الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إلا نجيب محفوظ!

إلا نجيب محفوظ!
25 يناير 2015 09:48
تستطيع أن تنتقد جمال عبد الناصر، وفريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ، ووردة، وصباح، ونزار قباني، والجواهري وسليم بركات وماجدة الرومي والكثيرين، لكنك ستؤثّم بشدة، وتبدو غير مثقف أو يتم التشكيك بذائقتك، إن انتقدت أحد هؤلاء الأربعة: فيروز اللبنانية، درويش الفلسطيني، والمصريان: أم كلثوم، ونجيب محفوظ. الكتّاب المصريون حوّلوا نجيب محفوظ الى رمز وطني، أن تنتقده يعني أن تمسّ السيادة المصرية، وتشكك بالأدب المصري عموماً. حسناً، أنا لا أستسيغ نجيب محفوظ. ولكن لماذا أتحدث عنه اليوم، وأعتبره الاستثناء؟ طبعاً، الحديث عن محفوظ اليوم، هو متابعة الجدل الدائر حول جائزة نوبل، والتساؤل شبه الوجودي: أين حصة العرب من نوبل؟ هنا، ينبغي الحديث عن محفوظ، الذي لا أستسيغه شخصياً، للإقرار باستثنائية نجيب محفوظ في العالم العربي على الأقل. خبرة شخصية بداية، بعض السردية السريعة عني ككاتبة وقارئة. لم أبدأ قراءاتي بالأدب العربي، لا أعرف السبب بدقة، فيما إذا كانت «كرديتي» حائلاً في بداياتي بين لاشعوري الرافض لقوننة الأدب في لفظة (العربي) أو أنني قرأت سريعاً بعض التجارب التي نفّرتني من الأدب العربي، حيث كانت مكتبة المدرسة تفرض علينا القراءة. كانت معلمة اللغة العربية تجبرنا على استعارة الكتب من المكتبة، وكانت (أمينة المكتبة) حسب وصفها المهني، تشبه الممثلة ملك الجمل، قاسية، متجهمة، مؤنبة. وكان دخولي إلى المكتبة يشبه الدخول إلى الثكنة العسكرية، الشعور الذي أستطيع وصفه، حتى وإن لم أختبر حياة الجيش، لكن مدربة التربية العسكرية، لم تحرمنا من تلك الخبرة! أمينة المكتبة التي تبتسم مصادفة، حين تقتني إحدى الطالبات كتاباً، فيحلّ الرضا. وهكذا، كان عليّ الخضوع لاختيارات أمينة المكتبة، في استعارة كتب مملّة، عليّ أن أشيد بها، وأكتب ملخصات عنها لمعلمة اللغة العربية، أصف فيها أهمية القراءة والفوائد الجمّة التي حصلت عليها في هذا الكتاب، الذي قتلني من الملل، ولا يحق لي نقده، والقول بأنه كتاب ممل. أمينة المكتبة، ستختار طبعاً الكتب اللائقة بالبنات، قصص مملة، ذابت في غرامها فتيات الجيل السابق. حين وقعت فجأة، بمحض اختياري، من دون ترشيح أو اقتراح من أحد أكبر مني، على نيتشه أولاً، ثم سارتر وكامو، وتولّعت بالأدب الغربي المُترجم إلى العربية، حدث ذلك الطلاق بيني وبين الأدب العربي. ودخلت في دائرة التأثيم، ليُقال لي بلهجة مخيفة: معقول لم تقرأي طه حسين؟ يا إلهي، ولا حتى توفيق الحكيم؟ كنت أحمّر خجلاً وكأنه ألقي عليّ القبض في جريمة مشهودة. أعادني سليم بركات إلى القراءة العربية. مهلاً، هل يعد الرجل من كتّاب العربية؟ فتنتني لغته الشعرية المعقّدة، وأنا مهووسة بالصعوبة. رحت أقرأ « الكراكي» بشكل يومي، وأتبحّر في عوالمه السردية، فألتهم كل ما كتب. ولأنني دخلت عالم الكتابة، كان عليّ، من باب الواجب المهني، قراءة الأدب العربي. عودة عربيةعدت إلى البدايات التي تجاوزها أبناء وبنات جيلي، لأقرأ حيدر حيدر، جبرا إبراهيم جبرا، الطيب صالح، حنا مينة، غادة السمان، عبد السلام العجيلي... ونجيب محفوظ. إن ما وقع لي، حصل عكس زملائي وزميلاتي في الكتابة. تأسس وعي النقدي على كتابات سارتر وبروتون وكافكا الذي عشقته وتماهيت معه، وفرويد ويونغ، ولم يعد يرضيني الأدب العربي. ألأنه أقل مستوى؟ بل لنقص التحليل، وفائض الإنشاء. لم أستطع تعديل ذائقتي التي انشغلت بالتشكيك، لأقبل يقينية الكتابة العربية. بعد رحلة المجون مع التشكيكي كولن ولسون، واعترافات جريئة، لم أستطع تقبل الأدب العربي المؤدب. لكنني تورطت أكثر في الأدب العربي، أنا كاتبة، مكاني هنا، ولن يعترف بي الغرب أبداً، وإذا أردت مكاناً لي في الأدب، مكاني هنا: في الأدب العربي. لن أنكر استمتاعي بجبرا، وتوقّفي لدى بعض التجارب العربية، كالطيب صالح، والأدب المغربي المُترجم خاصة، أي المكتوب بالفرنسية، كرشيد بو جدرة مثلاً. كاد أحد الكتّاب اللبنانيين أن يصفعني حقداً، حين نما له صديق سوري لي، في حفل توقيع انوجدت فيه مصادفة في مكتبة باريسية يملكها صديق مشترك، لأنني لم أسمع به، وقال لناشر صديق وُجد في المكان: هذه الكاتبة التي لم تسمع بي من قبل، عليك بمعاقبتها وعدم النشر لها مطلقاً. كان الروائي المشهور جداً يتحدث بنرجسية مازحة، لا تخلو من حقد، لم يتفهّم قطيعتي مع أدب خفيف، يشبه وجبات الماكدونالد، على الرغم من شهرة الماكدونالد! عفوا، أين نجيب محفوظ في الحكاية؟ نجيب محفوظ هو الاستثناء العربي. كل الذين انشهروا في العالم، وتُرجموا، حدث ذلك، بسبب علاقتهم مع الغرب. بمحاولة إحصاء الأسماء المشهورة في الغرب، من الكتّاب العرب، يمكننا تعداد الأسماء التالية: أدونيس، آسيا جبار، الطاهر بن جلون، أمين معلوف، فينوس خوري... طبعاً وغيرها. وبمحاولة الحصول على الجذر المشترك في هذه الأسماء، نجد أن أغلبها يقيم في الغرب. كما لو أنه يصعب الوصول إلى القارئ الغربي، إن لم تعش على أرضه، وتتعلّم بعضاً من يومياته، أو تفاصيل حياته، أو ثقافته. لا يعني أبداً، أن هؤلاء يكتبون عن الغرب، بل يكتبون عن العالم العربي، إنما بأدوات الأدب الغربي، بعضهم يكتب باللغة الأخرى، الأجنبية، والبعض باللغة العربية، لكن (الثقافة الغربية) تكاد تكون مندمجة ومتشابكة مع الثقافة العربية. تعلّم أغلب هؤلاء، طريقة التفكير الغربي في الكتابة: التحليل، الرشاقة والوصول إلى الفكرة من دون إسهاب واستطراد، الابتعاد عن الإنشائية اللغوية. طبعاً يبقى هذا الكلام، في العوميات، ولا يمكن أبداً إطلاقه كقواعد ثابتة، إذ يعاني بعض أدب الغرب أيضاً من الملل والتكرار والإنشائية أحياناً. إذن، يصل الكاتب العربي إلى (الآخر) غالباً، من فضائه المكاني. لنكرر: أغلبهم يعيشون في الغرب، ونزيد من الأمثلة: هدى بركات، إيمان حميدان، سليم بركات، راوي الحاج، صموئيل شمعون... لتكون نسبة حظ الكاتب العربي المقيم