الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العنف والمقدس

العنف والمقدس
24 فبراير 2016 02:31
محمد سبيلا من أبرز النظريات الأنثروبولوجية حول العلاقة بين العنف والمقدس نظرية الأنثروبولوجي الفرنسي روني جيرار R.Girard الذي رحل عن عالمنا قبل أسابيع. المحاور أو المداخل الرئيسية لهذه النظرية هي: العنف والمقدس - الآخر - الرغبة - التنافس – المحاكاة... تتضمن هذه النظرية مصادرة أساسية حول ماهية الإنسان، أو الدافع الأساسي للسلوك الإنساني، وهو الرغبة Desir، فالفرد والجماعة كلاهما تحدوهما الرغبة في الإشباع، إشباع الحاجات، لكن الرغبة مرتبطة بالتنافس أو بالمحاكاة وبالآخر، فالفرد يرغب في شيء أو في موضوع إشباع معين لا لأن الرغبة نابعة من ذاته، بل هي في مقام وسط بينه وبين الآخر. الذات لا ترغب في شيء أو في موضوع إلا لأن هذا الشيء أو هذا الموضوع هو محط رغبة الآخر، فأنا لا أرغب إلا فيما يرغب فيه الآخر، فشعوري بالرغبة ينبع من تنافس مع الآخر، وبالتالي من تقليد أو محاكاة الآخر. العلاقة الأساسية بين الناس في المجتمع هي إذن علاقة التقليد أو المحاكاة، والمحاكاة إما أن تكون محاكاة تعاون أو محاكاة تنافس، فالمحاكاة التي تقود إلى التعاون هي أساس الإبداع الإنساني وأساس تطور الحضارة والمجتمع. في المحاكاة التعاونية يكون موضوع الرغبة مشتركاً ومتقاسماً ومحط تعاون وإشباع لجميع الأطراف، أما في المحاكاة التنافسية فيتحول الآخر إلى عقبة في وجه الآخر وعائقاً له عن تحقيق الإشباع في الموارد وفي الحظوة والسلطة والتملك، وتغذي التنافس آلية المحاكاة التي يتولد عنها العنف الذي يصبح بدوره بضاعة مشتركة، أي ظاهرة اجتماعية عامة حيث يقلد كل فرد عنف الآخر ويعيده إليه. العنف في هذا المنظور ليس معطى بيولوجياً بقدر ما هو اجتماعي، أي دينامية ترتبط بنشأة المجتمع، ولو أن له شروطاً أو جذوراً فردية حيث تتكاثف المحاكاة ويشتد التنافس من أجل تملك موضوع الرغبة. وعندما يصبح العنف التنافسي دينامية اجتماعية شاملة فإن المجتمع يحاول وضع حد له أو الالتفاف عليه لتغيير مساره ومراقبته وصبه في قنوات تؤطره وتحتويه. الوسيلة التي «بلورتها» المجتمعات البدائية من أجل الحد من فورة العنف المحاكاتي الشامل هي تقديم أو ذبح أضحية بريئة، وهذه الأضحية هي عملية القتل الأساسية المؤسسة للمجتمع وللثقافات والبنيات الرمزية. تؤدي الأسطورة -في نظر جيرار- دوراً اجتماعياً أساسياً في مسعى إيقاف العنف وفي الحد من آلية تجدده، فالأسطورة هي ثقافة المجتمع الأوّلي أو البدائي، أي هي ما يتضمن معرفة أو علم ذلك المجتمع من حيث أنها تقدم تفسيراً للكثير إن لم يكن لكل الظواهر الطبيعية (زلازل-براكين-حرارة-برودة- ثلوج...) والاجتماعية (الزواج-الأعياد)، والبيولوجية (المرض-الشيخوخة-الموت..)