الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بمسمار وفتيل حِكت قماشة السفينة

بمسمار وفتيل حِكت قماشة السفينة
14 أغسطس 2013 19:44
في البقعة الواعدة، صغت قلادة الحبل بأنامل من حرير، ونسجت مخمل الحياة ما بين اللوح واللوح، وأسرجت جواد البحر، متعافياً بالعزيمة، مددت الساقين الأسمرين، محتوياً المنشار بيد كأنها النجمة في خضم الصرير المتعالي.. أشعلت السيجارة تحرق رماد الأيام، وتطفئ لوعة الحر، عند الظهيرة المصهدة. عبد الرحمن النجار.. بشهامة القابضين على الحلم، كنت تحاور السفينة المسجية على قوالب الخشب وتقيس بمعيار الخبرة والعبرة، وما تعلمته من أيام المغامرة والمثابرة لكسر حاجز العازة، وأهداء البحر الأغر ما فازت به القريحة.. كان يقول أحدهم: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، ولكنك كنت تقول: لا عصمة لمن لا يعرف معنى البحر وماذا توشوش الموجة الصارمة.. كنت وحدك تحدق في باطن الألواح وتستغرق وقتاً كي تضع ما بين الخشبتين فتيلة الدرء، ومسمار الحماية.. كنت يا سيدي سيد التشذيب والتهذيب والترتيب، والتوضيب، بعدما تشربت يداك من عرق «الصل» ولزوجة «الودك» صرت أنت المعلم، في صياغة أحلام من تسربوا في الماء كأسماك القرش، وخاضوا العباب، بصراحة الأوفياء، وجسامة النجباء وشهامة النبلاء.. كنت هنا في تلة المعيريض، في مواجهة البحر تحاور الموجة بجزالة النابغين، وتبوح بما جاش به الخاطر.. إنك الصائغ والنابغ والبالغ بلوغ الفلاسفة والعرافين، تعرف كيف تسن شريعة المراكب وكيف تبلغها بلاغة أن السباحة في الماء المنصهر حرقة وجهامة. تحاور البحر، وتنظر إلى السفينة الناشئة تواً، تقول لها، هذا هو البحر، في أحشائه الدر، وفي باطنه أعظم الخطر، الذين لا يجيدون العوم، يدفعون أعمارهم ثمناً، لذلك كنت تمعن النظر، وتدقق وترقق وتتدفق أنت في سم الخيَّاط، وتغوص في بحر معرفتك، حاسباً محتسباً، مكتسباً، مسبحاً في تجاويف الباطن والظاهر.. كنت وكأنك ترسم خارطة لطريق، في البحر وما بين الموجة والموجة، كانت سفينتك التي أعليت شأنها تقفز نظراً له في غابة متوحشة يطاردها، كائن أسطوري.. كنت تحذف النشارة، لتذروها الرياح في عيون الحاسد، والحاقد، وكنت تبسمل عندما كان «الرندة» تمارس حق السحل والتمليس، كانت تفعل فعل الإزاحة، والإزالة، وصقل اللوح، بإجادة الأنامل، الواعية، عندما يصير الصرير في أذنيك موسيقى كونية، يعزف معها قلبك الكبير لحن الوجود والحياة البهية.. كنت يا سيدي بسمرة الصحراء، وجَلَدْ البحر، تعكف كصوف عند دكة التحليق في سماوات التأمل كنت تقطف من الألواح، لحمها الناجز وتقذفها في قمامة النار، لأجل يلتقطها من يبحث عن سنبلة التنانير لغرض موائد الظهيرة. عبد الرحمن النجار.. أنت الكائن الأسطوري.. عرفت الحقائق النبيلة الأربع.. حقيقة الألم وحقيقة أصل الألم، وحقيقة وقف الألم، وحقيقة الطريق