتها شعر الكاليفالا، وكما يقول المترجم مروه، شعر شعبي بكل ما في اللفظ من معنى. فالمنشدون ما كانوا من المحترفين، بل كانوا من عامّة الناس، غنّوا هذه الأشعار في لحظات الراحة والاسترخاء. ثم إن شعر الكاليفالا، ليس مديحاً يُكال لطبقة نبيلة، ولا إشادة بحكّام، أو سادة، بل هو شعر نظمته وغنّته العامة لمتعتها هي. وكما يلاحظ قارئ الملحمة، فإن مجتمع الكاليفالا خلا من النخبة والنبلاء «بالمعنى الطبقي للكلمة»، ولا أبطال فيه خارج دائرة الشعب، كما لاحظ ذلك، الشاعر والمؤرخ الأدبي الفنلندي «أوتو فيلي كوسينن». لقد حاول بعض المؤرخين في فنلندا تفسير شعر الكاليفالا بأنه شعر النخبة، لكن كوسينن يردّ سائلاً: «وأين هي تلك النخبة؟ وأين هو تاريخها؟ أفي منطقة كاريالا؟!». مجتمع الكاليفالا مجتمع غير طبقي. ثم إن الكاليفالا، لا تعرف أصلاً مصطلح «مجتمع»، ولا مصطلح «دولة»، بل تعرف الأسرة والعائلة ورابطة النسب. والرجل في الكاليفالا، يرى السقوط من الأسرة موتاً (تحسن المقارنة هنا مع وضع المنبوذ والمتصعلك في تاريخنا). ورابطة النسب هي أساس التنظيم المعيشي، في الكاليفالا كلها، غير أن الكاليفالا، ليست تاريخاً، بل هي نتاج إبداعي لأهل كاريالا خصوصاً، وعلى هذا الأساس، يجب التعامل مع شعرها. هذا ويمكن للمرء أن يلاحظ درجات تطور المجتمع في الكاليفالا، فالقصص الميثولوجي فيها يمكن ردّه إلى العصور الغابرة، كما يمكن العثور على نصوص تعود إلى زمان كانت فيه السلطة للأم، على الغرار الأمازوني، ولكن هذه الإشارات، تكاد تكون استثناء في الكاليفالا، لا نهجاً مستمراً. يصف المفكر الكبير فريدريك إنغلز الدرجة الثالثة من درجات تطور المجتمع «الهمجي» فيقول بأنها «الدرجة الأولى لعصر السيف الحديدي، وفي الوقت نفسه، عصر الفأس والمحراث الحديديين». والسيف، في الكاليفالا، سلاح أبطالها، وإن ظلت، إلى جانبه، الأسلحة الأقدم، كالقوس والنبل والرمح، ولكن السيف فقط هو موضع الإعجاب. ماهية أبطال الكاليفالا أبطال الكاليفالا ليسوا آلهة، بل بشر. والمخلوقات الواردة في النص، ليست إلا تشخيصاً ضبابياً لقوى الطبيعة. وعلى النقيض مباشرة، يجد المرء أبطال الكاليفالا، أشخاصاً ممتلئين حياة وحضوراً، وإن لم تخل شخصياتهم من ملامح أساسها مفاهيم سحرية كانت قائمة. أما الآلهة، مثل «أوكو»، فلا تظهر ولا تتجلّى، بل تمدّ يد العون، أو تمتحن الخلق بالبلاء، وفيها من الصفات البشرية الكثير. أول أبطال الملحمة اسمه «فايناموينن» (اختصره المترجم بـ«فاينا»)، وهو رجل شامان، بما يعني ذلك من علاقة بعالم الغيب، وما يلحق به من ما ورائيات. وصاحبنا هذا رجل حكيم عازف ومغنّ. والغناء هنا ليس كما نعلم، بث لواعج وشكايات خواطر، عصف بها الهوى الجائر، بل هو دخول في الدين، فالأغنية رُقية، أو تلاوة سيرة مقدسة. ثم إن غناء أو إنشاد قصيد الكاليفالا، لا يقتصر على واحد، بل يلزمه اثنان، يجلس الواحد منهما قبالة الآخر، فيشبكان اليمنى باليسرى، واليسرى باليمنى، ثم ينشد أحدهما بيتاً، وقد جذب صاحبه إليه، حتى إذا فرغ، أنشد الثاني البيت التالي، جاذباً زميله إليه. هكذا، والعازف يعزف على «الكانتلة»، وهي آلة تشبه القانون عندنا عرباً، حتى يفرغ الإثنان من النشيد، ويُفرغ السمّار دنان الجعّة، ويسدل الليل ستاره. البطل الثاني حدّاد عجيب، اسمه إيلمارينن، أو إيلماري، يمثل انفصال الحدادة، كصنعة يدوية، عن الزراعة، لتصير وحدة إنتاج مستقلة. وحدّاد الملحمة صنع السامبو، وهي إحدى أعاجيبه، والسامبو طاحونة، صنعها من ريشة وحبّة حنطة، وما إلى ذلك من معجزات، مهراً قدّمه لسيدة الشمال كي تزوجه ابنتها. وينتهي الأمر بالسامبو إلى التحطّم على مقربة من شواطئ البلاد، في خبر طويل يبسط نفسه على مدى أناشيد عدة. البطل الثالث اسمه أهتي، أو ابن لمي، ولقبه «كاوكو ميالي»، أي ما يقارب قولنا في العربية «خليّ البال» معنىً. وأهتي هذا، شاب أرعن، ظريف، مرح، همّه ثالوث اللذّة الأحمر، أي المرأة والخمرة والطعام اللذيذ، فضلاً عن الغزو. وفي إحدى