السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإصلاح الديني.. والمجتمع المفتوح

الإصلاح الديني.. والمجتمع المفتوح
21 يناير 2015 21:34
يقولون لنا، إنّ دائرة من يسفكون الدماء باسم الله ضيقة جداً، ومحصورة في أضيق نطاق، وتضم على الأرجح قلة قليلة من المنحرفين المتسكعين على الهامش، هامش التاريخ وهامش الجغرافية. فنقول: قد يكون الأمر كما يقولون، لكن -هنا المسألة- دائرة من يبررون الجريمة، دائرة من يخلطون الأوراق فيدينون الضحية والجاني معاً، دائرة من يحملون الضحية وزر الجريمة، دائرة من يشجبون على طريقة «إننا نشجب ولكن..»، دائرة من يُرددون بعد كل عنف يُقترف باسم الشّريعة القول إنّ الشريعة - والتي ليست سوى شريعة الفقهاء في آخر التحليل- صالحة لكل زمان ولكل مكان، وإنّ الخطأ محصور في التطبيق، دائرة من يعتبرون الجهاد -بمعنى القتال بل القتل أحياناً- فرض عين على كل مسلم، أو فرض كفاية على أقل تقدير، دائرة من يظنون بأنّ العالم يحسدهم لا على شيء سوى على نعمة الإسلام، وأنّ الناس جمعوا لهم في السر والعلن بلا سبب يُذكر سوى لأنهم يملكون «السر»، دائرة من يحبسون أنفاسهم بأنفسهم و»يحسبون كل صيحة عليهم» فيولولون ليلا ونهاراً ويملؤون الدنيا عويلا، دائرة من يخلطون الدين بغرائز الذكورة البدائية، غرائز الغيرة والحمية والفحولة ووصاية القطيع على الإناث، أي نعم، دائرة هؤلاء ليست ضيقة ولا هي على الهامش. وهذا ما نقصده حين نتحدث عن البيئة الحاضنة. بمعنى، إن ما تفعله داعش والنصرة وبوكو حرام وأنصار الشريعة قد يكون محصوراً في المكان - وإن كان في هذا نقاش- لكنه يستمر وقد ينتشر بفعل وجود بيئة ثقافية حاضنة. معركة نقدية لعلّ الهدف واضح الآن، معركتنا ليست مجرد مواجهة أمنية ضدّ جماعات متطرفة هنا أو هناك، بل إنها فوق ذلك معركة نقدية وتثقيفية ضدّ الثقافة المنتجة للتطرّف، ضدّ البيئة الثقافية المنتجة لقيم الحقد والكراهية والتعصب. تلك أولوية الأولويات بالنسبة للأمن المحلي والإقليمي، وكذا بالنسبة للسلام العالمي أيضاً. ولا نشك قيد أنملة في أن الأولوية ستبقى على ذلك المنوال خلال سنوات قد تطول. لقد شوهنا أنفسنا بما يكفي، دمرنا، خرّبنا، قتلنا، ذبحنا، أحرقنا، وأوشكنا أن لا نترك حجراً على حجر. والآن، أمامنا هدف آني. ما هو؟ يجب على المجتمعات المسلمة أن تنتقل من طور «المجتمعات المغلقة» إلى طور «المجتمعات المفتوحة» بالمعنى البوبري (نسبة إلى كارل بوبر). إن أساس العنف الوجداني هو الخوف الوجودي، الخوف الوجودي من الآخر، والتوجس الوسواسي من المختلف، بل حتى العلاقة مع الله أصبحت قائمة على الخوف. والخوف كما نردد دوماً يعلم الناس أخلاق العبيد، أخلاق الحقد والكراهية والنفاق. على أن الخوف الوجودي ينبع من الغلقة العقائدية المستحكمة في الموقف من الوجود والطبيعة والإنسان، قبل أن تنعكس تلك الغلقة العقائدية على مجال الموقف من المرأة والجسد والأقليات والغرب والفن والجمال. لذلك، ليس هناك من مسار خطي، أو صراط مستقيم يقودنا من تقاليد البداوة الرّاسخة في ثنايا أقوالنا وأفعالنا، وكلماتنا وكتماننا، إلى عصر السلوك المدني القائم على قاعدة احترام دولة الحق والقانون، لكن أمامنا مسارات متعددة ومتساوقة. ولأننا مجتمعات تغلب عليها الحمية الدينية، بحيث أصبحنا نخاف على ديننا خوفاً مرضياً، كما لو أنه واهن الحال آيل إلى الزوال، فإن أساس الإصلاح سيمرّ بالضرورة عبر تغيير المفاهيم والتصورات السائدة حول الدين نفسه، عسانا نجعل ديننا أكثر رسوخاً فلا نصرخ في كل مرة، وا إسلاماه ! وا إسلاماه ! وهذا رهان ممكن في كل الأحوال. ثمة ورشات عمل كثيرة تنتظرنا وتشمل تغيير الخطاب الديني في المساجد والمدارس ووسائل الإعلام لغاية إنجاز القطيعة مع مفاهيم القدامة الدينية، من قبيل مفاهيم الولاء والبراء والطاعة والجماعة والفرقة الناجية إلخ. ذلك أن أساس الانغلاق الاجتماعي والفكري والسياسي والفني هو الغلقة العقائدية نفسها والتي تمثل عائقاً كبيراً أمام تحرير الأذهان من سطوة الجمود التعصب. أي نعم، الإصلاح الديني أولاً، والباقي تفاصيل. أثر الخميني والسؤال الآن، كيف ننتقل من مجتمعات مغلقة انغلاقاً عقائدياً، مذهبياً، طائفياً، إلى مجتمعات مفتوحة تتواصل وتتفاعل مع ذاتها، بل ذواتها، ومع العالم المعاصر؟ بأي سِفر من الأسفار نضمن الخروج من ثقافة «الجماعة الناجية» إلى عهد المسؤولية الفردية؟ بمعنى، كيف نصنع من أنفسنا مجتمعات مفتوحة؟ لا بأس أن نتذكر هذا ونذكر أيضاً : مباشرة عقب انتصار الثورة الإيرانية، جرت أوّل انتخابات حرّة، كان ذلك إنجازاً ثورياً بكل المقاييس، لكن ما الذي حدث؟ فاز التيار الليبرالي بقيادة الحسن بني صدر، وسرعان ما انقلب عليه التيار الخميني بدعوى حماية الثورة. وحتى نربط السابق باللاحق، مؤخراً، كاد السيناريو الإيراني يتكرر في أكثر من بلد، حين ابتغت تيارات كثيرة احتكار الثورة بدعوى حمايتها. لكن المؤكد أنّ الثورة لا تحتاج إلى حماية، بل لن يكون شعار حماية الثورة سوى خيانة للثورة نفسها؛ لأنّ المنطق الداخلي للثورة أن تكون الثورة متجددة غير متجمدة، مستمرة غير مستقرة، متغيرة غير متحجرة، بل ومنقلبة على نفسها إذا اقتضى الأمر ذلك. الإبداع المتواصل سمة المجتمع المفتوح أيضاً. وليست الثورة نفسها سوى إطلاق للعنان لطاقة الإبداع بعيداً عن كل الرهانات الجامدة. ليست الثورة هدفاً سامياً في حد ذاته، لكنها مجرد فرصة لاستئناف الصيرورة التي هي قدر الوجود، إنها انتفاضة على كافة أشكال الحجر والتحجر، واطلاق العنان لطاقة الحياة وقوة الإبداع. هذا ما ترفضه كل الإيديولوجيات، حتى ولو ادعت الثورية في لحظة من اللحظات، وعلى رأسها الإيديولوجيات الدينية. لكن، ما علاقة هذا بالثورة الإيرانية؟ كان الحسن بني صدر قارئا نهما لكارل بوبر، وكان يجول بكتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» أثناء تفقده للمقاتلين الإيرانيين إبان الحرب الإيرانية العراقية. غير أن الحرب نفسها –وحتى لا ننس هذا- تبقى عاملا أساساً في انقلاب المجتمعات المفتوحة إلى مجتمعات مغلقة. كاد يحدث هذا حتى في أميركا إبان فترة بوش الإبن وحكاية المحافظين الجدد. وقتها أيضاً ناضل الفيلسوف الأميركي الثري جورج سرورس من أجل الدفاع عن المجتمع المفتوح كما يتصوره كارل بوبر. تماماً كما يناضل الكثير من اليهود ضدّ الطابع المغلق الذي يهدد المجتمع الإسرائيلي. فماذا عن إيران؟ استغلّ المحافظون الخمينيون أجواء الحرب الإيرانية العراقية وانقلبوا على حكومة الحسن بني صدر، وأجهزوا على فرصة بناء المجتمع المفتوح. ليس هذا فقط، بل لقد ساهمت الإيديولوجية الخمينية نفسها في ربط الإسلام السياسي بالمجتمع المغلق. وكان طبيعياً أن لا يزيد الإسلام السياسي مجتمعاتنا إلاّ انغلاقاً. واليوم، لربّما هناك وعي جدي بالحاجة إلى نقل مجتمعاتنا من طور المجتمعات المغلقة إلى طور المجتمعات المفتوحة. ولعل ذلك –كما قلنا- أولوية للسلام العالمي أيضاً. وتبقى هناك ثلاث جبهات للمقاومة الفكرية، قد نعود إليها لاحقاً بالتحليل والتفصيل : أولاً، مقاومة ثقافة الكراهية؛ ثانياً، مقاومة ثقافة الخوف؛ ثالثاً، مقاومة ثقافة الموت. ثورة مقنعة إن نظام التصويت الذي تقوم عليه الديمقراطية الحديثة، ليس هو في معناه الاجتماعي إلا ثورة مقنّعة. والانتخاب هو في الواقع ثورة هادئة، حيث يذهب الناس إلى صناديق الانتخاب كما كان أسلافهم يذهبون إلى ساحات الثورة، فيخلعون حكّامهم أو يستبدلون بهم حكّاما آخرين. والحكومة التي لا تدرّب رعاياها على اتّباع طريق الثورة السلمية الهادئة، ستجابه من غير شكّ ثورة دموية عنيفة في يوم من الأيّام. د. علي الوردي، عالم اجتماع عراقي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©