الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سويحان.. «ساح الماء»

سويحان.. «ساح الماء»
24 فبراير 2016 02:30
محمود عبد الله تضاريس الصحراء تتجسد أمامك على الرمال الذهبية، بهذه الصورة ندخل إلى «سويحان» إحدى بلدات مدينة العين، التي تبعد عنها نحو 73 كيلومتراً، وعن العاصمة أبوظبي نحو 120 كيلومتراً. أهلها خليط من السكان الإماراتيين والعرب، إلى جانب عدد قليل من الهنود والآسيويين. وتذكر بعض الدراسات التراثية، أن تسميتها بهذا الاسم تعود إلى مئات السنين، وأن أرضها كأي صحراء كانت جرداء خالية من الماء والزّرع، إلى حدّ أن البعض ربط جغرافيتها بتضاريس الصحراء، لما تتمتع به من تموجات الرمال الذهبية الساحرة الممتدة، إلى أن تمّ حفر بئر فيها أطلق عليها «ساح الماء»، أي انتشر الماء في أرجائها، فسميت إثر ذلك بـ«سويحان» ثمّ دبّت فيها الحياة مع خروج الماء باعتباره مصدر الرزق الأساسي لحياة سكانها وإبلهم. شجن وحنين «سويحان» اليوم تحفة صحراوية تجسّد اندماج الإنسان بالطبيعة ومكوناتها، ما جعلها أثيرة لدى الزوار والسياح ومحبي اكتشاف الجمال المدفون تحت وفوق الكثبان الرملية. ما يعيدنا إلى التاريخ، يوم أن كانت الصحراء بعالمها مصدراً فريداً لإلهام شعراء المعلقات، وفي يومنا هذا تبدو ملهمة لشعراء سويحان الذين يحلو لهم نظم قصائدهم في مسحة الجمال الصحراوي الخلاّب، فهنا مشهد يومي بديع متكرر لقوافل الإبل التي تجوب المكان، مجتازة الرمال الذهبية، ولرغاء الإبل وهي تتهادى على فرش الرمل في الصحراء، صدى يردد مواويل البدو ومعزوفات الريح والليل وأغنيات الرعاة منذ فجر التاريخ، تدندن في صمت المكان، وتبعث ترتيلات الروح ترنيمات في جنباته، يقودها «الحادي» بصوته المرتفع وغنائه، فإذا سرّع في إيقاعه زادت سرعة الإبل، فيما ترافق أنشودته التي تتردد في اتساع الصحراء مفردات عن وحشة السفر والحنين إلى الأهل والوصول إلى المُبتَغى، ومن ذلك ما يستحث به الحادي الإبل كي تستمع إلى صوته كقوله: «جلاجلٌ في البيد شجية التغريد كرنّة الغريد في الفنن الرطب أناح أم غنّى أم للحمى حنّا». وقيل في الروايات أن الغناء للإبل عرف باسم «التدوية» ويجتمع المؤرخون ورواة أخبار البادية أن التدويهة هي الأصل والبداية لكل أنواع الحداء، كما أن هناك نوعين من الحداء: «حداء الإبل»، و«حداء الخيل»، وكلاهما من بحر الرَجز، وسمي رجزاً نسبة إلى رجز البعير، لكنه مع الوقت تطور ليصبح فناً شعرياً غنائياً معروفاً في سائر أنحاء البوادي العربية، ومن ذلك نفهم أن هذا المكان «سويحان» يحظى بتنوع يمنحه خصوصيته وجمالياته حتى في رماله وجفافه وسمائه الصافية واتساع فضائه على ثقافة لها إيقاعها الخاص، ومن ذلك أيضاً وجود أنواع نادرة من الحيوانات والنباتات والأعشاب والأشجار والطيور، والتي استطاعت بفضل الفطرية والطبيعة أن تتأقلم مع المناخ الصحراوي، وأن تؤسس لنفسها حياة لها أسرارها وخفاياها التي يجهلها الكثيرون. أرض التراث يقوم المكان في «سويحان» على ثلاث مفردات، أولها: إنسانها، حيث خصوصية حياة سكانها التي تقوم على تربية الجمال والماعز، لكنّ اعتمادهم على الإبل يختلف قليلاً عن تلك التي يتبعها البدو الرُّحل، ففي وسط الصحراء تُربّى الجمال لسببين: الغذاء المباشر (الحليب واللّحم) والبيع، حيث تشكّل الإبل عصب حياتهم ومجال اهتمامات السّكان اليومية، وهي، إذ ذاك، المركز الذي تدور في فلكه أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والثّقافية، وهي علاوةً