مغامراته يسقط قتيلاً، ويُقطّع إرباً، لكن أمه، تخفّ إلى نجدته، فتنزل إلى الهاوية، وتصطاد جثته المبدّدة من نهر الهاوية، وتستعيدها وتلحمها من جديد، وتعيد إلى ابنها، بفضل العسل السماوي، الروح، فيستوي قائماً ليعود إلى ما كان عليه. البطل الرابع اسمه كولرفو. وتكاد تكون حكايته منفصلة عما عداها. فهو شاب ترعرع يتيماً بسبب عداوة بين أبيه وعمه، وكان يحسب أن أهله ماتوا، ولكنه يعلم أنهم أحياء، من فتاة أغواها، وفجر بها، ثم تبين له، أنها أخته التي انتحرت بعد وقوفها على هوية الفتى، الذي كان يجاسدها منذ قليل، وقد ثأر لها ولأهله ولطفولته، حتى إذا فرغ من الثأر، لم يجد لحياته معنى، فانتحر. تجدر الإشارة هنا إلى أن حكاية كولرفو هذه، هي التي أوحت إلى الموسيقار الفنلندي الشهير جان سيبليوس (1865 – 1957) برائعته كولرفو، والتي بدأ بها بعد اجتماعه إلى امرأة كانت تنشد الشعر الفنلندي، وفقاً للتقاليد القديمة، كما يروي عنه كاتب سيرته «تفاتشرنا». مقابل هؤلاء، وهم الأبرز، تقف بوهيولا، بلاد الشمال، وهي لابلاندا، في أغلب الظن، وعلى رأسها سيدة اسمها لوهي. ولئن كان أبطال كاريالا، السابقو الذكر، هم الخير والمرح والصناعة، فإن لوهي وبلادها، تمثل العتمة والشر والمحن. يعرب بن قحطان الفنلندي تنتهي أحداث الملحمة بميلاد ابن مارياتا، الذي سرعان ما نُصّب ملكاً على كاريالا، الأمر الذي أثار حفيظة فاينا، فحمله على ركوب زورقه، ومغادرة البلاد إلى أجل غير مسمى، فهو يشترط حاجة الناس إليه ليعود، ولكن الناس، كما يبدو، يكفيهم ما هم فيه، ولا يحتاجون رُقى الراقي، ولا تعاويذ الكاهن. تجدر الإشارة إلى أن الدولة الفنلندية، ومنذ عقود، تحتفل في 28 فبراير من كل عام بـ«يوم الثقافة الفنلندي»، وهو التاريخ الذي كتب فيه د. إلياس لونروت مقدمة الطبعة الأولى من ملحمة الكاليفالا في العام 1835. أخيراً، لا بدّ من قول كلمة حق تاريخية في الشاعر والطبيب واللغوي والباحث إلياس لونروت (1802 – 1884)، خصوصاً لجهة إسهامه العملي في ميلاد الهوية القومية والثقافية لفنلندا، معزّزة بلغتها الوطنية، وذلك ليس من خلال جمعه نصوص الإنشاد الكاليفالي وإصداره بالفنلندية فقط، وإنما أيضاً لجهة اهتمامه البالغ الخصوصية بهذه اللغة، وتأليفه معجماً فنلندياً – سويدياً قوامه 200 ألف لفظة، والدعوة لفرض تدريس الفنلندية على حساب غيرها من اللغتين السائدتين وقتها في البلاد: السويدية والروسية، ولذلك لُقبّ الرجل بالأب الثاني للغة الفنلندية. (الأب الأول لها هو الأسقف ميخائيل أجريكولا (1506 – 1557)، صاحب أول كتاب يصدر باللغة الفنلندية، وهو كتاب الأجرومية في العام 1542). هكذا إذاّ تحوّل د. لونروت إلى بطل قومي فنلندي، وإلى مرجعية نهضوية وثقافية فنلندية بلا منازع. ومن شدة تعلقه باللغة الفنلندية، وشغفه بمفرداتها، اشتق لونروت ألفاظاً ومصطلحات مبتكرة من قلب متنها، باتت متداولة في الكتابة، وعلى شفاه الفنلنديين اليوم، ومنها ما معناه بالعربية: القومية، الشعور القومي، الأدب الكبير، حق التصويت، المواطنة، الشخصية الوطنية، النشيد، المفردة اللغوية، المفردة الأدبية.... إلخ. ولا غرو، فقد اعتبر لونروت اللغة أساس الثقافة، وأساس الهوية، وشجرة إحياء الشعب، وانبعاث الأمة، ولأجل ذلك أطلق عليه سحبان مروه تحبّباً لقب: «يعرب بن قحطان الفنلندي»، تيمّناً بجدّنا العربي الشهير، الذي كان أول من تمركز وتمحور بالعربية الواسعة، ونطق بأفصحها، وأوجز بأبلغها، فعُرفت به، وعُرف بها، حتى باتت لغة الضاد تُنسب إليه. بورخيس والكاليفالا ينبغي التنويه أن خورخي لويس بورخيس، القاص والشاعر الأرجنتيني الكبير، كان قد قرأ ملحمة الكاليفالا، وأعلن عميق إعجابه بها، وبجامعها إلياس لونروت، ولأجل ذلك استوحى شخصيته القديرة والعجائبية، في أكثر من عمل قصصي له، وخصوصاً في حكاية: «الموت والبوصلة».. وذلك كله من بوّابة أدب التخييل والترميز «لذاتهما»، وهو الأدب الذي برع به بورخيس دون سواه من كتّاب أميركا اللاتينية، خصوصاً لناحية