، وغيرها عبر حكايات تحكى عن الأجداد والأوائل والحيوانات... كما أنها تحدد ما ينبغي أن يكون وما يتعين فعله عبر طقوس متنوعة. فالأسطورة هي علم ومعرفة وأخلاق وقانون وتنبؤات بالغيب وبالمستقبل القريب والبعيد في المجتمعات البدائية، وبما أن الأسطورة هي الثقافة الشاملة للمجتمع البدائي، وهي التي تحمل وتسند «رؤية العالم» لهذا المجتمع، فإنها هي مصدر الشرعية أو المشروعية السياسية، فالحاكم وطاقمه أو أسرته يستمدون وجودهم ودورهم من «حكاية» أسطورية قد لا تكون خاصة بالمجال السياسي، بل غالباً ما يكون هذا الأخير جزءاً منها. الوجه العملي للتصورات الميثولوجية هو منظومة الطقوس العملية اليومية، وهي أداءات تشمل مختلف وكل جوانب الحياة الاجتماعية. المحور الأساسي في المعتقد الأسطوري وفي ممارساته الطقوسية هو عملية التضحية المتمثلة في تقديم قربان أو أضحية، وهي العملية المحاطة بالكثير من الهالة التي قد تبلغ حد التقديس وجوهر هذه العملية هو إحلال التضحية بالحيوان محل التضحية بالإنسان أو إحلال الدم الحيواني محل الدم الإنساني. إلا أن ظهور الديانات كان هو العامل الحاسم الأهم في سيرورة إطفاء العنف وجدولته في مسارات أخرى، ولعل الدين هو إحدى العلامات التاريخية الكبرى التي ارتبطت وساهمت في نقل المجتمعات من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة، أي إلى وضعية أكثر عقلانية في تفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية، وضعية يتم فيها إحداث انسجام وتناسق أكبر داخل الجماعات بالاعتماد على البعد التصوري الميتافيزيقي المتعالي، وعلى نظام جزائي باستخدام مفاهيم العقاب والثواب والجزاء.. وكذا على البعد الأخلاقي المتعلق بالسلوكات والمعاملات مع تباين موقف الديانات من البعد السياسي. صحيح أن ظهور الديانات هو حدث مهم في التاريخ السلمي للبشرية بحيث سيصبح الدين هو جوهر الثقافة إلا أن الديناميات والصراعات الاجتماعية يمكن أن تسمح باندلاع موجات نوعية جديدة من العنف الداخلي أو الخارجي التي قد تجد حلولاً لها في النصوص التراثية المؤسسة وقد لا تجد. لن أستطيع عرض كل مفاصل هذه النظرية هنا لكن لنحتفظ بالفرضية الأساسية المتمثلة في أن المثال الديني يتضمن محاولة متميزة لتأطير وتهدئة الصراعات والانتقامات بين الناس أفراداً وجماعات عن طريق حل مسألة العنف بتأجيلها وإرجائها وإعلائها بإحالتها على مستوى فوق إنساني وغير دنيوي، وبتحويل الرغبة والإشباعات والانتقامات والجزاءات من مستوى آني (هنا والآن) إلى مستوى مؤجل، أي إلى سلطة أعدل لأنها سلطة أسمى وأقدس، لكن بغض النظر عن الانتقادات والتقييمات المختلفة لنظرية جيرار، وأغلبها يتركز في أن نظريته قد ركزت على علاقة المقدس عامة بالعنف وأبرزت دور الدين (وإن بخلفية يطبعها المعتقد المسيحي) في الحد من العنف، فإن علاقة المقدس بالعنف ذات وجهين، فالمقدس استطاع عبر آليات التضحية والفداء والتسامي بالجزاءات والضغط الأخلاقي... وصهر الجماعات بالانتماء إلى قيمة عليا إلا أن السيرورات الاجتماعية قد أفرزت آليات أخرى معاكسة أحياناً، حيث تولدت شقاقات مع جماعات أخرى مخالفة لها في الاعتقاد، وانشقاقات داخل الجماعة نفسها بسبب موضوعية الصراع والتنافس الاجتماعي حول الخيرات الرمزية وحول الخيرات المادية وحول السلطة والحظوة، مما يعني أن دورات أو آلية العنف والصراع تعاود دورياً الحضور في المجتمع، وتتطلب جهداً فكرياً وأيديولوجياً مستمراً، لمراجعة وتحيين العديد من التصورات والوصفات الأخلاقية والاجتماعية المؤطرة للمجتمعات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©