الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تأملات في رحلة الحج

تأملات في رحلة الحج
11 نوفمبر 2010 20:45
إن المتأمل في فريضة الحج وما اقترن بها من نسك ومشاعر يجدها عملة ذات وجهين؛ وجه يعبر عن المبنى وهو ظاهر الأركان والنسك، ووجه يعبر عن المعنى وهو الحكم والمفاهيم الروحية التي يَسبر كنهها عقل الإنسان، ويستشعرها بصفاء نفسه، فإذا كان الحج في مبناه الظاهري قصد وزيارة لبيت الله الحرام، فإنه في معناه برهنة الإنسان على عبوديته لله عز وجل. إذ الحاج في مختلف النسك والشعائر من طواف، وسعي، وغير ذلك يتسلم هذه النسك منطلقاً من عبوديته لخالقه ومولاه مستسلماً لما شرع الله تعالى في تلك الشعائر حتى وإن غابت عن عقله، حكمة ما يقوم به من أعمال ونسك رائده في ذلك ما قاله الحق سبحانه وتعالى في حق خليله عليه السلام « إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ»البقرة 131-132 ومن ثم فاستسلام الحاج وانقياده لما أمره الله به في شعائر الحج ونسكه إنما هو نوع من الاستسلام الذي سرى فيه من إيمان الخليل عليه السلام، وكأنه يقول لربه «إلهي أسلمت لحكمك ثقة في حكمتك» وهو بهذه الكلمات يقنع العقل بالعقل، ويفتح آفاقه بصفاء النفس وشفافية الروح. إن الحاج عندما خرج من بيته في رحلة قدسية إلى ربه هو في حقيقة هذه الرحلة إنسان يلبى نداء الله الأزلي الذي أجراه على لسان الخليل عليه السلام حينما رفع القواعد من البيت، وأوحى الله تعالى إليه: أن يا إبراهيم أذن في الناس بالحج. فقال الخليل عليه السلام: يا رب، وما يبلغ صوتي. فقال عز وجل لخليله عليه السلام: يا إبراهيم عليك النداء وعلينا البلاغ. فوقف إبراهيم على مشارف بيت الله الحرام يهتف في أذن البشرية: «يا أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا. فأجابه الوجود ملبياً هذا النداء. ومن ثم كانت رحلة كل إنسان إلى بيت الله الحرام تلبية لهذا النداء الإبراهيمي الأزلي، وارتفاع الأصوات بقولها «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» هي رد على ذلك النداء، وتعني في حقيقتها أن الحاج قد لبى النداء الذي أمر الله به نبيه وخليله عليه السلام، ثم جاء بنفسه وذاته ليأتي بأعمال يؤكد بها تلبيته لذلك النداء ويبايع من خلالها ربه بالإخلاص في العبودية والخضوع المطلق لكافة أحكام الله عز وجل . وإذا كان الحاج يتخلى عما اعتاده من ملابس محيطاً جسده بلباس الإحرام وهو رداء أبيض بسيط فإنه يتمثل في ذلك بساطة الرداء الذي كان على جسد الخليل وابنه إسماعيل عندما كانا يرفعان القواعد من البيت، وهو في الوقت ذاته يعلن الانخلاع عن لباس الدنيا إلى لباس الموت والآخرة الذي يكون في بساطة رداء الإحرام، ولعل في لونه الأبيض إشارة إلى ذلك الميلاد الجديد الذي يتحصل عليه الإنسان جزاءً على حجه المبرور إن شاء الله، وإذا وصل الحاج إلى مكة ثم دخل بيت الله الحرام طائفاً حول الكعبة المشرفة فإنه يحاكى بذلك الطواف الذي قام به إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام تأكيداً وتوثيقاً لعهد الله تعالى لهما وامتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه ابن حبان «استكثروا من الطواف بالبيت فإنه من أجَل شيء تجدونه في صحفكم يوم القيامة وأغبط عمل تجدونه» . وإذا ما سعى سبعاً بين الصفا والمروة فإن الحاج بذلك يحاكى هاجر عندما كانت تبحث عن الماء لها ولوليدها. وإذا ما ذهب الحاج إلى منى لينحر قربانه فإنه يعيد هنا صورة التاريخ حين استعد إبراهيم لنحر ابنه إسماعيل استسلاماً لأمر الله تعالى، وإذا ما توجه الحاج لرمى الجمرات فهو يكرر بذلك فعل إسماعيل عندما أراد الشيطان أن يغويه لمخالفة أباه، فرجمه بحصاة ، ثم يكون التتويج الأعظم في ذلك المشهد المهيب الذي يجتمع فيه الحجاج في صعيد واحد يرجون من الله تعالى رحمته، ويخافون عذابه، تعلو حناجرهم بلبيك اللهم لبيك، وذلك في صعيد عرفه ليكون تجديد العهد بالعبودية لله تعالى والتأسي بأولئك السابقين السابقين من الأبرار الأخيار من لدن إبراهيم إلى محمد عليه الصلاة والسلام ليكون بعد ذلك الجزاء الأوفى الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم «حجة مبرورة خير من الدنيا وما فيها، وحجة مبرورة ليس لها جزاء إلا الجنة» . وما أخرجه ابن حبان عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الحجاج والعمار وفد الله عز وجل وزواره إن سألوه أعطاهم، وإن استغفروه غفر لهم، وإن دعوا استجيب لهم، وإن شفعوا شفعوا». هذا الجزاء الأوفى يهبه الله سبحانه وتعالى للإنسان على قدر نيته بشرط الصدق فيها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام البيهقي «من خرج من بيته حاجاً أو معتمراً فمات أجرى له أجر الحاج المعتمر إلى يوم القيامة» . د. محمد عبد الرحيم البيومي كلية الشريعة والقانون جامعة الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©