إيجاد «معادلة واقعية للتخييل»، تنطلق من فسيفساء الحياة نفسها، وقد غامت آفاقها بالسحب الثقيلة والخفيفة، وتناوحت على جانبيها الصواعق الهوج، والصواعق الصامتة في آن، والهدف في النتيجة إيجاد متنفس أسطوري للأمل، والتحرر من كل أنانية ووحشية غامضة تمارسها الذات على الذات، قبالتها أو في داخلها. وهو أمر نجح بورخيس، أيّما نجاح، بتخريجه عبر منظور سيكو/ لساني ذهني، مشفوعاً بعمليات إدراك سيكو/ بصرية، يشي بها خياله العبقري، معمّراً نصاً عجائبياً يتحوّل، في النتيجة، إلى مدوّنة شعرية بورخيسية، تكتسب على مرّ الزمن، هالة من الاعتبار والتقديس، وبث نوع من أخلاق عالمية متجددة في عاصف الأقدار. ومن هنا كانت مشاعر بورخيس تلتقي ومشاعر لونروت في الكاليفالا، كنص ملحمي هو أقصى الشيء وغايته، في اتجاه بلورة سمو طموحي وهويّاتي رفيع للشعب الفنلندي. وكان كاتب هذه السطور، مع الشاعرة الأرجنتينية ليونور غونزاليس، قد التقيا بورخيس ذات مساء من شتاء عام 1984 في مقهى الدوماغو في باريس، وحاوراه معاّ في شؤون أدبية شتى، من بينها سبب اهتمامه بالحكايا الشعبية الفنلندية التي جمعها إلياس لونروت جمعاً سمفونياً رائعاً، من على أفواه الفلاحين والبسطاء في الريف الفنلندي، ثمّ صاغها في ما بعد على هيئة ملحمة اسمها: الكاليفالا. قال بورخيس: «الكاليفالا ليست ملحمة شعب فنلندا فقط، وإنما هي ملحمة شعوب بحار الأرض كلها. ولذلك أشعر أنها ملحمتي الشخصية، وقد عشت طبقات الصراع فيها عالياً.. عالياً ذات يوم، على شواطئ جزر مالفيناس الأرجنتينية الأصل، والمحتلة من البريطانيين منذ زمن طويل. ولذلك أحببت أبطالها نساء ورجالاً، ووقفت بتدبّر على أسرارهم وتلوّناتهم وأطوارهم وتياراتهم. كما أحببت، بل تقمّصت، جامع أشعارها إلياس لونروت، الذي جاب أصقاع فنلندا المحتلة (من السويديين أولاً، ثم من بعدهم روس الاتحاد السوفييتي السابق ثانياً)، موقظاً همم الشعب الفنلندي لأجل الحرية والاستقلال الوطني، وبناء الشخصية الثقافية والحضارية له، مدماكاً بعد مدماك، عبر الأدب الفنلندي، الذي تمثله الكاليفالا أقوى تمثيل». ويردف بورخيس: «لقد منحني لونروت خيالاً مضاعفاً، جعلني قارئاً خلاّقاً بكل مداركي الحسيّة والذهنية، وبكل ما أوتيت من تكوينات لاقطة للنزعات الانفعالية والجمالية الكامنة في الإنسان الفنلندي ورؤيته المزخرفة للعالم. جعلني لونروت فنلندياً يقف على عناصره التاريخية واللغوية في شتى مظاهر الانسجام بينهما. ملفوظه الإنشادي الملحمي، حفر له حيّزاً خصوصياً في الفضاء الإبداعي والإنساني العام، كان من نتائجه أن اخترق الحقب والعصور، وصولاً إلى عصرنا هذا، وجعل من الإنشاد الكاليفالي المكتوب، وثيقة ملزمة للجميع. وثيقة لمواطنة عالمية شاملة، من شأنها شدّ العقول، وتهذيب الأذواق، وتليين العواطف، وإيقاظ المشاعر، والسمو بالنفوس». هل مهارة القراءة للملاحم، ومنها الكاليفالا، تتجلى في القدرة على تحويل الخطاب المكتوب إلى خطاب منطوق، يظل يتساوق بقاءً وحدوثاً؟ سألت شخصياً بورخيس فأجابني: «هذا السؤال يذكرني بـ«طوط»المصري مخترع الكتابة، ومعها مختلف الفنون والعلوم، التي تتوسل التجسيد من خلال أجواء المعابد القديمة وأبعاد التنجيم والعرافة، وقد اشترط خلالها«طوط» للكتابة الحقيقية كي تبقى وتؤثر، أن تظل بمستوى الصوت الذي تُطلقه، أي أن يتحوّل الصوت إلى إنشاد، فردي وجمعي، يظل يتكثف في نفسه، عبر العوالم الحسية، وما فوق الحسية». أبإمكاننا إذاً، وتبعاً لنظرية الكلمة والصوت عند «طوط» المصري، القول إن الملحمة هي الضجّة المنظمة والجاذبة التي تحدّق في كل شيء، ماضياً، حاضراً ومستقبلاً؟ بورخيس: «الملحمة، هي تماماً مثل شمس الظهيرة بسطوعها الضاجّ والخافق بالحيوات على أنواعها، وهي نبّاشة الماضي العظيم لأجل المستقبل العظيم، ودرسها هو لمنع الإنسان من أن ينقاد انقياداً أعمى إلى الشطط والفظاظة. وعليه، ليس جمع واستنطاق مثال ما مضى، شعراً أو أغنية أو فولكلوراً أو أسطورة، كما فعل لونروت في الكاليفالا، إلا لاستخلاص عنصر فطري مستقر في عالم للقيم الشعبية الموروثة ليس له قرار. فالماضي له قيمه إذاً، جيلاً بعد جيل، وألفاً بعد ألف. وبقدر ما يتاح اكتناه هذه القيم، يتاح فك ألغازها وإحلالها في مصافها اليوم من الحق والجمال واستئناف الضرب في المجهول». ذكرت الأسطورة، أنت الشغوف بالأساطير والمترع بالخرافات والعظائيات، إلى أي حدّ، برأيك، استطاع لونروت أن يكون مروّض أساطير في الكاليفالا؟ بورخيس: «لا يسعني إلا أن ألاحظ أن لونروت في الكاليفالا، حوّل بعض عناصر ومشهديات الأدب الشفوي الفنلندي إلى طراز فريد من الأساطير، وهي أساطير جاذبة، حيوية كالنبت الطري، والمفاجآت فيها أنها جاوزت كل مرتقب. والأهم في لونروت بعد، أنه يستخدم عبر حواراته المركّبة في الملحمة، عناصر الأساطير نفسها، وكذلك المجازات والرموز الناتجة عنها، هكذا بتفوق يبدّد تعارضاتها الظاهرة على السطح، لتظل تكشف عن كون محتجب في العمق لم يُقتحم بعد». هل الكتابة الملحمية هي مشهد من عاصمة السماء على الأرض؟ وإلى أي حد تتجلى هذه الكتابة في الملحمة الفنلندية التي تحب؟.. وقبل أن تكمل الشاعرة الأرجنتينية الصديقة ليونور غونزاليس شرحها لسؤالها، صرخ بورخيس إعجاباً بالسؤال: ومن أين جئت بهذا التعبير؟! (يقصد تعبير «الكتابة الملحمية هي مشهد من عاصمة السماء على الأرض»). إنه لعمري تعبير يختزل نصّاً أبدياً بأكمله. أجل يا سيدتي، عبارتك هذه خلبت لبّي. فتحت كوّة لمعان في مخزون طاقتي التعبيرية، وباتت ترغمني على القول إنك أنت حسناء الشمال الأسطورية التي تحدّث عنها لونروت في الكاليفالا، وتوغل في أمرها حتى منتهاه، ولا غرو فالشيء الجميل قرّة للعين دائمة.. عين الكاتب وعين القارئ على السواء. وأعود إلى سؤالك، نعم، الكتابة الملحمية هي «مشهد من عاصمة السماء على الأرض» كما تقولين، لا لشيء إلا لأنها قمة الشعر، وخصوصاً عندما يقدم هذا الشعر في أطيب كأس وأمتع كلمة... هكذا، يا عزيزتي، فالإنشاد الشعري الملحمي الهادر بعمق الإبداع وسلاسته، هو فوق النقد، أو بالأحرى، لا نقّاد له، ولا معلّقين نكدين أو ساخرين. الملحمة، أجل، تستطيع حماية نفسها بنفسها من أي نقد أو لغو أو تأويل مرتد». إنها إذاً كتابة التأويل يا سيد بورخيس، التأويل المرتد إلى ما يمكن وصفه«بلغة» جاك لومبار، المثاقفة المضادة. هل الملحمة بمعنى ما، هي أدب المثقافة المضادة والمتجاوزة لكل نقد؟ بورخيس:«ربما، فلغة جاك لومبار عالم الأعراق الشهير هذا، تستند دوماً إلى لسان أدب الشعوب وثقافاتها العتيدة، الممثلة بالملاحم والأشعار الكلاسيكية الأولى، التي لا يمكن تقويمها إلا بالقراءات المقارنة.. القراءات ذات الجراحات السيكولوجية العميقة، والتي تطرح مُسلّمة أن أدب الملاحم، وإن كان شاهداً على تاريخ تحوّلات شعب بعينه، فإنه أيضاً شاهد على تحوّلات شعوب الأرض كلها، فكل جماعة بشرية، في النتيجة، هي مسؤولة، بثقافتها وفنونها وإبداعاتها الشامخة عن مصير الكوكب برمته. الشعوب تتنافس ولا شك، لكنه التنافس في قلب الإبداع الإنساني الواحد، والذي هو ملك الجميع، أفراداً وجماعات. ومن هنا، كان إلياس لونروت في الكاليفالا، يفصح بألسنة من يقابلهم: «ما من كفؤ من المنشدين إلا وهناك أكفأ منه، ينافسه بغير علم منه، وكل صدمة في هذا المجال، تزيدنا حكمة وثقة. ومن يدري، فقد يرى القارئ المستعرض نفسه ما لا يراه المؤلف اللاعب بأشواط، أحياناً». وما رأيك بقول القائل إن مهمة الشاعر الملحمي، تتلّخص في أن يخبرنا بما يجب أن يكون عليه العالم، أي أنه يقدم «أوراق اعتماد» دراما التنوير بإنشاد خصوصي؟ بورخيس: «وهذا ما فعله لونروت في الكاليفالا تماماً. لقد بثّ فعل التنوير في الفنلنديين، وفينا نحن كبشر جميعاً، هكذا بعواطف قوية، عميقة وفعالة، بعيداً من التبجح والتصنع والوعظ والمداجاة. فالإنسان في المحصّلة، هو نتاج ثقافته المحتدمة بالعالم، أنّى كانت قوة هذه الثقافة أو عدم قوتها. لكن ما يحرق عقلي الآن، ومثل حرق الأسيد لأي مادة لحمية، هو لماذا توقف فن الملحمة الشاهق هذا؟! لماذا أشاحت عنه أجيال شعرية كبيرة في هذا العالم الحديث؟».. قاطعته متدخلاً بالسؤال الآتي: ولكن فن الشعر الملحمي لم يتوقف يا سيد بورخيس، وإلا ما تفسيرك لظاهرة ملحمية شعر اليوناني جورج سيفيريس، والفرنسي سان جون برس.. ثم ألا ترى أن من «شروط» الفن الملحمي أن يكون نادراً، ومتقطّعاً في كل مرحلة من مراحل تاريخ الشعوب؟ أجاب بورخيس:«ما قدمه سيفيريس أو بيرس من شعر، لا ينتمي إلى فن الملحمة إلا بالرائحة، وبشيء من ظل.. ظل الإنفجار التلقائي لرؤيتها، ومرمى إنشادها». قاطعته ليونور غونزاليس قائلة: ولكن من غير الممكن استنساخ تجارب ما سبق من ملاحم، بخاصة لناحية مسرحة الأمكنة والأبطال والصراع والحوار ومحطّات الوحي والإلهام...إلخ. غير أننا لا ننكر أيضاّ أننا أمام إنشاد ملحمي تراجيدي جديد، يحمل تقلّبات العالم القديم والحديث معاّ، خصوصاً عند الشاعر جورج سيفيريس، الذي ظل ينطلق، بين الفينة والأخرى، من الهاجس الإغربقي الهلليني، ويجمع بين مقهوري الأمس ومقهوري اليوم في بلاده، وعبر منظومة شعرية ملحمية تزدهي بالإحساس الحي، القوي والجذاب. ردّ بورخيس: «شعر سيفيريس في حقيقته، ندب شجي حديث، يلامس أحياناً القلوب والعقول، فيفعمها حسرة ولوعة شبه إنشادية، لكنه في نهاية المطاف، لا يداني قيمة شعرية تلكم المنصّات العالية من الملاحم التي تجتاح كل شيء، وترمينا بالأحلام التأملية التى لا حدّ لآفاقها. ينبغي أن تظل للملحمة هيبتها، يا عزيزتي، وكذلك جبروت مقدرتها على جمع الأساطير والخرافات الخلاّقة، والمضمّخة بليالي الأسحار والأقمار والطيوب والأزهار وسائر فيوضات الوعي واللاوعي، التي ترنو دائماً في الأبعد فالأبعد. وملحمة الكاليفالا، لعلها هي آخر الملاحم الكبرى كما عرفناها عند الإغريق والرومان والفرس والهند، وإن اختلفت أجواؤها وتقلّبات أسئلتها، وسوقها لقدرها، وقدر الناس معها.. الكاليفالا، نعم يا أصدقاء، تطل برأسها من بين رؤوس الملاحم الأخرى المعروفة والقوية في العالم». الملحمة ردّ فعل ثقافي على الازدراء والتعالي الذي شاب نظرة الثقافات المجاورة لفنلندا خزّان معرفي كانت فرصة استثنائية وتاريخية لي، أن التقيت شخصياً، وأربع مرات، بالمستعرب «يوسي آرو»، أثناء زياراته المتكررة للبنان في عقد الثمانينيات من القرن الفائت. وعبره، استطراداّ، كنت اطلعت على كنز من كنوز إبداعنا الشعري القديم، متمثّلاً في نصوص شعراء هيلينستيين من أصول فينيقية، تعود جذورهم إلى منطقة أم النار في أبوظبي، منذ ما يزيد عن 4000 آلاف عام ق. م.، إذ البرفيسور «آرو»، بالإضافة إلى ما كان يشغله من موقع أكاديمي بارز في جامعة هلسنكي، هو عالم متبحّر ونحرير بالحضارات واللغات القديمة لمنطقتنا: من فينيقية وفرعونية وبابلية وآشورية وأمّورية وآكادية... إلخ. هو بالفعل رجل معرفة عجيب، خزّان بشري موسوعي، استثنائي و»مخيف»، يندر أن تجود بمثله دورات الأزمنة البشرية، عبر مسارها الثقافي والإبداعي التاريخي المستمر. أناشيد الكاليفالا في ما يلي مقاطع متفرقة من أناشيد الكاليفالا ترجمة - سحبان مروة ---------------- من فاتحة ما قبل النشيد الأول يخطر لي/ وفي ذهني أفكر/ بالذهاب لأنشد/ بالذهاب لأغنّي / لأقرأ صلات الرحم/ لأغنّي الأنساب/ الكلمات تذوب في حلقي/ والعبارات تسقط/ إلى لساني تأتي/ على أسناني تنفجر/ أخي، أيها الغالي يا أخي/ يا من لم يتصل برحم لي، أيها الوسيم/ تعال معي لننشد/ إثر قدومنا من مكانين مختلفين/ فمن النادر أن نلتقي/ أن يأتي واحدنا إلى حيث الآخر/ في تلك الحدود التعسة/ في بوهيولا البائسة/ نشبك أيدينا بعضها ببعض/ أصابع بين أصابع/ لنغنّي خيراً/ فالكلمات التي سننشد/ هي عن حزام فاينا الأزلي/ وعن سندان إيلماري/ وعن ذبابة سيف كاوكو/ وعن حقل رماية قوس يوكاهانين/ عن حقول بوهيولا القصيّة/ وأراضي كاليفالا الجرداء/ غنّى أبي سالفاً هذه الأغنيات/ وعلمتنيها أمي/ وأنا على الأرض طفل يحبو". من النشيد الأول سيدة الماء، عذراء الهواء/ رفعت رأسها من البحر/ شرعت