الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مراهقة فوق الخمسين

مراهقة فوق الخمسين
11 نوفمبر 2010 20:42
انتقلت من حرمان ومشاكل في بيت أبي إلى أكثر من ذلك في بيت زوجي، لم تكن الأوضاع أحسن حالاً، بل هي أسوأ فالحياة الأولى يسيطر فيها الأب المتعجرف على كل مقدرات الأسرة، نموذج بشع للقهر والاستبداد لا صوت فوق صوته ولا كلمة في وجوده، والكبت والقهر جعلانا قنابل موقوتة على وشك الانفجار، لم يعد أحد قادراً على التحكم في فتيل الأمان، ليس من حق أحد أن يختار أي شيء مهما كانت خصوصيته، وكل ذلك بحجة التمسك بالعادات والتقاليد والمبادئ، وبدعوى التربية، وحتى التعليم لا مجال فيه للالتحاق بما يناسب ميولنا ورغباتنا، ولا ما يتفق مع مجموع درجاتنا في نهايات المراحل التعليمية، المهم أنني حصلت على شهادة جامعية، ووجدت من يطلب يدي بعد أن التحقت بوظيفة جيدة، وكما كانت حياتي من قبل، لم يكن لي أيضا حق الاختيار ولا حتى إبداء الرأي في الرجل الذي سوف أقضي معه بقية عمري ويشاركني كل ماهو آت. تقدم لأبي ووافق عليه من دون الرجوع إليَّ، وأخبرتني أمي بما يحدث، ورغم أنني لم تكن لي تحفظات على العريس فقد كان بيني وبينه حاجز نفسي، بسبب الطريقة التقليدية التي تقدم بها لطلب يدي والأدهى والأمر أنه في فترة الخطبة القصيرة التي لم تستغرق إلا ثلاثة أشهر لم يحاول أن يتقرب مني ويعرف عني أي شيء، أو يعرفني عنه أي شيء، ولم يكن هناك مجال للرفض لأن ذلك ليس من حقوقي ولا صلاحياتي، وليس أمامي أي بديل ولا سبب أبديه حتى وإن كان نصف مقنع. منيت نفسي بأحوال أفضل ومستقبل مختلف مع هذا الرجل المجهول وما حدث لم يكن في الحسبان ولا حتى في الخيال، فقد وجدتني مع زوج كل همه في الحياة العمل وجمع المال من هنا وهناك، لا مكان لزوجته في حياته ولا اعتبار، تجاهل وجودي تماماً، وكان نسخة أخرى من شخصية أبي، فلا أعرف ماذا يفعل ولا ماذا يعمل ولا أين كان وفوق هذا وذاك ليس من حقي أن أتجرأ وأسأل أي سؤال، ثم مالا تطيقه أي زوجة، أنني لا نصيب لي في مشاعره المتجمدة التي لا تتغير حالتها الصلبة أبداً إلا إذا ازدادت صلابة وجمودا، ولا أنكر أن ذلك كان يسبب لي آلاماً نفسية وجسدية، وقد فشلت فشلاً ذريعاً في لفت انتباهه لذلك، لم يكن لديه أي استعداد ليسمع مني أي كلام مهما كان، حتى أنني توقفت عن الاتصال به في الهاتف، لأنه في كل مرة يرد بكلمات مقتضبة معدودة كأنه يدفع ثمنها، كأنه مشغول بما لا يتيح له أن يجيب على اتصالاتي ولا يمنحني الفرصة ليعرف لماذا اتصلت به. لم يغير مجيء ثلاثة أطفال ما بيننا، حتى هؤلاء لم يشعروا بحنان الأبوة عنده، وقد تحملت احتياجاتهم ومسؤولياتهم، كنت الأب والأم في نفس الوقت، وبجانب الراتب الكبير الذي أتقاضاه، لم يبخل زوجي علينا بأمواله وكانت تلك مفارقة غريبة في شخصيته، وعندما ناقشت ذلك معه، كانت حجته في إهماله لنا أنه لا يفعل هذا كله إلا من أجلنا، ولا يدرك أنه بذلك يبخل علينا بما هو أهم وهي المشاعر والأحاسيس والرعاية، عاهدت نفسي على أن أحقق لأبنائي ما لم أستطع تحقيقه لنفسي وهذا في حد ذاته أسمى أهداف حياتي، وقد يعوضني عما عانيته في الماضي والحاضر. انغمست في هذه المهمة التي كلفت بها نفسي، نذرت لها كل جهدي ووقتي، وأفنيت فيها شبابي حتى تخرج الأبناء في الجامعات وحصلوا على وظائف مرموقة، واستقل كل منهم بمسكنه الخاص ثم تزوجوا وكل هذه السنين لم تستطع التقريب بينهم وبين أبيهم لأنهم طوال أعمارهم لم يشعروا بأي اثر له في حياتهم، حتى أنه لم يعرف، في أي سنة دراسية هم، ولا كيف اختاروا وظائفهم ولا مساكنهم ولا زوجاتهم ولا أبالغ إذا قلت إن الغرباء كانوا يعرفون عنهم أكثر مما يعرف، بل هو لا يعرف