على كلّ ذلك، مدعاة للفخر وأساس لقوّة القبيلة ومنعتها واتّساع نفوذها. وثانيها: احتفالها الشعبي السنوي بمشهدها الثقافي، إذ تنفرد في شهر فبراير من كل عام، بتنظيم «مهرجان سلطان بن زايد التراثي» الذي وجّه بإقامته منذ مطلع التسعينيات سمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان، ممثل صاحب السمو رئيس الدولة، رئيس نادي تراث الإمارات، لتكريس مشروع يقوم على تعزيز ثوابت الهوية الوطنية، والموروث الشعبي، ضمن 100 فعالية، تراثية وفنية وثقافية، مخصصة لإحياء تقاليد الشعر الشعبي، وعروض المسرح المحلّي، والندوات ذات الصلة بثقافة الصحراء، أما الجمل العربي، فهو أيقونة مدينة سويحان، وبه تقام مسابقات لجمال الأصايل من المحلّيات (المزاينات) وسباق الإبل التراثي، والفرح عند البدو من دون سباقٍ لا يُعَد فرحاً! فالأعياد والزّواج والختان وعودة الغائب مظاهر فرحٍ لا تكتمل إذا لم تصاحبها عروض للجِمال تُصاحبها التّغاريد، إلى تقديم ألوان من الفنون والرقصات الشعبية، التي تقدمها فرق محلية متخصصة في فنون الحربية والعيالة والفلكلور في إطار لوحة فنية رائعة تجمع بين التراث والثقافة والفن والشعر والأدب، وثالثها: فضاءات سويحان الصحراوية الجاذبة باعتدال مناخها لهواة رياضة الصيد بالصقور، وتعتبر رحلة السفاري في صحراء سويحان مطلب السياح الأجانب، وحرصهم على زيارة التجمعات البدوية والالتقاء بالسكان من أبناء البادية الذين لا يزالون يحافظون على العديد من أنماط الحياة التقليدية المتوارثة والتعرف إلى نمط حياتهم وكيفية العيش في هذه الصحراء مترامية الأطراف، ما يؤهل «سويحان» لتلعب دوراً رئيساً في تدعيم القطاع السياحي في الإمارات، إلى جانب ما تسهم به سوق بيع وتجارة الإبل والمواشي، من تعزيز دخل الملاك والمربين، حيث تحتل هذه السوق مكانة بارزة في البلدة على المستوى التجاري والتجمع الإنساني. إن اختيار مدينة سويحان كموقع لإقامة مهرجان تراثي ثقافي ضخم يمتد لنحو ثلاثة أسابيع، وغيره من المهرجانات التراثية والرياضية المخصصة للهجن العربية، لم يأت وليد صدفة، فغير أنها الفضاء الأثير لثقافة صحراوية مغايرة، فإنها تحفل بالعديد من ميادين السباقات، والمزارع، والعزب المخصصة لإكثار الإبل، باعتبارها العصب الرئيس لهذه النشاطات، إلى جانب أهلها وثباتهم على مقومات هويتهم وموروثهم، الذي يعيد لنا سيرة ومسيرة الآباء والأجداد بصورة حضارية، ولهذا العديد من الدلالات حيث تشتهر المدينة بانها وجهة سياحية للنشاط التراثي لأبناء الإمارات لما تملكه من مقومات وأسواق شعبية ومرافق ومواقع جذب سياحية إضافة إلى احتضانها سنوياً للكثير من الفعاليات التراثية والمهرجانات المحلية، مما يؤكد عراقة ماضيها وحاضرها الذي ينعم فيه الزائر بروح البيئة العربية الفريدة. بلدة عصرية إن أول ما يلفت نظر الزائر إلى مدينة سويحان، هو مدخلها الذي يجعل منها واحة مظللة على الجانبين بأشجار النخيل وأنواع أخرى من الأشجار التي تصل في مجموع المنطقة وما حولها، حسب الإحصائيات الرسمية، إلى نحو 12 ألف شجرة، مشكلة خريطة من الألوان الطبيعية، التي تبعث على الراحة والسكينة وشغف الاكتشاف، وصولاً إلى أن ميدانها الدائري ذي تصميم يستفيد من عديد المفردات التراثية المحلية، ثم إلى قلب المدينة المختبئة خلف سلسلة من الكثبان الرملية، التي يسهل على قوافل الإبل اختراقها، إلى جملة من المحال والدكاكين الصغيرة المتراصة على طول الشارع الرئيسي، وتعرض منتوجات ذات صلة بزينة وغذاء