بولادة الجنين/ أخذت بالولادة في وسط البحر/ بعدها وُلدت رؤوس بحرية/ وحيثما غطست في الماء/ كانت الأغوار تصير أعمق/ وحيثما استراح جانبها/ تكونت الشطآن الممهدة/ وحيثما وطأت بقدمها الأرض/ ابتُكرت لأفواج السمك مواضع/ وحيثما اصطدم رأسها باليابسة/ توالدت النتوءات/ بعدئذ سبحت مبتعدة عن الساحل/ وسط المحيط وقفت/ فقامت حولها الضحضاحات/ وارتفعت شعاب صخرية/ مهلكةً للسفن/ ومقبرة للبحارة/ كانت الجزر جاهزة والضحضاحات مبتكرة/ وكانت عمد السماء منتصبة/ والأرض، كما ولو بنطق الخالق، تكونت/ كان الصخر ملوناً/ والجلاميد مخططة/ بيد أن فاينا لم يولد بعد/ الشاعر السرمدي لم يظهر/ مكث الأزلي فاينا/ في رحم أمه ثلاثين صيفاً وشتاء/ في اليمّ الهادئ، في العباب المكسو بالضباب/ تأمل فاينا وفكر/ كيف سأكون؟ وكيف سأحيا؟/ في مخبئه الداجي، حيث لم ير القمر أبداً/ ولم يبصر الشمس/ نطق بهذه الكلمة: أطلقني يا بدر/ وابعثيني يا شمس/ أوتافا، أيها الساطع خلّصني/ من تلك المساكن الضيقة/ واهدني إلى البر/ خذ بيدي، أنا الإنسان، إلى العراء". من النشيد الثاني الأزلي فاينا تكلم بنفسه:/ أيه أمي يا حاملتي الغريبة/ يا ربة الطبيعة/ أرسلي قوم البحر إلى هنا/ في البحر أقوام كثر/ ليحتطبوا هذه السنديانة/ ليجندلوا الشجرة المشؤومة/ من قدام الشمس الساطعة/ وليرفعوا الستار عن القمر المشع/ حينئذ من البحر طلع رجل/ لم يكن بأكبر من الأكبر/ ولا بأصغر من الأصغر/ قامته بطول إبهام رجل/ وارتفاعه بطول شبر الزوجة/ كان يعتمر خوذة نحاسية/ وينتعل جزمتين نحاسيتين/ وفي يديه قفازان نحاسيان/ والقفاز موشّى بالنحاس/ والرجل متمنطق بمنطقة نحاسية/ وخلف المنطقة فأس نحاسية/..../ الأزلي فاينا قال: أتركها لك هذه الحورة النامية/ غنّ فوقها أيها الوقواق/ بعذوبة غرّد يا أصفر الصدر/ ترنّم يا فضيّ الصدر/ أصدح يا قصديري الصدر/ وقوقّ صباح مساء/ لتصفو حياتي/ لتتجمّل أحراشي/ لتغتني شطآني/ ولتخصّب تربتي". من النشيد الرابع حين وصلت إلى البحر/ حلّ الظلام والعتمة/ بكت الصبية، ناحت الليل كله/ ثم لمّا تنفس الفجر/ نظرت إلى الرأس البحري/ فأبصرت ثلاث عذارى/ يسبحن ويستحممن/ فذهبت لتكون رابعتهن/ العذراء آينو بينهن الآن/ هناك في البحر كانت صخرة ملونة/ صخرة ذهبية تلمع/ حاولت السباحة إلى الصخرة لتلجأ إليها/ حتى إذا ما وصلتها، اقتعدتها/ اقتعدت الصخرة الذهبية الملتمعة/......../ ألا ليت أختي لا تغسل وجهها أبداً/ عند مرسى الزوارق في خليج البيت/ لأنه إن كان ثمة ماء من البحر/ فالماء دمي/ وإن كان ثمة سمك من البحر/ فالسمك لحمي/ وإن كانت على الساحل أغصان يابسة/ فالأغصان ضلوعي/ وإن كان على الشاطئ عشب/ فذلك العشب هو شعري..". من النشيد السابع قالت سيدة بوهيولا:/ أيها العاقل يا فاينا/ يا كاهناً سرمدياً/ أنا لم أسألك الذهب/ ولا رغبت إليك بالفضة/ فالذهب زهر الأطفال/ والفضة زخرف الأفراس/ هل تعرف؟ أنا أسألك:/ أن تصنع السامبو/ الطاحونة العجيبة/ من مقدم ريشة الغرنوق/ ومن درّ بقرة لم تلد/ ومن حبّة شعير واحدة/ ومن صوف نعجة واحدة/ وعندئذ أعطيك الصبية/ وأوصلك إلى بلادك/ حيث يغرّد عصفورك/ حيث يصيح ديكك/ الثابت الأزلي فاينا قال:/ أنا لا أعرف كيف يصاغ السامبو/ لا أعرف صناعة الغطاء المزخرف/ لكن إن أوصلتني أنت إلى بلادي/ فسأرسل لك الحدّاد إيلماري/ فوحده يسعه أن يصنع السامبو/ أن يطرق الطبق المنقوش/ وهو وحده من سيرضي فتاتك/ فهو حدّاد عجيب وحاذق/ فلقد صنع السماء سالفاً/ وبمطرقته صاغ قبّة الدنيا/ وفي كل هذا لا ترين أثر مطرقة/ ولا أثراً لملقط /...../ أمر فاينا الصبية بالقدوم إلى مركبته/ أجابت الفتاة بمهارة:/ لربما صرت زوجة لك/ إن أنت سحبت اللحاء من الحجر/ وانتزعت من الجليد خشب السور/ من دون أن تتحطّم القطع/ أو أن تطير شظية واحدة/ لم يأبه الأزلي فاينا لذلك/ بل سحب لحاء الحجر/ وخشب السور من الجليد/ ثم دعا الفتاة إلى زحافته/ قالت الصبية: سأصير زوجة لمن ينحت الزورق/ من حطام مغزلي/ من أجزاء نولي/ ثم يدفع بالزورق إلى الماء/ من دون أن يرفسه بقدمه/ أو ينهضه بذراعيه/ ومن دون أن يحرك كتفيه/ قال فاينا: ما أقلّت الغبراء/ ولا أظلّت الخضراء/ صانع مراكب يضارعني/ أخذ من المغزل حطاماً/ ومن النول شظايا/ ثم ذهب ليصنع مركباً بمائة لوح/ ذهب إلى جبل من فولاذ/ وراح ينحت الزورق مغامراً/ ويبنيه مجازفاً واثقاُ". من النشيد التاسع ويلي عليك أيها الحديد البائس/ فأنت في مكان رديء/ وفي مساحة ذليلة/ تُرى إلى أي شيء ستتحوّل؟