شيئا. فجأة وجدتني تخطيت الخمسين، وبعدما أنجزت مهمتي الكبرى أصبحت في فراغ شديد، فالأولاد كانوا يشغلون وقتي واهتمامي، والآن ليسوا بحاجة لي ووجهت كل طاقتي لعملي، والجميع يشهدون لي بحسن الخلق والتفاني، وقد ترقيت في وظيفتي وأصبحت من ذوي الشأن، أتعامل مع أشخاص في مواقع حساسة، ولم يكن ما مضى هو المشكلة وإنما ما هو آت، إذ ظهر لي من بين هؤلاء رجل يكبرني بعشر سنوات، وهذا الظهور لم يكن حديثاً ولكن الذي استجد من أحداث هو الذي جعل بيننا بداية جديدة، فأنا وهو نتبادل الاحترام والتعامل الرسمي في حدود المعاملات التي تربطه بالشركة الكبرى التي أعمل بها، واعتاد على مدى عشر سنوات إنجاز معاملاته، وهذه المرة أصابتني أعراض مرضية أقعدتني في السرير لم أستطع معها الذهاب إلى العمل، وبالتالي لم أذهب إلى هذا الرجل في الوقت المحدد لإنجاز معاملاته، ولأنني أعرف مدى حرص رجال الأعمال على الوقت والمال حرصت على الاتصال به والاعتذار له عن عدم الذهاب، وقد تقبل الرجل العذر بصدر رحب مع الكثير من الدعوات لي بالشفاء والعودة سريعاً، إلا أن ما لم أحسب له حساباً أن الرجل التقط رقم هاتفي واحتفظ به وفوجئت به يعاود الاتصال ليطمئن على صحتي، وهذا ما لم يفعله زوجي الذي يشاهدني كل يوم بأم عينيه، بل إن هذا الرجل اتصل مرات ومرات ليدلني على الأطباء المتخصصين في مثل حالتي، وأيضاً لم يفعل شريك حياتي شيئاً من ذلك، ولا حتى أبدى تأثره بما أنا فيه، هنا شعرت بالفارق الكبير بين زوجي وهذا الرجل الغريب الذي واصل اتصالاته خارج نطاق العمل ورغم أنني لست مراهقة وتخطيت الخمسين وهو تخطى الستين ولم تعد في رأسه شعرة واحدة سوداء، فإنني لأول مرة في حياتي تهتز أوتار قلبي وتطرب لكلمات الغزل، فقد وجد إليَّ مدخلاً من خلال الاطمئنان على صحتي، وأعترف بأنني كنت أنتظر اتصاله، علمت وتأكدت أنه لا يوجد عمر محدد لتحريك المشاعر وإنما في أي سن، ولكن بما يناسبها إلى هنا لم تصدر مني كلمة خارجة ولا حتى إعجاب به، وإنما أرد على كلماته دائما بالشكر والامتنان على اهتمامه وشهامته، لأنني لا أنسى أنني في سن أنتظر فيها أحفاداً، وعلى وشك أن أصبح جدة، لذا فأنا حريصة على أن تكون تصرفاتي مناسبة لكل ذلك. انتهى العارض المرضي وعدت إلى عملي أزاوله كالمعتاد لكن هذا الزائر الذي ظهر في طريقي لم يتوقف عن اتصالاته، بنفس الحجة تارة وبحجة العمل تارة أخرى ولتقديم التهاني في المناسبات التي كان يختلقها وفي الأعياد، ولم أبد صدوداً من ذلك لأن الرجل لم يخرج عن حدود الأدب واللياقة، أحياناً أرى فيه - مع الشيب الذي يغطي رأسه - الأبوة المفقودة والأب الذي افتقدته ومع الحنان ودفء الكلمات، أجد فيه مشاعر الحب التي لم أجدها عند زوج هو مجرد خيال يتحرك في البيت كأنه وهم أو ظل بلا تأثير، كل ذلك جعلني أنجذب نحو هذا الرجل الذي حرك داخلي الإحساس المفقود بالأنوثة، وأشعرني بحاجتي إلى رجل يملأ فراغ حياتي، أعتمد عليه في الشؤون التي يجب أن يقوم بها الرجال، لا كما حولني زوجي إلى «رجل» أتحمل مسؤولية البيت والأطفال من الألف إلى الياء، بينما سحب يديه من كل ذلك معتقداً أنه بتقديم المال لنا ينتهي دوره. لا أبالغ إذا قلت إنني لم أشعر بنفسي وأنا أستجيب لدعوته على الغداء أو العشاء أو الخروج في نزهة ولم لا والرجل لم يحاول على مدى سنتين أن يلمس يدي فهو يعرف تماماً أخلاقياتي، وأنا أثق بالتزامه، لذا لم أفترض أبداً سوء النية في كل ما يحدث بيننا، وذلك جعلني لا أتردد في التحرك معه والظهور في أي مكان لأن كل الأماكن التي نذهب إليها عامة، ونحن أمام العيون وأعلن على الملأ أنني ممتنة له لأنه يقدم لي ما افتقدته في الطفولة والصبا في بيت أبي، وفي الشباب والكهولة