الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أنا جنوبٌ يحنّ إلى الشمال

أنا جنوبٌ يحنّ إلى الشمال
12 أغسطس 2015 20:50
اختيار - رضاب نهار حين تقرأ لـ «الطيب صالح» (1929- 2009)، ستمرّ على صفحات تكتبك على الملأ، باحثةً عن أكثر أسرارك عمقاً، وأكثر تناقضاتك تلوناً، لتنشرها ما بين السطور مختبئة وراء شخوصه هو. وكأن قرى «السودان التي يستحضرها بكل خصوصيتها وتفاصيلها الحميمية المعجونة بمياه (النيل)، أصبحت عالمنا الكبير والوحيد، وكأنك أنت بطله الذي على الورق. أدمنت أعماله حكايا بلده الأم على الرغم من أنه عاش معظم عمره بعيداً عن دفئها وروحانيتها، فقضى وقته يستنشقها، جاعلاً نصوصه تفيض بصور شعرية تجسّد تلك المعاني العالقة عند تماس الروح مع العقل، في جسد إنساني حُفرت على مساحاته آثار الزمان والمكان. وتراه يعبر بالخيال حدود الواقع من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب. ويخوض في علاقة عالمنا العربي بنظيره البعيد عنه عبر سفرائه من شخصيات يأكلها التشظي الحضاري إلى أن تستقر أخيراً في رحم الأرض، وأحياناً في قاع «النيل». منحه النقاد لقب «عبقري الرواية العربية»، واختيرت روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» كواحدة من أفضل مائة رواية في القرن العشرين على مستوى الوطن العربي، وجرت ترجمتها إلى الإنجليزية والروسية. ومن أعماله «عرس الزين»، «دومة ود حامد»، «مريود بندر شاه - ضو البيت». نحن هنا لا حاجة لنا بالشعر. لو أنك درست علم الزراعة أو الهندسة أو الطب، لكان خيراً.. *** اللغة التي أسمعها الآن ليست كاللغة التي تعلمتها في المدرسة. هذه أصوات حية، لها جرس آخر.. *** نعم. هذا أنا. وجهي عربي كصحراء الربع الخالي، ورأسي أفريقي يمور بطفولة شريرة. *** نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى، كأني نغمة من دقات قلب الكون نفسه. إنه ليس شجرة سنديان شامخة وارفة الفروع في أرض منت عليها الطبيعة بالماء والخصب، ولكنه كشجيرات السيال في صحارى السودان، سميكة اللحى حادة الأشواك، تقهر الموت لأنها تسرف في الحياة. وهذا وجه العجب. إنه عاش أصلاً - رغم الطاعون والمجاعات والحروب وفساد الحكام. وها هو ذا الآن يقترب من عامه المائة. *** أنت تعرف نظام الحياة هنا. المرأة للرجل، والرجل رجل حتى لو بلغ أرذل العمر. *** الدنيا لم تتغير بالقدر الذي تظنه. تغيرت أشياء. طلمبات الماء بدل السواقي، محاريث الخشب. أصبحنا نرسل بناتنا للمدارس. راديوهات. أوتومبيلات. تعلمنا شرب الويسكي والبيرة بدل العرقي والمريسة. لكن كل شيء كما كان. *** حملت همي إلى جذع نخلة قريبة أسندت رأسي إليه. لا مكان لي هنا. لماذا لا أحزم حقيبتي وأرحل؟ هؤلاء القوم لا يدهشهم شيء. حسبوا لكل شيء حسابه. لا يفرحون لمولد ولا يحزنون لموت. حين يضحكون يقولون: «أستغفر الله» وحين يبكون يقولون: «أستغفر الله». *** خسرت الحرب لأنني لم أعلم ولم أختر. ووقفت زمناً طويلاً أمام باب الحديد. أنا الآن وحدي، لا مهرب لا ملاذ، لا ضمان. عالمي كان عريضاً في الخارج، الآن قد تقلّص وارتدّ على أعقابه حتى صرت أنا العالم أنا ولا عالم غيري. *** إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة، أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر، فثمة آفاق كثيرة لا بد أن تزار، ثمة ثمار يجب أن تقطف، كتب كثيرة تقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العمر، سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جريء. *** أين إذن الجذور الضاربة في القدم؟ أين ذكريات الموت والحياة؟ ماذا حدث للقافلة والقبيلة؟ أين راحت زغاريد عشرات الأعراس وفيضانات النيل وهبوب الريح صيفاً وشتاء من الشمال والجنوب؟ الحب؟ الحب لا يفعل هذا. إنه الحقد. *** أحسست أنني أستسلم لقوى النهر الهدامة. أحسست بساقي تجران بقية جسمي إلى أسفل. في لحظة لا أدري هل طالت أم قصرت تحوّل دوي النهر إلى ضوضاء مجلجلة، وفي اللحظة عينها لمع ضوء حاد كأنه لمع برق. ثم ساد السكون والظلام فترة لا أعلم طولها، بعدها لمحت السماء تبعد وتقرب الشاطئ يعلو ويهبط. وأحسست فجأة برغبة جارفة إلى سيجارة. لم تكن مجرد رغبة. كانت جوعاً. كانت ظمأ. وقد كانت تلك لحظة اليقظة من الكابوس استقرت السماء واستقرّ الشاطئ وسمعت طقطقة مكنة الماء، وأحسست ببرودة الماء في جسمي. كان ذهني قد صفا حينئذ، وتحددت علاقتي بالنهر أنني طاف فوق الماء ولكنني لست جزءاً منه فكرت أنني إذا مت في تلك اللحظة. فإنني أكون قد مت كما ولدت، دون إرادتي. طول حياتي لم أختر ولم أقرر. إنني أقرر الآن أنني أختار الحياة. *** لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى. وإذا كنت لا أستطيع أن أغفر فسأحاول أن أنسى. سأحيا بالقوة والمكر. وحركت قدمي وذراعي بصعوبة وعنف حتى صارت قامتي كلها فوق الماء. وبكل ما بقيت لي من طاقة صرخت، وكأنني ممثل هزلي يصيح في مسرح: «النجدة. النجدة». *** سترحل عن بلدنا غداً، أنا واثق من ذلك، وحسناً تفعل، مالك ولهذا العناء؟ نحن قوم جلودنا ثخينة، ليست كجلود سائر الناس. لقد اعتدنا هذه الحياة الخشنة، بل نحن في الواقع نحبها، لكننا لا نطلب من أحد أن يجشم نفسه مشقة الحياة عندنا. *** أنتم خير أمة أخرجت للناس، لكنكم تضحكون جماعة وتبكون جماعة، وليس فيكم صوت واحد يرتفع منفرداً كآلة «الكمان».. *** كنا مثل سرب عظيم من طيور مذعورة، تفترق وتلتقي، تعلو وتهبط، وتدور بعضها حول بعض، محدثة صراخاً منكراً يصمّ الآذان. في ذلك الضحى كان الماضي والمستقبل قتيلين لا يجدان من يواري جثتيهما أو يبكي عليهما. *** تلك الكلمة «القبول» كان لها وزن عظيم عند محجوب وجماعته، يقولون فلان «مقبول» وفلان عنده «قبول» وذلك أعظم الثناء في رأيهم. ثم أدركوا كأنما فجأة، أن الكلمة لم يعد لها معنى، وأن ذلك الشيء الغامض، الذي يجعل الابن ينصاع لأبيه والمرأة لزوجها، والمحكوم للحاكم، والصغير للكبير قد تلاشى. كأنما أهل البلد قد استيقظوا بغتة من حلم قديم، أو كأنهم استسلموا لحلم جديد. بدأ الناس ينظرون بعيون جديدة فيها عواطف شتى وليس من بينها عاطفة «القبول». *** لقد مات الزرع، ويبس الضرع، وعمّ القحط فأغرق الرخاء، وحبا الشيب فطفا على الشباب، وكان النيل يفيض بين ضفتيه زاخراً موّاراً، يسقي الأرض ويخرج ما في باطنها من الخير، فما عاد يفيض إلا بحساب ومقدار. أتراها الخزّانات التي أقاموها عليه فحجزت الماء؟ أم تراها نبوءة الشيخ ود دوليب تحققت؟ لقد أنذر الناس في يوم من الأيام أنه سيأتي عليهم يوم، يصير فيه اللبن كثيراً تافهاً مثل الماء، وتصير كيلة الذرة بقرشين ويصبح ثمن النعجة ريالين. ولكن الناس كدأبهم أبداً سيضيقون بهذا الخير، وسينهمكون في الغيّ وينسون الله، فيأخذهم الله بذنوبهم. *** كانت عكسي تحنّ إلى مناخات استوائية، وشموس قاسية، وآفاق أرجوانية. كنت في عينيها رمزاً لكل هذا الحنين. وأنا جنوب يحنّ إلى الشمال والصقيع.. *** سرني أنها تضحك بسهولة. هذه السيدة، نوعها كثير في أوروبا، نساء لا يعرفن الخوف، يقبلن على الحياة بمرح وحب واستطلاع. وأنا صحراء الظمأ، متاهة الرغائب الجنوبية. *** وأحسست بها تبكي في صمت، ثم ارتفع بكاؤها، وتحول إلى شهيق حاد، ارتعش له الظلام القائم بيني وبينها. ضاع العطر والصمت، ولم يعد في الكون إلا نحيب امرأة ثكلت زوجاً لا تعرفه، رجلاً أفرد أشرعته وضرب في عرض البحر وراء سراب أجنبي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©