الإبل، وأنواع فريدة من العسل الطبيعي والعطور المحلية، وتحف تذكارية تعرّف بالإمارات، وتظل ثنائية الإنسان والإبل، ممتدة إلى التصميم المعماري لبيوت ساكني المدينة، وهي ذات طابق واحد، مبني من «الطابوق»، وقد شيدت وفق طراز العمارة التقليدية، فيما ينتشر في المكان عدد قليل من البيوت ذات طابقين، وبعض القصور الفخمة المبنية وفق طراز العمارة الحديثة من حيث التصميم المعماري والمواد، مع لمسات تراثية، حيث تلتصق بالبيوت الخيام وبيوت الشعر، التي يتخذها أصحابها كمجالس تراثية، غرض جلسات السمر والأحاديث الليلية، وقريب منها سلسلة من «العزب» الخاصة بمبيت وتربية وإكثار الإبل، وهي مصممة على شكل مستطيل من شباك الحديد، تظللها أسوار مبنية من الطوب المحلي، وبعضها من الطين انسجاماً مع مكونات البيئة، إلى ذلك تنتشر في المكان مجموعة كبيرة من «العزب» المتخصصة في زراعة نباتات الرودس والقتّ، الطعام المفضل للإبل. كرم حاتمي ما زالت مظاهر الكرم العربي عند أهل «سويحان» موضع اهتمام وتقدير، ومن ذلك انتشار مجالس الضيافة، ويقيمها نخبة الوجهاء من كبار ملاك ومربي الإبل، ومنهم: خميس الشدّي، سهيل حمد عنودة العامري، علي سالم عبيد هياي المنصوري، راشد علي بالنص المنصوري، وغيرهم، وتخصص هذه المجالس لاستقبال الضيوف والشعراء وكل عابر سبيل، حيث تنحر الجمال الصغيرة «الحوار» وتقام الولائم، وتزدهر فيها ثقافة الصحراء في أشكال من أداء الشّلات البدوية، وعروض عازف الربابة، وقصائد الشعر الشعبي، والمسامرات والحديث في الشؤون الشخصية والمحلية، وتقديم العون لكل محتاج، سيراً على نهج حياة الآباء والأجداد، في إحياء مظاهر التكاتف والتراحم، لتعرف في نهاية المطاف أن «سويحان» اليوم قد أضحت من أهم مناطق المنطقة الشرقية في تحقيق معادلة الأصالة والمعاصرة، رغم ارتباطها القوي مع ماضي الآباء والأجداد وتراثهم، حيث تتوفر فيها كل مقومات المدينة العصرية من بنية تحتية أساسية لازمة كالمدارس والمركز الصحي ودائرة البلدية وفروع مؤسسات الماء والكهرباء والاتصالات والبنوك، بالإضافة إلى مركز شرطة وإطفاء وقاعة أفراح، بالإضافة إلى المركز الوطني لبحوث الطيور باعتباره أحد أهم مراكز بحوث الطيور في الدولة، والذي تأسس في عام 1989م ويعتبر أول مركز متخصص في إجراء البحوث والتجارب المتعلقة بإكثار الحبارى الآسيوية، والذي باشر العمل بطاقته الكاملة في العام 1993م، الأمر الذي يجسد حرص واهتمام القيادة بالبيئة أولاً وبماضي الآباء والأجداد ثانياً. وكل من تطأ قدماه أرض هذه المدينة يشعر بأنها نجحت في مزج الماضي العريق للأجداد بالحاضر الزاهر للأبناء في لوحة فنية رائعة، تعجز حروف الضاد عن التعبير عنها. أثر «زايد» ما يتذكره أهل هذه البلدة الوادعة في حضن الصحراء جهود المؤسس المغفور له بإذن الله، تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (طيب الله ثراه)، فقد كان أول من اهتم بالمنطقة الشرقية عموماً وسويحان على وجه الخصوص، حيث أصبحت المدينة بعد ذلك، وبفضل توجيهات القيادة، واحة للتراث بكل أشكاله ومركزاً لأفضل سلالات الهجن العربية الأصيلة، وأن وجود «العزب» المخصصة لتربية وإكثار الإبل وتجهيزها للمزاينات «جمال الإبل» والسباقات التراثية، أعطى للمدينة أهميتها وخصوصيتها، في رعايتها، والمحافظة على المفردات التراثية المرتبطة بها من مجالس تراثية وشعرية وضيافة وثقافة صحراوية ذات صلة ببيئة وهوية المكان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©