عند زوجي، يعوضني عن الحرمان ويجعلني أشعر بذاتي وشخصيتي التي تم إلغاؤها كل هذه السنين، إنها عودة حقيقية مرة أخرى للحياة، فأنا آتية من موات، ومن حقي أن أعيش كما يحيا الآخرون من حولي. ثقتي المفرطة بالرجل الوقور، جعلتني أتغاضى عن أشياء كثيرة وربما أتنازل عن حقوق اكتسبتها منه بعدما كانت مفقودة، ومنها أنني أترك له الاختيار كلية فيما سنفعل أو اختيار المكان الذي سنذهب إليه، وحتى الطعام الذي أتناوله، حتى جاءت الصدمة، وكانت الطامة الكبرى وجاءت نتيجة هذا الاستسلام، أنني ذات مرة وجدت نفسي معه وحيدين في شقة أحد أصدقائه، أفقت على هذه الصدمة، لأنني ما كنت لأسمح لنفسي بأن أكون في هذا الوضع المشين الذي لا تقبله أي حرة وأي زوجة وأي امرأة ملتزمة، لم أتردد لحظة في إعلان ثورة الغضب، شجبت ورفضت واستنكرت، احمر وجهي وانتفخت أوداجى، شعرت بخطر شديد أكاد أخسر كل شيء ويسقط كل ما بنيت واتخذت قراري الحاسم بأن نغادر هذا المكان على الفور، لابد أن أحبط مخططه الخبيث، وأن رفض، فسألقي بنفسي من النافذة قبل أن تمتد يده إليّ المهم أن قناع الرجل قد سقط من على وجهه، وظهر الوجه الحقيقي لهذا الثعلب الماكر الذي يجيد فن الصيد بذكاء، إنه تماماً مثل النصاب المحتال الذي يجعلك تقسم عليه وتتوسل إليه أن يأخذ أموالك وهو يدعي الرفض، وكان لي ما أردت وعدت إلى بيتي. لم أصدق ما حدث فما أنا بفتاة طائشة في العشرين ولا مراهقة تغريها كلمات الحب ولا أريد التجريب ولا قضاء وقت مع الرجال كيف وأنا مثال الالتزام في حياتي كلها؟ في الحقيقة لم يكن الخطأ إلا مني ولا ألوم إلا نفسي، فمهما كان الرجل لا يجب أن أتصرف هكذا ولا أفعل ما فعلت ولم أجد لي مبرراً، أنني احتقر نفسي لدرجة أنني بكيت كثيراً بل بصقت على وجهي وأنا أنظر في المرآة رغم أنه لم يحدث بيننا ما يشين لكن كان سيحدث بسبب هذه التصرفات الصبيانية التي أقدمت عليها، ويا ترى ماذا كان يحدث لو أنه كان في تلك اللحظات وحشاً وأمتهن كرامتي؟ إنني لا أقبل مجرد لمسة من رجل غريب وعدت إلى قوقعتي وعزلتي مرة أخرى، لكن الرجل لم يكف عن اتصالاته وعاد مرة أخرى يطاردني ولا يخفي وجهه القبيح وهو يروي لي مغامراته مع زميلة لي حتى تأكدت من صحة ما يقول، والغريب في الأمر وما لا أجد له تفسيراً أنني شعرت بالغيرة عليه من هذه المرأة، رغم أنني أرفض العودة إليه بكل السبل ولا حتى مجرد الكلام ولا إنجاز المعاملات كما كان يحدث في الماضي. تساءلت لماذا لا أعيش هذه المشاعر مع زوجي خاصة أنه لم يعد أمامه مبرر لكل هذا الانغماس في العمل بعدما تخرج الأبناء واستقروا في وظائفهم وبيوتهم، حاولت أن ألفت نظره بالزينة في المنزل فلم ينتبه فقررت أن أتحدث معه فإذا به يستنكر كلامي ويصفني بأنني لا أعيش ما يناسبني واستغرب كيف لزوجين مثلنا أن يفكرا في الرومانسية وهما جدان، رأيت نفسي في عيني صغيرة وشعرت بانكسار لأنني خسرت كل المعارك. أنا لا أبحث عمن يواسيني في هذه المحن والإخفاقات ولا أبحث عن حلول لمشكلاتي وإنما أردت أن أقدم الدروس المستفادة من هذه التجربة التي أعتبرها نموذجاً للمعاناة المستمرة، وبحكم خبراتي الحياتية أعتقد أنني كنت في وقت من الأوقات حسنة النية اكثر من اللازم وتعاملت مع رجل غريب بما لا يليق ولا يصح، وتعلمت أن المشاعر لا ترتبط بمرحلة عمرية معينة وإنما تتحرك في أي سن طالما في الصدر أنفاس ولا يجوز أن نصحح خطأ بخطأ ولا فرق في التعامل بين رجل وامرأة غريبين في أي وقت وفي كل حين، ولا صداقة بينهما بأي شكل ولا تحت أي مسمى أو مبرر، أما الحلول فقد وجدتها في أن أعيش حياتي من البداية بأن أبدأ من جديد اللعب مع أحفادي.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©