في الغرب، بوصوله إلى القارئ الغربي، أكبر من نسبة الكاتب المقيم في العالم العربي، مع استثناء لبنان، بسبب السهولة المُتاحة للكتّاب اللبنانيين في الوجود في أوروبا، وانتقالهم من بيروت إلى باريس أو لندن أو برلين، بيُسر وسهولة لا تتوفران للسوريين أو العراقيين أو المصريين مثلاً. نعود إلى الأسماء الأربعة، التابوات، لنجد أن هناك اسمين من عالم الأدب: درويش ومحفوظ. ولنكن شجعاناً ونعترف أن جلّ شهرة درويش جاءت قبلاً من القضية الفلسطينية «شاعر الأرض المحتلة»، وهذا الوصف الملاصق، ليس وصفاً أدبياً، مع التقدير العاطفي لقيمة درويش، التي لا تقل عن قيمة مسعود البرزاني لدى الأكراد أو قيمة عبد الناصر لدى القوميين العرب. إلا نجيب محفوظإنه كل تلك الاستثناءات: لم يعش في الغرب، وثقافته عربية مصرية خالصة، ولم تحمله قضية سياسية، ولم يكن صوتاً لحزب أو جماعة، لكنه لم يصل إلى الغرب فقط، بل إلى نوبل. لماذا؟ لماذا تجاوز نجيب محفوظ كل تلك الحواجز بين الثقافتين، ووصل إلى الآخر؟ الجواب بسيط جداً، وساذج، وصادم. لأنه مبدع. استطاع محفوظ بموهبته، وحسّه النقدي وتأثير الفلسفة عليه، الفلسفة التي درسها أكاديمياً، من امتلاك صوته الخاص، وإنتاج أدبه. أنا لا أستمتع بنجيب محفوظ. أنا مهووسة بكونديرا وساباتو ونيتشه وكافكا، لكنني أنحني باحترام أمام قامة نجيب محفوظ، لأنه وصل بنقاء أدبي، وموضوع الذائقة قابل للاختلاف. محفوظ تجاوز تابوات طويلة في الأدب العالمي: سلمان رشدي، محمود درويش، وغيرهما، ليذهب بكتابة مصرية خالصة، حاملاً الأدب المصري الاجتماعي السهل «من وجهة نظري»، إلى محافل العالم. هذا هو الإبداع، الخروج عن المتوقع، الاستثناء. كم سنة على الأدب العربي انتظار استثناء جديد، لا يمت للسياسة بصلة، ولا لقضايا غير الأدب، تزيّن سمعة الأدب. وإن كان البعض يتهم نوبل بالتحيز السياسي، إلا أن اختياراتها الأخيرة «موديانو» تقول إنها انتقت الأدبي، الأدبي المحض. وكذا محفوظ: إنه الأدب فقط. يمكننا التحدث إذن عن درس نجيب محفوظ. هناك الكثير من التأويلات في العالم حول المؤامرة، والتي قد يصحّ بعض عناصرها. هناك مؤامرات في العالم، تحجب إبداعاً ما، وتُظهر إبداعاً أقل، ولكن المبدع الحق، يتجاوز المؤامرات، ويفرض إبداعه. هذا لا يعني أبداً أن نوبل هي المقياس للإبداع. لكنها الفرصة على الأقل. فرصة لتعلّم الدرس. من المؤكد أن نجيب محفوظ لم ينتظر نوبل ذات يوم، حتى أنه فوجئ حين علم بها، وكان الخبر نهار الخميس، اليوم الأسبوعي للقائه مع أصدقائه (الحرافيش)، وكان استثناء ذلك النهار، لا نوبل فقط، بل تأخّره على اللقاء بربع ساعة. إنه استثناء محفوظ، ودرس محفوظ الذي يمكن لأي إنسان في العالم الاستفادة منه: لا تنتظر من عملك.. اعمل فحسب! لأن نجيب كتب ولم ينتظر، عكس الذين يكتبون وينتظرون، ويُفجعون بمجانية الانتظار. إنه استثناء نجيب محفوظ، أن تحبه، حتى وإن لم تنتمِ لمدرسته الأدبية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©