/ إن أنا ألقيت بك في النار/ إن أنا وضعتك في الكور/ جزع الحديد المسكين/ جزع وامتلكه رعب قاتل/ حين سمع بذكر النار/ ولهيبها المندلع/ قال الحدّاد إيلماري:/ ألا لا تخف أيها الحديد ولا تقلق/ فالنار لا تحرق أنيسها/ لا ولا هي بمعذبة قريبها/ وحين تأتي إلى بيت النار/ إلى حيث ينبعث اللهب/ فستصير جميلاً/ وتصبح ممتازاً على الأشياء/ تصير سيوفاً يمتشقها الرجال/ وحليّاً جميلة تتقلّدها النساء/ وبعد ذلك اليوم/ أخرج الحديد من المستنقع/ ومن الأغوار انتشل/ وقدم به إلى المصهر/ ولمرة نفخ ولمرتين/ وللمرتين الثالثة كذلك/ أخذ الحديد بالذوبان/ وراح ينصهر كمعدن/ ويتمدّد كعجين القمح/ في لهب الحداد المضطرم/ وتحت الوهج المندلع/ صرخ الحديد الشقي:/ إيلماري يا حداد/ أخرجني من هنا/ خلّصني من عذاب النار الحمراء/ قال الحداد:/ إن أنا أخرجتك من هنا/ لربما غلظت وصرت شرساً/ فتنحت أخاً لك/ وتقطع ابن أمك/ هنا أقسم الحديد المسكين قسماً صعباً/ قال وهو في الكور/ ثم قال وهوعلى السندان:/ الخشب فقط سأعضّه/ وسأنحت قلب الحجر/ لكن لن أنهش أخاً لي/ وابن أمي لن أقّطعه/ وستكون كينونتي الأحسن/ ووجودي الأكرم في حياتي/ عندما أكون برفقة السائر/ وسلاحاً للمسافر". من النشيد الثاني عشر لقد سحرني السحرة/ لعنوني لعنة الأفاعي/ نالوا منّي/ ما تناله الفأس من الصخرة/ أو الإزميل من الحجر/ أو الموت من بيت خاو/ لقد هددوني بشيء/ وما حدث كان شيئاً آخر/ أرادوا إسقاطي/ هدّدوا بإذلالي/ لأكون خشبة في مستنقع/ جسراً فوق الطين/ لتكون لحيتي في الوحل/ ولكنني أنا الرجل البطل/ لم أعبأ بذلك كثيراً/ بل صرت بذاتي ساحراً/ صرت ناطقاً بالرقى/ غنيت للسحرة ولسهامهم/ للعرّافين وفولاذهم/ فقذفتهم إلى شلال الهاوية/...../ عند مفترق دربين/ على ظهر حجر أزرق/ فوق مستنقع متموج/ وقف ابن لمي وقال:/ من الأرض قوموا يا رجال السيف/ من الآبار يا رجال، من الأنهار/ انهضي يا غابة برجالك/ وبقوتك انهض يا شيخ الجبل/ واصعد بأهوالك يا جنيّ الماء/ يا سيدة اليمّ ارتفعي بقدرتك/ يا عجوز الماء بشدّتك/ ومن كل واد ارتفعن يا جنيّات/ ومن كل بركة يا فتيات/ لمساعدة الرجل الأوحد/ لكيلا يصيبه نشّاب الساحر/ أو حديد العارف/ أو تصيبه مديات الراقي/ أو سهام الرامي/ وإذا لم يكف كل هذا/ فإنني أذكر وسيلة أخرى/ سأدعو المكان الأعلى/ سأضرع إلى أوكو إله السماء/ أن اعطني سيفاً نارياً/ في قراب ناري/ لأقطع به الآفات/ لأفرّق به الأشرار/ لأضرب بحدّه الحسدة/ أغلب به سحرة الماء/ من قدامي ومن ورائي/ ومن فوقي وعن جانبي/ أصرع السحرة بنشّابهم/ والرقاة بحديدهم المموه/ والمنجّمين بفولاذهم/ ورجال السوء بسيوفهم/..../ ضرب الأرض بسوطه/ فطلع من الأرض سديم/ إثر ذلك لم ينتبه لوجوده أحد/ سمع الشعر خارجاً/ سمع الكلمات عبر الطحالب/ والعازفين عبر الجدار/ والمطربين عبر الأخشاب". من النشيد الثامن عشر عند طرف الجزيرة ذات السديم/ تطلّعت، التفتت/ حيث الهواء النقي الشامل/ وإلى ما فوق رأسها إلى السماء/ وفي اتجاه سواحل البحر/ كانت الشمس ساطعة في الأعالي/ والأمواج ملتمعة تحت/ ألقت بنظرة إلى متن البحر/ لمحت سواداً فيه/ شيئاً أزرق صغيراً بين الأمواج/ قالت: من أنت في البحر يا أسود؟/ من تراك بين الأمواج يا أزرق؟