إلى وقف الألم، وسرت في الحياة، باستعداد فريد، لأجل سعادة بلا ألم، لأنك أوضحت في البدء كيف تكون الحياة، معافاة مشافاة، من ألم تهزمه السعادة، عندما تكون المهنة حرفة للتأمل والتزمل، بإرادة القوة، وتجميع عناصر الطاقة لكسر، هوة الفراغ الوسيع، وردم فجوة الهاجس الفظيع. أنت يا سيدي أغرقت المكان، بمشاعر الحب، لأنك أحببت اللوح وشممت في رائحة الفتيل، شعرة النجاة، فأجزلت في صياغة قصيدة الحياة، من قافية لا تزل، ووزن لا يخل وأبيات مستقيمة بصورة اللوح المصفوف كأنه أسنان المشط، وكأنك الراصد لنجوم السماء عندما ترسل بصيصها للأرض مؤذنة بسفر المراكب واجتهاد البحارة، لأجل غوص ثري وسلال لا تغيب عنها اللآلئ المجردة من تراب الأعماق الغزيرة.. أنت يا سيدي قبل أن ترحل أودعت المكان، وعلى صفحاته تاريخ مجلل عبق السفين، ولون البريق على سارية المركب المهيب. أنت.. أنت النبيل في حرفة من أيقنوا أن البحر لا يغسل ملحه إلا الأجساد المكتوية بالهاجس اللذيذ، ونعمة الحب، لماءً حفر شطآنه بأظافر من مخمل الديمومة القصوى وصيرورة الذين صاروا شيئاً من ماء القلب وشيئاً من دم الجسد، وشيئاً من مناخ الروح.. أنت في البعد التاريخي أعددت جيلاً طيب الأعراق من سفن المنكوين ومن مدن البقاء. عبدالرحمن النجار.. في ذلك الزمان يوم كان الإنسان إنساناً، ينجز مشروعه الحضاري، بأداة العقل، وآلة الإصرار، كنت يا سيدي الفيلسوف المتأمل في خبايا اللوح، كنت المراهن عن دراية كيف يقبض الإنسان على مصيره ويحمي العمر من الزوال، كنت على يقين من أن السفينة، هي البحر الحقيقي الذي تسبح في جوفه أسماك الروح، وتقطف من ثمرات الحياة، ما يجعلها حية وحيوية، كنت على ثقة من أن السفينة النجمة التي من خلالها يجد الإنسان طريقه إلى الحياة، متوكئاً على عصاها لينشق البحر، ويفسح طريقها إلى آفاق الأسفار البعيدة .. كنت تعرف جيداً أنك وأنت تشرع في وضع أول لوح على ظهر الأرض، فإنك تعيد صياغة شكل الحياة لتملأ فوضويته، بصرير يمنع عنك الخوف من المباغتة الرهيبة، كنت على ثقة من أن سفينتك المجهزة للإبحار، هي كوكب جديد نكتشفه وعلى ظهره، أفلاك وشهب، وصخب وصحب، ونجب.. كنت على ثقة من أن السفينة التي تضع أجنحتها على بساط الريح، هي الشجرة النبيلة، التي سترخي بظلالها على الكون، وتهدي الآخرين سماحة الله، وقدرته على العطاء.. كنت يا سيدي في البدء والنهاية الناحت في جذور الوجدان، تسطر نونك والقلم بالأحمر القرمزي، لرؤية المستقيم القويم، في عروق اللوح، كنت في البدء والنهاية الناظم، لمقومات الفرع الأصيل، في وجدان اللوح، في أحشاء المبهم، عندما تكون السفينة لمجرد، فكرة تداهم الرأس وتفرك جفون الليل، لكي يطلع الفجر بلا هواجس مقلقة. في دهماء الليل وعلى فراس القيظ المبلل بعرق الحرارة اللاهبة، كنت تفكر، وتبصر، وفي بالك تخطر النبوءة، وما يمكن أن تكون عليه السفينة