/ إن كنت سرباً من الأوز/ فلتحلّق طائراً إلى فوق/ وإن كنت سرباً من السلمون/ أو قطيعاً من سمك آخر/ فلتغص سابحاً، منجذباً إلى داخل الماء/ وإن كنت صخرة / أو خشبة تطفو على أديم الماء/ فليُعلك الموج ولتغمرك المياه/...../ تقدم الزورق/ دنا من لسان الجزيرة ذات السديم/ عرفت إينيكي بقدوم الزورق، فقالت:/ إن كنت زورق أخي، أو مركب والدي/ هلّم إلى البيت/ وليستقر حيزومك على هذا الميناء/ وإن كنت مركباً غريباً/ فلتستدر/ ولتسبح غريباً إلى مراسي غيرنا/ ولتكن مؤخرتك على هذا المرسى/..../ لم يكن زورقاً من البيت/ ولا بالزورق الغريب تماماً/ كان مركب فاينا، المغنّي الأول/ إلى أين أنت غادٍ يا فاينا؟/ وفيم استعدادك يا ممتاز الأرض؟/ لقد قدمت لخطبة الصبية/ لطلب العذراء من بوهيولا الداجية/ من بلد هي مهلكة للرجال/ ومقبرة للبطل/..../ أتأتين معي يا صبيّة؟/ صديقة أبدية؟/ زوجة على ركبتي؟/ قالت فتاة بوهيولا الفاتنة:/ هل بنيت المركب الكبير من أجزاء مغزلي؟/ من شظايا نولي؟/..../ بلى، لقد بنيت لك مركباً قوياً/ وهو ثابت عند اشتداد العاصفة/ وآمن عند هبوب الريح/ يمخر الأمواج/ يعبر الأنواء ويعاشرها/ وكالنيلوفر يتحرك عبر مياه بوهيولا/ تلك الأمواج المكسوة بالزبد/ قالت فتاة بوهيولا الحلوة:/ أنا لا أثني على رجل البحر/ البطل الخائض في الأمواج/ فقد تخطف ريح البحر الرجل/ وقد تُكسّر العاصفة المجاذيف/ أنا لا أنوي المجيء/ أنا لن أكون لك صديقة أبدية/ دجاجة تحت إبطك/ فارشة لفراشك/ واضعة لمخدتك". من النشيد الحادي والأربعين جهّز المغنّي الأبدي أصابعه/ غسل إبهامه/ جلس على حجر الفرح/ فوق ربوة فضية على تل ذهبي/ شرع يعزف عزفاً ساحراً/ على معزف من حسك الكراكي/ وقيثارة من عظم السمك/ صار الفرح فرحاً/ وعلت رنّة البهجة/ كانت أسنان الكراكي ترنّ/ وذنب السمكة يئنّ/ كان الأزلي فاينا يعزف/ ولم يكن في الغابة/ من يجري على أربع، ويعدو بساقيه/ إلاّ وأتى لينصت/ كانت السناجيب تتواثب من غصن إلى غصن/ وبنات عرس تتلفّت وتربض على الأسيجة/ ولم يكن كائن، حتى ولا في الماء/ ممن يسير بست زعانف/ إلا وقدم للاستماع/ سبحت كلاب البحر بحركات متساوية/ وأسرع السلمون من الجزر/ والشبوط من الأعماق/ وصغار السردين، وسمك البني/ جميعاً تقدموا، بعضهم بمحاذاة بعض/ إلى أجمة القصب/ وعلى الشاطئ اصطفوا ليستمعوا إلى فاينا/ أما الأخوات بنات سوتكو/ سلفات زوجات قصب الساحل/ فلقد كنّ يمشّطن شعورهن/ ويصففن غدائرهن بفرشاة مقبضها من الفضة/ وبمشط من الذهب/ عندما سمعن عزفاً أخّاذاً/ سقط المشط في الماء/ ضاعت الفرشاة بين الأمواج/ ونسين تمشيط شعورهن/ بل إن سيدة الماء بذاتها/ قامت من الماء/ وجلست على صخرة الماء/ لتصغي إلى عزف فاينا الرائع/ ثم استسلمت في سبات عميق/ نائمة على صدرها/ على سطح صخرة مخطّطة عظيمة". من النشيد الخامس والأربعين يا سيد الهواء، إلى الحرارة تقدم/ إمحُ الشرر المقدس/ واخفض البخار الفائض إلى الأرض/ أطرد البخار الضار/ لكيلا يحترق أولادك/ لكيلا تفسد مخلوقاتك/ وليكن ما أهرقه من ماء/ فوق الحجارة الساخنة/ ليكن عسلاً/ كشراب عسلي يسيل/ ولتتموج بركة من الشراب/ من الموقد الحجري/ لن يأكلونا من دون علّة/ ولن يهلكونا من دون مرض/ وكل من أراد أكلنا من دون علّة/ فلترجع كلماته إلى فمه/ وأمانيه الرديئة إلى رأسه/ وإن لم أكن أنا رجلاً كافياً/ فأوكو نفسه يكفي/ فهو ضابط السحاب الساكن في الغيمة الصيفية/ ومالك الغيم كله/ أيها الإله الذي في الأعالي/ هلمّ، فنحن محتاجون إليك/ لتزيل عنّا هذي الشدّة/ إحمل لي سيفاً من نار/ لأحارب به الأشرار/ وأبعث الآلام إلى طريق الهواء/ أقذفها إلى أقبية حجرية/ لتتألم الحجارة ويحلّ الوجع في الصخور/ ألا فلتكن الأوجاع في هذا الحجر/ وليُقهر ثمة الضرّ الضار/ ولتندفع إلى داخله الآلام الصعبة/ ولتكبس ثمة أيام الضيق/ لكيلا تحاول الهجوم ليلاً/ أو الإفلات من الحجر نهاراً/ يا حاكم السماء/ إبعث من المشرق سحابة/ وسحاباً من الشمال الغربي/ وابعث من المغرب غيمة/ وأمطر العسل/ وأمطر الماء/ مرهماً للأوجاع/ يا خالق تعال فقل القول/ يا قادراً على الكل هلمّ تكلم، وانظر/ إشف بالليل/ وامنح العافية في النهار/ كيلا يبقى مرض واحد في العالم".
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©