المشروعة، وفي الصباح، وبصوت جهور تنادي الصبي المعادن، أن يعد العدة، ويبذل ما في الجهد من طاقة، كي تسرج الجديد، وتبدأ في كتابة أول سطر على رمل الذاكرة، تحرج الآخرين بنظر الفخر كونك أوصلت الفكرة إلى حيز التنفيذ، وجاز لك أن تقول إنك بعد حالة التأمل، وصلت إلى اليقين وأن السفين بات على مرمى من البحر وبتَّ أنت عند حافة البدء في الصياغة.. وببلاغة النبهاء كنت تحصد الأرواح، وتحصي عدد المسامير، وتفشي السر للفتيل، أن ما بين اللوح واللوح يقطن الإلهام العجيب.. فتبدأ ومع تبدأ الفكرة تجدل خصلات معرفتك، ونخوتك وصبابة القلب المولع في الرائحة الزكية.. كنت يا سيدي، في حالة الضجيج القصوى تجلب ما جاش في الفكرة، وتستدعي جل قدراتك لكي تهدي العالم، جديداً يضاف إلى البحر ما يحتاجه الصيادون والغوّاصون، وروّاد العباب البعيدة - في ذلك الزمان، وفي معيريض، لم يكن سواك، الحاطب في غابات السفن، الصاخب في فضاءات القرية النبيلة، والناقب والثاقب والسارب، والمنقب في جيوب الحلم، وأسئلتك البعيدة في رحلة البحث عن الحكمة.. وحدك، الذاهب في الفطنة نحو غايات المرآة الصافية، ولمعة الصحوة المباركة وشمعة الشجرة الوارفة وهذا ما قادك في بسط نفوذ الفرادة، والإجادة، وتطويع الزمن، كما هو السجل عندما تطويه القدرة الفائقة.. أنت يا سيدي.. المنوال والموال، والسؤال الذي بات يحشر مفرداته في غيهب الأفق، بت أنت في غيابك حاضراً كموجة، ترتل آيات وجودها، في هدأة الليل الطويل.. أنت يا سيدي الحوار الأزلي المسكون بالتألق بت كغصن يهفهف على أعشاب القلب، بت أنت جناح يرفرف معتلياً سُلم السماء، معانقاً سحابات الفيض الإلهي، أنت ولا سواك، في التاريخ، تضاريس تضع سهولها بساطاً أخضر يرقرقه ماء الانتماء إلى هذه الأرض المضيئة.. أنت ولا سواك، المضاء بالذكرى الطيبة كبيرق مضيء يفضي ببياضه، نحو أفق الذاكرة يخصبها بالمآثر والمناقب، وما تجلت به القريحة الفريدة. عبدالرحمن النجار.. كما قال الفيلسوف الإغريقي العظيم بروتا غوراس، الإنسان مقياس كل شيء، وأن المقياس والمتراس والإحساس المؤزر بشيمة وقيمة ونعيم الفطرة المبجلة، أنت في الرواية، عبارة منفوحة بعطر المفردات الأصيلة، أنت في الحكاية، رجل بث وحث، ونبتت من أصابعك، أعشاب الخلود لنجوم لم تزل تمخر أحشاء البحر، بجرأة الصامدين أنت المسافة ما بين الحقيقة والخيال أنت الانثيال في الرأس، كأنك حلم وقع البارحة، على ورقة العقل، فاخضرت وأينعت، ويفعت وسمقت وتسامت وتعالت، وجاهرت في التحليق حتى تعبت السماء من حملها فحبلت مطراً غزيراً، فاضت به وديان الروح، وامتلأت به سهول النفس، فما كان من القلم إلا أن يغمس شفرته في حبر النماء، لتبدو الكلمة أشبه بالشجيرات الطالعة تواً، تتنفس رائحة الغائبين لعلّ وعسى يكون لحضور الكلمة شكلاً من أشكال، الحشر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©